الأسباب الكامنة وراء النزوح المسيحي في النبطية

تعاني العلاقات بين الطوائف والمذاهب اللبنانية من أزمة عميقة، فرغم مظاهر العيش المشترك في بعض المناطق والاحياء، إلا ان هذه العلاقات بدأت تتراجع وتتسم بطابع الخوف من الآخر والتشكيك به والسعي الى إلغائه، وذلك لأسباب سياسية وإجتماعية وأمنية مفروضة في البلاد.
وعلى ضوء ذلك كان لا بد من الاطلالة على واقع العلاقات بين الطوائف والمذاهب في لبنان من خلال مجموعة من المواضيع التي تشرح هذا الواقع عسى أن يكون مدخلا لوصف الدواء ونبدأ من النبطية.

ترسم حارة المسيحين الشقيقة الصغرى" للنبطية صورة برَاقة عن التعايش، "فالحارة لم تخذل النبطية يوما، بل كانت سنداً لها في كل المآزق، لم تعبر إليها الطائفية" ويدحض أبناؤها كل ما اشيع عن "ضغوط تمارس ضدهم لتهجيرهم، بل يؤكدون أن "هناك إصراراً كبيراً من قبل كل أطراف المدينة على بقائنا وتشبيثنا بأرضنا لأننا جزء من بيئة النبطية".
في حارة المسيحين في النبطية حكايا صامته، وروايات تخبر عنها تلك البيوت القديمة التي تعيش حالة "السُكر" من فراق الاحبة، هنا في هذه الحارة لا يوجد من يتحدث اليك من سكانها الاصلين، ولا من تصادفه على الطريق لتسأله عن جان أو عساف أو جورج، من بقي لا يتعدى الـ50 شخصاً، 70% من سكانها رحلوا.
يعود الوجود المسيحي في النبطية الى العام 1878، إذ كان الحضور المسيحي الى جانب المسلم في كافة الحقبات، إلى أن طرقت الحرب الاهلية بابها، على خط الصراع، ما دفع بإنطلاق الهجرة المسيحية عن أرض الجنوب، لترتفع وتيرتها في العام 1982 عقب الإجتياح الإسرائيلي، بعدما إزداد حجم النزوح الذي قلص حجم الوجود المسيحي في تلك المنطقة وصلت الى أدنى نسبة 9,72 في المئة، حسب دراسة للمحلل الإحصائي يوسف الدويهي، ما يدفع بالبحث عن الأسباب الكامنة وراء هذا النزوح؟ هل الوجود المسيحي مهدد فعلاً في النبطية؟ هل يبيع المسيحي أرضه تحت وطأة الضغط ؟ وأين التعايش الإسلامي المسيحي في أرض "ألبشارة".
يشكل حي المسيحيين في مدينة النبطية خير شاهد على تهجير المسيحي من أرضه، داخله اليوم 10 عائلات،غادره 97%من أهله، يُعيد جورج أسباب هذا النزوح الى " أبواق الخطابات السياسية الرنانة، ذات الشحنات المذهبية"، لكنه ينفي " أي ضغوط يتعرض لها المسيحي لترحيله " بل يعتبر الامر "كلام فارغ، لإنتزاع صلابة الوحدة، ولزرع الخوف ليس أكثر"، واصفا التعايش اليوم بين المسلم والمسيحي بـ"اللؤلؤة البراقة،التي تشع وحدة متجانسة، إلا أن الحلقة الأضعف هي غياب الناس".

تعايُش حقيقي
تعد الحارة جزءاً لا يتجزء من كينونة النبطية، لا يمكن فصلها عنها، التي برهنت عن إيمان واضح للتعايش بين طوائفها، بل وحسب مختار الحارة راشد متى:"في كل لبنان حصل حوادث طائفية عدا النبطية، وهذا عائد الى روحية التعايش القائم داخلها، التي تجسد في أكثر من محفل وإستحقاق"، يقرأ متى في بنود التعايش الاسلامي المسيحي "الذي قدم نموذجا فريدا فالنبطية الوحيدة التي لم تشهد مناكفات طائفية، ولم تنزلق في انفاق الفتن المذهبية، بل نأت بنفسها ضمن خط واضح، خط مدينة المقاومة"، لافتا الى " بروز حالات زواج بين شيعة ومسيحين بلغت بعددها العشرة، وهذا من شأنه أن يرفع مؤشر التعايش ويضعه في خانة وحدة حال العائلة الواحدة التي تتزايد وتتوسع"، والأهم من ذلك برأي متى "أن الحارة ضربت بعرض الحائط كل الأقاويل التي جابت طريق الإعلام ان التعايش المعلن هو مغشوش وما يضمره المسيحي عكس ذلك وما يقال بالعلن هو لحفظ ماء الوجه للبقاء، عبر إصرارها على البقاء بل فاعليات المدينة وأحزابها تحديدا يحرصون على بقائنا بل ويحفزون العودة لمن رحل".

