سورية دائماً وأبداً

طمأننا الرئيس نجيب ميقاتي، رئيس الحكومة اللبنانية، في مقابلة له لجريدة «الحياة» قبل أيام إلى أنه ليس معنياً ببقاء النظام السوري أو بذهابه. وكان بوسعه القول أيضاً: «بل إنه معني بالسلام والأمن وحريات النّاس وحياتهم بسوريا كما بلبنان! لكنه لم يفعل، إما ليبرّى نفسه تماماً أو لأنه كرِه الملف السوري لكثرة ما عانى منه بعد قيام الثورة قبل أكثر من ستة عشر شهراً!.

لقد كانت العلاقة بحافظ الأسد وأبنائه وأقاربه وأبناء طائفته، شرفاً لمن يحظى بها. وإذا زادت بعض الشيء – كما في حالة الميقاتي – فإنها تعني غنائم ومناصب سياسية وأموراً أخرى كثيرة، إنما طبعاً في مقابل التزامات دائمة لا تنقضي حتى بانقضاء حياة المُنعَم عليه(!). ويزيد من الإحراج لميقاتي أنه ظل يتمتع بالنِعَم المتبادلة من جانب آل الأسد الى ما بعد استشهاد الرئيس الحريري والآخرين من قوى 14 آذار، وإلى ما بعد احتلال بيروت، فإلى التآمر على اسقاط حكومة سعد الحريري مع الأسد و«حزب الله». ومصيبة ميقاتي أنه بعد تشكيل حكومة «الثأر» بشهرين نشبت الثورة السورية وتفاقمت. وما شعر ميقاتي بإحراج شديد في البداية، لأن أكثرية المسؤولين عرباً ودوليين وإسرائيليين… وإيرانيين وروساً، كانت لا تزال مع الأسد، وتأمل منه الإصلاح. والحقيقة أنهم ما كانوا يطمعون منه بالإصلاح، بل إنما كانوا يكتفون منه بالتوقف عن قتل المتظاهرين السلميين! وما بلغ أكثر المسؤولين العرب والأجانب بالطبع مبلغ رئيس وزراء لبنان الحالي في تشابك العلائق مع الأسد الصغير وأقاربه وأعوانه، لكن النظام السوري طال به الأمد، منذ الانقلاب البعثي الأوّل الناجح عام 1963. وقد حدثت تمردات علوية وغير علوية ضد النظام، لكنه ما كان مرّة مهدداً تهديداً حقيقياً. وبذلك فقد صار النظام السوري جزءاً من الأمر الواقع بالمنطقة بعد نهاية الحرب الباردة. وصيرورته كذلك ليست بالمصادفة، بل لأنه استطاع تقديم خدمات جُلّى للأميركيين والاسرائيليين منذ السبعينات من القرن الماضي. فقد عادى ياسر عرفات عداء شديداً، وتنافس مع صدام حسين على شرذمة المقاومة الفلسطينية، وضرب الحركة الوطنية بلبنان، وأخّر توقيع اتفاق إنهاء الحرب عشر سنوات إلى أن سنحت الفرصة في حرب الخليج الثانية، فأرسل جنوداً لمساعدة الأميركيين في إخراج صدّام من الكويت، وحصل في مقابل ذلك على لبنان. وأقام توازناً مع الإسرائيليين بأن يكونوا معاً بلبنان، وأن يدعم من جهة أخرى المقاومة (الإسلامية الإيرانية وليس غيرها) ضد الاحتلال الإسرائيلي! وعندما غزا الأميركيون العراق على أثر هجوم 11 سبتمبر 2011، دخل مع الأميركيين في الحرب على الإرهاب، واستقدم في الوقت نفسه الجهاديين وأرسلهم إلى العراق، ليقتلوا الأميركيين تارة، والشيعة تارة أخرى مع أنه حليف إيران والشيعة رسمياً!.

