أحمد زكي سكن قلوب الجماهير

حفل الزمان الجميل بابدعات عمالقة الفن والغناء في عالمنا العربي الى جانب نجوم العالم الغربي فقدموا الكثير خلال مسيرتهم التي كانت في بعض الأحيان مليئة بالمطبات والعثرات. منهم من رحل عن هذه الدنيا مخلفاً وراءه فنّه فقط، وآخرون ما زالوا ينبضون عطاء الى يومنا الحالي.
البعض من جيل اليوم نسي ابداعات هؤلاء العمالقة وتجاهلوا مسيرة حافلة من أعمال تركتها بصمة قوية، وفي المقابل يستذكر آخرون عطاءات نجوم الأمس من خلال الاستمتاع بأعمالهم الغنائية أو التمثيلية، وقراءة كل ما يخصّ حياتهم الفنية أو الشخصية.
وفي زاوية «بروفايل» نبحر في بحار هؤلاء النجوم ونتوقف معهم ابتداء من بداياتهم الى آخر مرحلة وصلوا اليها، متدرجين في أهم ما قدّموه من أعمال مازالت راسخة في مسيرة الفن… وفي بروفايل اليوم نستذكر أهم محطات الفنان الراحل أحمد زكي:

حالة فنية خاصة يصعب تكرارها، صاحب «كيمياء» مختلفة وبراعة في الأداء جعلته يدخل قلب المشاهد العربي، ليكون أستاذ التشخيص في تاريخ السينما المصرية، أخلص لفنه، فكان يهتم كثيراً بالكيف على حساب الكم، لفت الأنظار مع كل دور قدمه، ما جعله يتربع على قمة النجومية وأعماله تشهد له بذلك، فبدأ من «البيه البواب»، حتى وصل إلى «معالي الوزير»، وأدى أدواره ببراعة شديدة وأبهر النقاد بتقديمه للسير الذاتية، التي استحضر بها شخصيات كبار الفنانين والقادة السياسيين الراحلين، أمثال جمال عبد الناصر، أنور السادات، والمطرب عبد الحليم حافظ.

بدايته:
ولد فتى الشاشة الأسمر أحمد زكي عبد الرحمن في العام 1949 بالزقازيق محافظة الشرقية، وهو الابن الوحيد لأبيه الذي توفي بعد ولادته. تزوجت أمه بعد وفاة زوجها فرباه جده، فتعلقت به كلمة يتيم.
حصل على الإعدادية ثم دخل المدرسة الصناعية، ولقي تشجيعاً من ناظر المدرسة الذي كان يحب المسرح، ففي حفل المدرسة تمت دعوة مجموعة من الفنانين من القاهرة، وقابلوه، ونصحوه بالالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، وأثناء دراسته بالمعهد عمل في مسرحية «هالوا شلبي»، إلى أن تخرج من المعهد في العام 1973، وكان الأول على دفعته.
عمل في المسرح وقدم أعمالاً ناجحة جماهيرياً مثل «مدرسة المشاغبين»، «أولادنا في لندن»، «العيال كبرت»، وفي التلفزيون لمع في «الأيام»، «هو وهي»، «أنا لا أكذب ولكني أتجمل»، «نهر الملح» و«الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين».

حياته الشخصية
تزوج من الفنانة المعتزلة الراحلة هالة فؤاد وأنجبا ابنهما الوحيد هيثم الذي شارك مع والده وجسّد شخصية عبد الحليم في بداياته في فيلم «حليم»، لكنه انفصل عن زوجته قبل وفاتها.

