لماذا لن تنجح “الثورة المضادة” الخليجية؟

– I –
أشرنا بالأمس إلى أن أصحاب القرار في دول الخليج لم يضعوا بعد يدهم على طبيعة التحولات التي تجري هذه الأيام في المجتمعات العربية، وهذا مادفعهم إلى شن ماوصفه المحلل البريطاني مايكل بيل بـ"الثورة المضادة".
إذ هم يعتقدون أن الصراع فيها قصر على التلاوين المختلفة من الإسلام السياسي، بحيث يكفي تغليب لون ماقريب من إسلام أولي الأمر الخليجيين (على غرار أطراف محددة من السلفيين) بدعم من المؤسسات العسكرية- المخابراتية العربية، على الإسلام السياسي (للأخوان المسلمين مثلاً) حتى يستتب الأمر لهم.
بيد أن الصورة قد لاتكون على هذا النحو.
صحيح أن ثورات الربيع العربي أسفرت عن وصول قوى الإسلام السياسي إلى السلطة، لكن هذا كان مجرد "صدفة تاريخية" إذا ماجاز التعبير. إذ أن هذه القوى "صدف" أنها كانت الأكثر تنظيماً وتمويلاً حين انطلقت الثورات بسبب عجز الأنظمة السلطوية السابقة عن قمع مساجدها وتكاياها ومنظماتها الاجتماعية غير الدينية، فقطفت ثمار هذه الثورات.
لكن، وبعد أحداث 30 حزيران/يونيو في مصر، يتبيّن الآن بجلاء أن هذه الثورات أعمق بكثير من مجرد انتقال السلطة من يد إلى يد. فهي ظواهر معقدة للغاية يتربع على رأسها صراع طبقي من نوع جديد لم تعهده المنطقة العربية من قبل، جنباً إلى جنب مع صراع الحداثة والتقليد.
السمات الرئيس لصراع الطبقات تمثَّل في نزول ملايين من الطبقة الوسطى والعاطلين عن العمل والعمال إلى الشوارع، بسبب فشل الإخوان المسلمين في وضع الاقتصاد على طريق الشفاء، وتعثرهم في حل القضايا المعيشية الملحة. شعار الإخوان هنا "الإسلام هو الحل"، لم يستطع أن يردع المتظاهرين عن إبداء تظلماتهم حتى في خضم الاتهامات لهم بأنهم "غير إسلاميين". وهذا كان في الواقع تطوراً كبيراً في المجتمع المصري كشف النقاب بشطحة قلم عن تقدم الصراع الطبقي الاقتصادي- الاجتماعي على الصراعات الإديولوجية الدينية.
في تونس، وعلى رغم أن حزب النهضة الذي هو نسخة من تنظيم الإخوان المسلمين، تجنّب الوقوع في العزلة التي سقط فيها إخوان مصر، لايزال هو الأخر عرضة إلى تحديات كبرى مقبلة إذا ما استمر العجز عن وضع الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية الصعبة على سكة الحل. وهذا أيضاً مؤشر فاقع على أولوية الصراع الطبقي على الإديولوجيا.
علاوة على ظاهرة الصراع الطبقي هذه، هناك مسألة لاتقل أهمية كنا قد أشرنا إليها في هذا الموقع، وهي أن المنطقة العربية دخلت طيلة نصف القرن المنصرم مرحلة حداثة لم يعد بامكان شعوبها التراجع عنها. الحداثة هنا، بقيمها الليبرالية، وأدواتها التكنولوجية، ومعاييرها العلمية، باتت نمط حياة لاتستطيع الحركات السلفية أو الأصولية تغييره لا بسهولة ولا بصعوبة. وهذا يعني ان بديل الإخوان لن يكون حلفاء السعودية من السلفيين الوهابيين، بل صيغاً جديدة من التحالفات بين القوى الحديثة والتقليدية، خاصة في حال تراجع الإخوان بعد حين عن نهج المجابهة الراهنة، وسلكوا الطريق الأردوغاني.
وبالمناسبة، صراع الحداثة والتقليد هذا ليس قصراً على دول الربيع العربي. فإذا ما كان الصراع الطبقي يغيب عن المجتمعات الخليجية بسبب ثروات النفط والتراكيب الديمغرافية، فإن صراع الحداثة والتقليد يحتل الأن المرتبة الأولى من بين الصراعات هناك. وبالطبع، وعلى رغم أن التحديث لايعني بالضرورة التوجّه نحو الديمقراطية، إلا أنه شرط لازب لها، تماما مثل شرط نشوء طبقة وسطى كبيرة.
– II –
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
إنها تعني، ببساطة، أن "الثورة المضادة" التي تقوم بها دول الخليج الآن لمحاولة إعادة تشكيل المنطقة العربية على صورتها، لن تكلل بالنجاح، وهذا في الدرجة الاولى لأنها تستخدم أدوات تحليل قديمة لمحاولة تطورات جديدة غاية في الاختلاف في المجتمعات العربية (كما أيضاً في المجتمعات الخليجية نفسها).
لقد حاول د. أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، تطوير هذه الأدوات حين حدد المخاطر في المنطقة العربية على أنها: العنف، وصعود الطائفية، والدور غير الواضح للجماعات الإسلامية السياسية، وتفاقم التدخلات الخارجية من جانب معتدين إقليميين، والأزمة الاقتصادية المتعمقة؛ وأيضاً حين اقترح إجراءات سريعة لخلق الوظائف للشباب ودعم القوى المعتدلة لمنع المتطرفين من ملء الفراغ.
بيد أن هذا التوصيف وتلك الاقتراحات، على أهميتها، لن تكون كافية لا على صعيد المنطقة العربية ولا في داخل دول الخليج.
فالمساعدات الضخمة التي قدمتها دول الخليج لدعم "الإنقلاب العسكري- الشعبي" في مصر، ستكون مجرد فقاعة سرعان ماتتبدد خلال ستة أشهر أو سنة، مالم يعاد بناء الاقتصاد المصري من جديد على أسس إنتاجية تأخذ بعين الاعتبار حيثيات الصراع الطبقي الجديد. أي أن الحل في مصر ليس مالياً خليجياً بل اقتصادياً استراتيجيا.
واستمرار دول الخليج في رفض التحديث السياسي المتطابق مع التحديث الاقتصادي الكبير الذي حدث فيها، عبر الإصلاحات الديمقراطية، لن يمنع التمخضات الكبرى داخل المجتمعات الخليجية، ولن يجعلها بالطبع النموذج الذي يمكن أن تتطلع إليه شعوب الربيع العربي. المَلَكِية المغربية حينذاك ستكون (في حال نجحت المرحلة الانتقالية الراهنة إلى الديمقراطية) هي النموذج، لا السطوة المالية لأموال دول الخليج.
– III –

ماذا الآن عن الموقف الأميركي من "الثورة المضادة" الخليجية؟

سعد محيو

السابق
لامبلي: الجيش اللبناني شريك حيوي للأمم المتحدة وتأخير تأليف الحكومة مثير للقلق
التالي
سوريا الكبرى: من داغستان إلى سينْكيانغ