وما بلغ أي طرف دولي من الانزعاج من آل الأسد، إلى حدّ المطالبة أو التفكير بتغييرهم. بل أقصى ما قاله الأميركيون منذ العام 2004 أنهم يطمحون إلى دفع النظام السوري لتغيير سلوكه(!). وهكذا فقد استقرّ نظام للمصالح والمنافع ما تصوّر أحد في الاقليم أو في العالم أنه يمكن تغييره. ومن ضمن هؤلاء الأميركيون والروس والإسرائيليون، وبالطبع الإيرانيون وحلفاؤهم وطوائفهم بالمنطقة! في السياسة كان هذا هو الوضع عندما قامت الثورات العربية. أما في الأخلاق فقد كان الامر مختلفاً تماماً. وأحسب أنّ الثورات العربية كانت في أعماقها ثورات أخلاقية على الفساد والإفساد وانتهاك الحرمات وسفك الدم الحرام وهتك الشرف الحرام وأكل المال الحرام!.

إن الأمر الأخلاقي هو وحده الذي لا يخضع لحسابات الربح والخسارة في المنافع والمصالح. وهذا هو ما قامت عليه الثورة السورية بعد الثورات بتونس ومصر وليبيا واليمن. وهذا لا يفهمه بشار وحلفاؤه في البلدان العربية. فقد ظل بشار الأسد يقول إنه لن تحدث ثورة عنده لأن الأميركيين غدروا بأصدقائهم وأطلقوا الثورات، وهو ليس من أصدقاء الأميركيين! بل أنت من أصدقاء وأحباب كل الفرقاء مثل الإسرائيليين والأميركيين والروس والإيرانيين والأتراك. وأنت تتبادل معهم المنافع والمصالح، وتعتقد أن استقرارك واستقرارهم يخضعان لأيديولوجيا: الاعتماد المتبادل! لكنك لست صديق شعبك، الذي تجاوز الخرْق في العلائق بينك وبينه حدود السياسة إلى حدود ومحرّمات الأخلاق. ولذلك أمكن للسوريين أن يثوروا، كما أمكن لهم أن يتحملوا عشرين ألف قتيل، ومليوني مهجر بالداخل والخارج، فضلاً عن عشرات ألوف المعتقلين والمفقودين!.

في السياسة وممارسة السلطة، يمكن الحديث عن حسابات الربح والخسارة وتوازن القوى وأين ميزان القوى، وفي صالح مَن؟ لكن ذلك كلّه يصبح ذا معنى بين الدول أو بين الأحزاب المتنافسة. أما بين النظام وشعبه، (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة!) فلا ميزان غير ميزان الأخلاق. وهذا هو ميزاننا نحن العرب جميعاً في النظر إلى سوريا وشعبها، وإلى سائر شعوب الأمة العربية.

إنه ليبلغ من هول ما يحدث في سوريا أن يتمنى أحدنا وسط الغمّ المُطبِق لو لم يحدث من ذلك شيء رحمة بالأطفال والنساء والشيوخ. ثم يؤول المرء إلى دينه وخلقه وكرامته الإنسانية، فيرى أن هذه الدماء هي الحد الفاصل بين الإنسانية والوحشية، وبين الكفر والإيمان، وبين العقل والجنون، وبين الأخلاق والنذالة.

هكذا تبقى سوريا العربية بالنسبة لنا دائماً وأبداً: ما يحتضنه القلب، ويفقهه العقل، وتعتز به إنسانية الإنسان. والذي نرجوه بالفعل أن لا يهتم أصدقاء الأسد من قبل بما يجري في سوريا بالفعل، لأنهم يكونون عندها مثلنا ومثل السوري المعذّب الذي قال: «أنا إنسان وماني حيوان، وكل النّاس اللي حولي متلي!» نعم الجميع بشر إلا الذين يقتلون البشر، والذين يصفقون لهم!.   

السابق
الصهيونية الثالثة
التالي
نفوذ التيارات الإسلامية