نجوميته
لُقّب أحمد زكي بنجم الثمانينات، ونجم مستقبل السينما المصرية أيضاً، وحقق نجاحات منذ أول بطولة له في فيلم «شفيقة ومتولي»، مروراً بأفلام «إسكندرية ليه»، «الباطنية»، «طائر على الطريق»، «العوامة 70»، «عيون لا تنام»، «النمر الأسود»، «موعد على العشاء»، «البريء»، «زوجة رجل مهم»، والعديد من الأفلام التي حظيت بإعجاب الجماهير والنقاد.
طريق صعب ومليء بالإحباطات والنجاحات، قطعه أحمد زكي حتى يصل إلى ما وصل إليه من شهرة واحترام جماهيري منقطع النظير، لقد استطاع أن يلامس قلوب الناس من خلال المسرحية الأولى التي واجه الجمهور بها، وهي «مدرسة المشاغبين»، وكان حوله ملوك الضحك: عادل إمام، سعيد صالح، يونس شلبي، حسن مصطفى، عبد الله فرغلي، وهو التلميذ «الغلبان» الذي يعطف عليه ناظر المدرسة، وقد كتب عنه النقاد بأنه كان الدمعة في جنة الضحك في هذه المسرحية. إن أحمد زكي، الزبون القديم لمقاعد الدرجة الثالثة في دور السينما والمسارح المصرية، لفت الأنظار إليه بشدة عندما قام بدور الطالب الفقير الجاد في مسرحية «مدرسة المشاغبين» الكوميدية الذي يتصدق عليه ناظر المدرسة بملابسه القديمة.
بعد ذلك تنقل من المسرح إلى التلفزيون إلى السينما، وكانت له صولات وجولات في الساحات الثلاث، ولفت الأنظار إليه بكل دور يقوم به… وترجمت هذه الأعمال المتفوقة إلى جوائز، وهنا بدأت الحرب عليه وذلك للحد من خطورته. ومصدر الخطر فيه تحدد في ثلاثة مواقف سينمائية وتلفزيونية: الموقف الأول خلال دور البطولة في مسلسل «الأيام»، فقد قام بدور طه حسين، وعندما أجرى النقاد مقارنة بينه وبين محمود ياسين، الذي قام بالدور نفسه في السينما وحين تجري المقارنة بين من مثل مئة فيلم، وبين من مثل خمسة أفلام ومسلسل، فمعنى هذا أن أحمد زكي قفز إلى مكانة لم يسبقه إليها أحد!
والموقف الثاني برز حين قام بدور البطولة في فيلم «شفيقة ومتولي» أمام الفنانة سعاد حسني، ولا يهم ما قيل في الفيلم أو في سعاد حسني، إنما المهم هو البادرة بحد ذاتها، والتي هي إصرار سعاد حسني على أن يكون أحمد زكي هو بطل الفيلم، والموقف الثالث كان في دور ثانوي، هو دوره في فيلم «الباطنية»، بين عملاقين سينمائيين هما فريد شوقي ومحمود ياسين، حيث ان الجوائز انهالت على أحمد زكي وحده، وهي شهادة من لجان محايدة على أنه، ورغم وجود العملاقين، قد ترك بصماته في نفوس أعضاء لجان التحكيم، بعدها جاء فيلم «طائر على الطريق»، وجاءت معه الجائزة الأولى.
وجد أحمد زكي لنفسه مكاناً في الصف الأول، أو بمعنى أصح حفر لنفسه بأظافره طريقاً إلى الصف الأول، وقد كان العام 1982، هو الانطلاقة الحقيقية لهذا الفنان الأسمر، أما في العام 1983، وخلافاً لكل التوقعات، فقد رأينا أحمد زكي منسحباً عن الأضواء والسينما بنسبة ملحوظة، ليعود في العام 1984 أكثر حيوية ونشاطاً. ومن العجيب أن هذا الشاب الريفي، البعيد عن الوسامة، جاء إلى عاصمة السينما العربية، مفتوناً برشدي أباظة، المعروف بوسامته. فهو ليس في جمال حسين فهمي أو أنور وجدي، ولكنه نموذج عادي لأشخاص عاديين يقابلهم المرء ويتعامل معهم كل يوم في الطريق، كما أن جمهور السينما الذي تغيرت نوعيته، وأصبحت غالبيته من الكادحين، يرون أنفسهم في أحمد زكي، الفتى الأسمر الذي لا يعتني بملبسه ولا يذهب إلى الكوافير لفرد شعره.