ميدانيا
عند مدخل الحارة مُصَلى "عيسى بن مريم" البعض يرى فيه دليلا على تقدم حالة التعايش الإسلامي المسيحي، تعايش يترسخ في أزقته المتعرجة والضيقة تحملك الى كنيسة السيدة للروم الكاثوليك، بيوت عتيقة مقببة بقرميد أحمر تعود الى المئة عام، سكانها غالبيتهم من الشيعة، أما مسيحيوها فلا يتخطون الـ50 فرداً، البحث عن مسيحيي الحارة ليس سهلا فهم نهارا في وظائفهم إما في التعليم أو السلك العسكري، وحدها أم طوني كساب تصادفك، تسألها عن أبناء الحارة ولماذا رحلوا وكيف هي صورة الحياة في الحارة؟ دون تردد تقول "الحرب أخذتهم معها" جوابها قد لا يقنع العقل لكنها تعقب بعين دامعة " إنقرضوا من الحارة لم يبق أحد، الكل ترك الحارة منذ الحرب ولم يعودوا، لم يفكرو أصلا بالعودة، باعوا أراضيهم ومنازلهم لم يعد هناك شيء يربطهم بها"
تعيش أم طوني منذ أربعين عاما في الحارة، خبرت كل ظروفها بدءاً من الوجود الفلسطيني الى الإحتلال فالتحرير، تشدد على "أن التعايش حقيقي نحن عائلة واحدة تكاد لا تفرق الشيعي عن المسيحي، نتشارك كل شيئ في أفراحنا وأترحنا حتى مجالس عزاء عاشوراء أشارك فيها"…
عند شرفة أحد المنازل القديمة جدا يقف حسيب رزق الله "النحاسي العتيق" الذي هجر حرفته في نهاية الثمانيات "بعد آن دخل الجاهز الى السوق"، يتأمل الحارة من تحت المطر، يتذكر أصدقاء له غدرهم الموت، حين تسأله كيف يقرأ حارته اليوم فيقول "هي روحي ولن أتركها حتى أموت"، في مقابل منزل حسيب يقع مصلى عيسى بن مريم وبقربه يقطن أناس من أبناء النبطية الشيعة قبل أن يبادر بالقول "نحن عائلة واحدة، نتبادل الزيارات والمناسبات، لا أحد يتعدى على حرية احد، كل يمارس طقوسه بإحترام هم يصلون في جامعهم ونحن نصلي في كنيستنا".

نملك روح المحبة
يبلغ عدد سكان الحي المسجلين على لوائح الشطب 500 بينهم 60 شيعياً، الباقي فقط 50 لم يزد عددهم ولم ينقص، وهذا يسبب حرقة لمتى، الذي يلفت إلى وجود "مبادرة قيد الدرس لدى مطران صيدا وجزين للروم الكاثوليك إيلي حداد تقضي ببناء مجمع سكني يضم عشرين شقة تباع بالتقسيط لابناء الحارة علّها تفتح باباً جديداً للعودة الى ارض الجدود لافتا الى أننا "لمسنا تجاوباً من المطران حداد.
في الحارة هناك مخطط لبناء حديقة بمحاذاة الكنيسة تبرع بها المغترب إلياس سعدو يشير متى "أن العمل جارٍ على هندستها من قبل المهندسة كلوديا ميشال شاهين وستنجز في عيد السيدة، وهذه من شأنها أن تعيد الشباب الى الحارة لأننا نسعى لتحويلها مزاراً، فالحارة تفتقدهم غادروها للدراسة والعمل، لم يترك المختار متى ومن معه من رعيل الحارة نافذة الا وفتحوها لتحفيز شبان الحارة للعودة لكن حتى الآن عبثاً حاولوا، تكاد لا تجد جيلاً شاباً في الحارة لكن الأهم بنظر متى "المشروع السكني لأنه سيعيد حتما أبناء الحارة مجدداً".
لا شيء يشي بأن من بقي من مسيحي الحارة يعزم على الرحيل، بل على العكس، من تبقى متشبث بأرضه ومنزله وعمله حتى الموت، بل إن هناك مخططات مستقبلية تقضي بإستعادة من رحلوا فهل ستنجح الحارة بإستعادة أبنائها مجدداً أم ستبوء المحاولات بالفشل.
  

السابق
القمر تعرّض لهجوم من النيازك
التالي
يعيشان في المجارير منذ 22عاماً!