فلسطين في صلب الإرشاد الرسولي

جاء في الإرشاد، «أن مواقف الكرسي الرسولي تجاه مختلف الصراعات، التي تدمي المنطقة وتجاه وضع القدس والأماكن المقدسة معروفة تماماً».

ليس ما تقدم هو الجديد والثمين في الإرشاد الرسولي، الذي وقعه البابا بنديكتوس أثناء زيارته التاريخية للبنان، في منتصف أيلول الماضي.

الجديد، والثمين، هو رفع مسألة السلام في الشرق الأوسط، من المستوى السياسي ــ البرغماتي، الى أعلى مستوى أخلاقي ــ ديني وكذلك الدعوة للحوار «المبني على أسس الإيمان اللاهوتية» فاليهود والمسيحيون والمسلمون يؤمنون بإله واحد، والمطلوب.. أن يقدموا شهادة جميلة للصفاء والمودة بين أبناء ابراهيم أبي المؤمنين».

تلك عودة موفقة، للقاسم المشترك بين الأديان الثلاثة، في لحظة يشهد فيها الشرق الأوسط عواصف التغيير، وشلال دم مرعب أوحى للبابا «انه لا شيء يكبح جماح جرم قايين».

البابا يدرك قبل غيره ان الفاتيكان لا تملك المدافع، كما يدرك أيضاً أن فائض القوة الاسرائيلية، تدفع أهلها للمزيد من التطرف الاعتراضي على منطق ومنهج السلام ومتطلباته في فلسطين والمنطقة.

إلا أن رأس الكنيسة الكبرى عندما يوثق في الإرشاد الرسولي «أن أنظار العالم كله موجهة صوب الشرق الأوسط… وانه باستطاعة الأديان أن تلتقي معاً، لخدمة الخير العام، وللمساهمة في تنمية كل شخص وفي بناء المجتمع». إنما يقول بعبارة صريحة، ان رأس الكنيسة، يواكب الوجهة الدولية، وصيرورتها، ويؤكد على حاجة العالم الملحّة، إلى شرق اوسط يشهد الاستقرار ليمنح العالم السلام. لهذا طلب البابا وبشكل رسمي من المسؤولين السياسيين والدينيين..
… «القيام بكل ما هو ممكن لاحلال السلام» .
خلاصة القول أن الإرشاد الرسولي، الموجه لشعوب الشرق بأديانه التوحيدية، وفر لمعسكر السلام، ودعاة التغيير، وأنصار الحرية، سنداً أخلاقياً، مشفوعاً ببعدين، البعد الأول موغل في التاريخ، يبدأ من مدينة الخليل حيث مرقد أبينا ابراهيم، والثاني بعد مستقبلي يتجاوز الحالة الاجرامية الراهنة التي تفرضها القوى المناهضة للتغيير، نحو حالة تضع قضية بناء الفرد والمجتمع قضية الأديان الشاملة، شرط تحرير المعتقد من ثقل السياسة، والدفع نحو تحقيق الوحدة والتمايز معاً، بين الروحي ــ الديني والزمني ــ السياسي.

إن هذه المقاربة الثمينة تقول للفلسطينيين في محنتهم، صبراً… صبراً لن يهزم السيف شجاعتكم وايمانكم بقضيتكم ولن يحسم مستوطن أرعن مستقبل شعبكم.
ما جاء في الإرشاد الرسولي، لم يحظ بما يستحقه من الاهتمام في الوسط الفلسطيني، ربما لأن المحنة الفلسطينية الراهنة، تصيب أعمق ما في المجتمع الفلسطيني المنقسم بين الضفة وغزة وبين الوطن والشتات.

كما ان كلام الإرشاد الرسولي لا يصرف حاضراً في السياسة المباشرة حتى تُعقد الندوات حوله، بل الندوات اليومية تعقد في رام الله حول طريقة «الخروج من المأزق».. وكذا معظم مقالات النخب الفلسطينية، وتصريحات القادة السياسيين سواء أكانوا «فصائليين» أو «سلطويين».

المفارقة في الأمر، أن هيئات قيادية مخضرمة، ذهبت لدراسة خيارات، ليس اقلها حل السلطة!! او إلغاء، او تعديل اتفاق أوسلو!!، ومعها ذهب عدد من الكتّاب الى رسم وصياغة استراتيجيات جديدة للنضال الوطني، لم تخرج عن النمطية السائدة في معسكر يميننا ومعسكر يسارنا كما لم تأت بجديد في معسكر اسلاميينا.

مرة أخرى تكمن المفارقة بين ما ذهب اليه البعض الفلسطيني وما أطلقه الرئيس أبو مازن في خطابه في الأمم المتحدة بعد أقل من أسبوعين على توقيع البابا الارشاد الرسولي في لبنان.

لم يذهب خطاب الرئيس الفلسطيني خارج الأسس الواردة في الإرشاد الرسولي من الناحية المنهجية، وهو لم يدع لحرب، أو انقلاب سياسي، بل اكد الثبات والصمود والتمسك بالحق الفلسطيني الواضح والجلي، كما أكد ان السلام مع اسرائيل، وانقاذ خيار الدولتين، لا يتم الا بالمفاوضات، مشدداً على المرجعية القانونية لها، وفي محفل آخر عند استقبال قناصل الاتحاد الأوروبي أبلغهم بأنه يقبل استئناف المفاوضات على أساس مرجعية بيانات الاتحاد الأوروبي ذات الصلة. لكن الكلام الأكثر وضوحاً ما قاله بشأن القدس وهو يتسلّم مفتاح المدينة من وجهائها وفعالياتها يوم 10/14 حيث أجاب عن سؤال طرحه على نفسه: مَن سيحرر القدس؟!! قال الرئيس للمقدسيين «أنتم الذين ستعيدونها، بصمودكم واصراركم وثباتكم، بتحملكم لكل المعاناة والقهر والظلم الذي يجثو على صدوركم وصدورنا، أنتم المواجهون المباشرون لهذا الظلم التاريخي ليس غيركم من سيحرر القدس…».

لعل بساطة الكلام تجيب على واقع الحال وتعكس الحقيقة كما هي، وتستجيب لطبيعة المحنة الفلسطينية اكثر من دزينة برامج بديلة، كما درجت عليها عادتنا في البحث عن بدائل ــ إن مقاربة الرئيس السياسية لا تحمل مفهوم «يا وحدنا»، بل تؤكد أهمية الاستثمار السياسي لحاجة العالم الملحّة للسلام في الشرق الأوسط حيث يأتي كلام الإرشاد الرسولي المطالب بالسلام الآن مطابقاً لما أطلقه الرئيس أوباما في جامعة القاهرة في بداية ولايته، على الرغم من الممانعة الاسرائيلية الشرسة.

المهم في هذا الأمر أن لا أوهام تقال ولا شعارات تباع لأهل القدس وأن نقطة البدء في التصدي للمحنة هي الصمود أولاً. وهذا ما يفعله الناس دون طلب من أحد، ان للشعب مواقيته المستقلة عن آرائنا، كما له إبداعه الخاص.

بين الإرشاد الرسولي والخطاب الفلسطيني الموجه للأمم والكلام البسيط الموجه للمقدسيين خيط متين اساسه الثقة بقدرة المجتمع الفلسطيني على صياغة مقاومته اليومية وثباته على حقه وإيمانه الطبيعي بمستقبله في وطن المسيح، وأرض الرسالات الثلاث.
 

السابق
ندوة عن الاكتئاب في الصرفند
التالي
هل تتحول المعارضة السورية الى اصولية سلفية متشددة ؟