النجم الأسمر حكى قصته:
عن حياته الشخصية وعن بداياته في الفن، تحدث النجم الأسمر في إحدى تصريحاته الصحافية: «جئت إلى القاهرة وأنا في العشرين حيث الطموح والمعاناة والوسط الفني وصعوبة التجانس معه، عندما تكون قد قضيت حياتك في الزقازيق مع أناس بسطاء بلا عقد عظمة ولا هستيريا شهرة، ثم الأفلام والوعود والآلام والأحلام… وفجأة وفي يوم عيد ميلادي الثلاثين، نظرت إلى السنين التي مرت وقلت: (أنا سرقت)… نشلوا مني عشر سنوات، عندما يكبر الواحد يتيماً تختلط الأشياء في نفسه… الابتسامة بالحزن والحزن بالضحك والضحك بالدموع! أنا إنسان سريع البكاء، لا أبتسم، لا أمزح. صحيح آخذ كتاب ليلة القدر لمصطفى أمين، أقرأ فيه وأبكي… كما أدخل إلى السينما وأجلس لأشاهد ميلودراما درجة ثالثة فأجد دموعي تسيل وأبكي، عندما أخرج من العرض وآخذ في تحليل الفيلم، قد أجده سخيفاً وأضحك من نفسي، لكني أمام المآسي أبكي بشكل غير طبيعي، أو ربما هذا هو الطبيعي، ومن لا يبكي هو في النهاية إنسان يحبس أحاسيسه ويكبتها. المثقفون يستعملون كلمة اكتئاب، ربما أنا مكتئب، أعتقد أنني شديد التشاؤم شديد التفاؤل. أنزل إلى أعماق اليأس، وتحت أعثر على أشعة ساطعة للأمل. لدي صديق، عالم نفساني، ساعدني كثيراً (في السنوات الأخيرة) ويؤكد أن هذا كله يعود إلى الطفولة اليتيمة، أيام كان هناك ولد يود أن يحنو عليه أحد ويسأله ما بك، في العاشرة كنت وكأنني في العشرين… في العشرين شعرت بأنني في الأربعين. عشت دائماً أكبر من سني.. وفجأة، يوم عيد ميلادي الثلاثين. أدركت أن طفولتي وشبابي نشلا… حياتي ميلودراما كأنها من أفلام حسن الإمام. والدي توفي وأنا في السنة الأولى. أتى بي ولم يكن في الدنيا سوى هو وأنا، وهاهو يتركني ويموت. أمي كانت فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء، فزوجوها وعاشت مع زوجها، وكبرت أنا في بيوت العائلة، بلا أخوة. ورأيت أمي للمرة الأولى وأنا في سن السابعة..، في السابعة من عمري أدركت أنني لا أعرف كلمة أب وأم، حيث انه عندما تمر في حوار أو مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما، أشعر بحرج ويستعصي عليّ نطق الكلمة، عندما كنت طالباً في مدرسة الزقازيق الثانوية، كنت منطويا جداً لكن الأشياء تنطبع في ذهني بطريقة عجيبة : تصرفات الناس، ابتساماتهم، سكوتهم، من ركني المنزوي، كنت أراقب العالم وتراكمت في داخلي الأحاسيس حيث كان التمثيل هو المنفذ، ففي داخلي دوامات من القلق لا تزال تلاحقني، فأصبح المسرح بيتي، رأيت الناس تهتم بي وتحيطني بالحب، فقررت أن هذا هو مجالي الطبيعي، بعد ذلك بفترة اشتركت في مهرجان المدارس الثانوية ونلت جائزة أفضل ممثل على مستوى مدارس الجمهورية، حينها سمعت أكثر من شخص يهمس : الولد ده إذا أتى القاهرة، يمكنه الدخول إلى معهد التمثيل، والقاهرة بالنسبة اليّ كانت مثل الحجاز، في الناحية الأخرى من العالم، السنوات الأولى في العاصمة… يالها من سنوات صعبة ومثيرة في الوقت ذاته، من يوم ما أتيت إلى القاهرة أعتبر أنني أجدت مرتين، في امتحان الدخول إلى المعهد ويوم التخرج.
وأضاف: ثلاثة أرباع طاقتي كانت تهدر في تفكيري بكيف أتعامل مع الناس، والربع الباقي للفن، أصعب من العمل على الخشبة الساعات التي تقضيها في الكواليس، كم من مرة شعرت بأنني مقهور، صغير، معقد بعدم تمكني من التفاهم مع الناس.

