الطائفيـة ليست قدراً

ما إن أُعلن الخبر، حتى انتشرت في طرابلس صور اللواء أشرف ريفي، الموظف السنّي الذي استقال احتجاجاً على عدم التمديد له رئيس الحكومة السنّي. استدعى رفض التمديد لريفي رد فعل شعبي من أبناء الطائفة. حتى تصريحات سياسييها، المختلفين مع ميقاتي، رحّبت بخطوة الاستقالة وشددت على التمسّك بحقوق الطائفة. عادي. وخلافه مستغرب… مستهجن حتى!
ليست استقالة ميقاتي، وردود الفعل هذه، الصورة الوحيدة عن الحالة الطائفية التي وصلت إليها الممارسة السياسية في البلد. قبلها مناسبات كثيرة، كان القانون الأرثوذكسي أحد أوضح صورها. صور تختلف (قليلاً، ولكنه "قليل" هام جداً) عما كان سائداً في لبنان في مرحلة الهدنة التي تلت الحرب الأهلية، أو المرحلة التي يحلو للبعض تسميتها بالحرب الباردة.
تميّزت مرحلة الهدنة تلك بتقاطع هجين ما بين الإرادة الخاصة والمصلحة العامة. انطلقت مشاريع تلك المرحلة من إرادات خاصة، لكنها قدمت نفسها بصفتها تمثّل مصلحة عامة. هكذا أرادت أن تبدو. كذلك كان مثلاً مشروع الحريري الذي خاطب بالعمق الطائفة السنية واستدعاها لينال زخمه. ومشروع المقاومة الذي غرف من نهوض الطائفة الشيعية بقدر ما استنهضها. وكذلك مشروع مواجهة "الاحتلال السوري" الذي لبس مفردات ومحاجات تخاطب وعي المسيحيين لذاتهم… وقتها. رغم ذلك، تجاوزت هذه المشاريع، في الشكل كما في المضمون، في تلك المرحلة، حدود الطوائف التي ولدت منها.
لم يعد هذا النموذج قائماً في السنوات الأخيرة، لاسيما في المرحلة التي تلت اغتيال الحريري. ارتسمت الحدود الفاصلة بين الطوائف، وتقلّص حجم الاهتمام بالمصلحة العامة، أو ادعاء ذلك على الأقل. كل جماعة تسعى لمصلحتها، بوضوح فج يصل في أحيان كثيرة إلى الاعتراف العلني والصريح، ومنطق قانون الانتخاب المسمى "الأرثوذكسي" فاضح لهذه الجهة.
وصلت مشاريع الطوائف إلى أقصى حدودها، إلى الحدود التي لا فاصل بينها. ليس بعد ذلك إلاّ الصدام؟ هذا ليس حتمياً، ولكن عدم وقوعه لا ينفي بؤس المشهد وانسحاق مفاهيم مثل "الوطن" كحيز مشترك. وهنا، لن تغيّر شيئاً معرفة من هو تحديداً، شخصياً، ممثل السنة أو الموارنة أو الشيعة أو سواهم.
ورغم ذلك، فهناك داخل هذه الصورة القاتمة ما يمكن النظر إليه بأمل: هيئة التنسيق النقابية مثلاً التي علّقت إضرابها وتحركها مؤقتاً بعد تحقيق مطلبها الأول: إقرار سلسلة الرتب والرواتب في مجلس الوزراء. والإنجاز الذي حققته الهيئة ليس في التمسك بمطلبها حتى الاستجابة له، فحسب، ولا لأنها استندت إلى اليسار، بتلويناته المختلفة، الذي كان المحرك الأساسي للتحرك. انجازها يسبق مشروعية المطلب ويتخطى هويّة حامليه.
جدّدت الهيئة التذكير بوجود نموذج يختلف عمّا ساد في مرحلتي ما بعد الحرب وما بعد الاغتيال. فالتحرك الذي استمر لأكثر من شهر واستقطب تأييد عشرات آلاف اللبنانيين (مع التواضع!)، انطلق من إرادة عامة تتجاوز حدود الإرادات الخاصة للطوائف، مستهدفاً تحقيق مصلحة عامة تتجاوز المصالح الخاصة للطوائف. والمصلحة العامة، بهذا المعنى، لا تتحقق بتحقق المطالب الاقتصادية الاجتماعية فحسب، بل في طبيعة أي تحرك يحمل هذا المفهوم. تحركات كهذه، مهما علا شأن مطالبها أو صغر، تقع تماماً في مواجهة الإرادات الخاصة ومصالحها. ومعها فقط يمكن الحديث عن خيار آخر يبيح تفادي الاحتمال الذي يلوح في الأفق: صدام الطوائف.
المفارقة، أن خيار المصلحة العامة لا يجد من يسعى إلى بلورته سياسياً، كمشروع يحقق الانتقال من الطوائف إلى الدولة… رغم كل هذا الضجيج المحذّر من حروب الطوائف وانهيار الدولة.

السابق
غانم يدرس مشاريع مصدقة في لجنته النيابية
التالي
ازدراء للدين أو الرئيس؟!