أمام الشاشة
تألق أحمد زكي في شخصيات الطبقة الفقيرة البعيدة عن شخصية الأفندي، وراح في كل مرة يقدم وجهاً أكثر صدقاً للمصري الأصيل، واحتفظ بميزة التعبير عن الإنسان ذي المرجع الشعبي، وفسر زكي بقوله: «تغيرت السينما كثيراً عما كانت عليه وزادت الشخصيات تعقيداً. السينما الواقعية اليوم ليست تلك التي تنزل فيها الكاميرا إلى الشارع فقط، بل أيضاً تلك التي تتحدث عن إنسان الحاضر بكل مشاكله وأفكاره ودواخله. ورأى زكي أن التركيبة الشخصية اختلفت باختلاف الأدوار التي أداها؛ صحيح لعبت دور صعلوك أو هامشـــــيا في أفلام أحلام هند وكاميليا وطائر على الطريق وكابوريا، لكن كل دور ذا شخصية مختلفة، شخصيات اليوم غالباً رمادية، ليست بيضاء وليســـت سوداء… ليست خيرة تماماً وليســـت شريرة تماماً، وما على الممثل سوى ملاحـــظة الحـــياة التي من حوله حتى يفهم أن عليه أن يجهد ويجتهد كثيراً في سبيل فهــــــم هذه الــحال».
وعرف زكي كيف ينتقل من دور إلى آخر حتى لو لم تكن هناك قواسم أساسية مشتركة بينها، فهو الفلاح الساذج في فيلم البريء، ومقتنص الفرص الهائم على وجهه في فيلم «أحلام هند وكاميليا»، وابن الحي الذي قد يهوى إنما يحجم ويخجل في فيلم «كابوريا»، كما هو ضابط الاستخبارات القاسي الذي يفهم حب الوطن على طريقته فقط في فيلم «زوجة رجل مهم».
وطوال مشواره الفني كان يرفض أن يقوم عنه دوبلير أو البديل بالأدوار ذات الطبيعة الخطرة، ففي فيلم «عيون لا تنام» حمل أنبوبة غاز مشتعلة، وألقى بنفسه من سيارة مسرعة في فيلم «طائر على الطريق». وكانت وجهة نظره بأن عدم استخدام البديل يعطي الفنان قدرة وتدريباً أكثر، وقد حمله هذا الاعتقاد على أن ينام في ثلاجة الموتى بعد أن أسلم نفسه للماكيير الذي كسا أو دهن وجهه بزرقة الموت والجروح الدامية كما اقتضى دوره في فيلم «موعد على العشاء». وقد بقي في الثلاجة إلى أن دخلت عليه بطلة الفيلم سعاد حسني لتكشف عن وجهه وتتعرف عليه بعد أن صدمه زوجها السابق بسيارته. وقد أعيد تصوير المشهد، الذي استلزم إقفال الثلاجة على أحمد زكي، مرات عدة حتى لا تأتي اللقطة التي لا تستغرق أكثر من بضع ثوان من وقت الفيلم مقنعة للمتفرج. وقال عن تجربته داخل الثلاجة أحسست بأن أعصابي كلها تنسحب وكأنما توقفت دقات قلبي وأنا أحاول تمثيل لقطة الموت، وقد ضغطت على قدمي بشدة لأنبه أعصابي وأنذرها.
وفي فيلم «طائر على الطريق» أصرّ على تعلم السباحة، عندما طلب منه المخرج محمد خان أن يستعين بالبديل في مشهد السباحة، باعتباره لا يعرف السباحة، خصوصاً عندما علم منه بأن التصوير سيبدأ بعد شهر ونصف الشهر. فقد اختفى نحو أسبوعين، وعندما عاد قال لمحمد خان مازحاً: «تحب أعدي المانش»! فرد عليه: «إزاي؟»، قال: «أنا عازمك على الغداء بجوار حمام السباحة بالنادي الأهلي»، وأثناء جلوسهما هناك، ذهب أحمد زكي إلى غرفة الملابس، وارتدى «المايوه» ثم حيا المخرج خان وقفز في حمام السباحة وقام بعبوره مرات عدة بحركات فنية. وعندما خرج من الماء قال لمحمد خان: «لقد ظللت أتدرب هنا 15 يوماً على يد المدرب».

أعماله… والتكريم
تعامل زكي مع أبرز مخرجي السينما المصرية، وبالتحديد مخرجي الواقعية الجديدة من أمثال عاطف الطيب في البريء والهروب، ومحمد خان في «موعد على العشاء»، «العوامة»، «أيام السادات» وداوود عبد السيد في «أرض الخوف» واختاره يوسف شاهين لفيلم «إسكندرية… ليه؟» وشريف عرفة في «اضحك الصورة تطلع حلوة» و«أيام السادات» وتعامل أيضاً مع إيناس الدغيدى في «امرأة واحدة لا تكفي» وغيرها من المحطات الفنية التي ترك من خلالها بصمة في عالم السينما المصرية إلى الآن.
وحصد العديد من الجوائز المحلية والدولية، واحتكر جوائز أفضل ممثل مصري لأعوام متلاحقة، ومن بين تلك الجوائز:
– جائزة عن فيلم «طائر على الطريق» في مهرجان القاهرة.
– جائزة عن فيلم «عيون لا تنام» من جمعية الفيلم.
– جائزة عن فيلم «امرأة واحدة لا تكفي» من مهرجان الإسكندرية العام 1989.
– جائزة عن فيلم «كابوريا» من مهرجان القاهرة السينمائي العام 1990.
– وفي الاحتفال بمئوية السينما العالمية العام 1996 اختار السينمائيون ستة أفلام قام ببطولتها أو شارك فيها الفنان أحمد زكي، وذلك ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية وهي «زوجة رجل مهم»، «البريء»، «أحلام هند وكاميليا»، «الحب فوق هضبة الهرم»، «إسكندرية ليه» و«أبناء الصمت».

وفاته
توفي في القاهرة يوم 27 مارس 2005 إثر صراع طويل للغاية مع مرض سرطان الرئة نتيجة كثرة السجائر التي كان يدخنها، وعولج على نفقة الحكومة المصرية في الخارج.  

السابق
البوينغ 727 سقطت فماذا عن الصندوق الأسود؟
التالي
هجرت مكتشفها لرفضه الجنس