تهديدات اسرائيل في رؤية “حزب الله” لا تشي

في كل مرة يرفع فيها القادة الاسرائيليون اصواتهم بالتلويح بعملية ضد لبنان، أو بالتحذير من مستجد ما في الجنوب، تدرك الدوائر الراصدة للحركة الاسرائيلية في "حزب الله" ان الكيان العبري هو في وضع القلق أو المتخوف وليس في وضع المتحفز للقيام بأمر معين، وفي كل مرة يطيل فيها هؤلاء صمتهم حيال الوضع اللبناني، وحيال الحزب، تنتاب أجهزة الاستشعار لدى الدوائر عينها هواجس وتساؤلات تدفعها الى سبر اغوار الامر، لمعرفة ما وراء أكمة الصمت هذه. تلك هي القاعدة التي تكونت لدى الحزب، بفعل التجربة المديدة في صراعه المضني مع الاسرائيليين.
وبناء عليه كان من البديهي بالنسبة الى الحزب وبعد اندلاع الاحداث في الساحة السورية ان يرفع من منسوب ترصده ودرجة استنفاره للوقوف على جوهر تفكير العدو الاسرائيلي ومقاربته لمرحلة هي بطبيعة الحال جديدة ومختلفة تمام الاختلاف ان من حيث المسار أو من حيث المآل والنتائج المرتقبة.
لذا لم يكن مستغرباً لدى الحزب أن يعلي الاسرائيليون صوتهم وتحذيرهم من مسألة نقل المزيد من التكنولوجيا السورية الى الحزب في لبنان تخوفاً أو خشية، كما لم يكن مستغرباً ان يثيروا ايضاً ضجة عالية حيال ما سموه التخوف من نقل الاسلحة الكيمائية التي يمكن أن تكون موجودة في الترسانة العسكرية السورية الى أيدي الحزب وترسانته، وتبني تل أبيب على هذه الفرضية "عمارة" من التحليلات والتحذيرات والتهديدات.
وتقول أوساط على صلة بدوائر في الحزب، ان الجهة المعنية فيه رصدت منذ ان أخذت الاوضاع في سوريا هذا المنحى الدراماتيكي، حركة غير عادية في الجانب الاسرائيلي من الحدود مع لبنان إن لجهة رفع وتيرة الاستنفار أو لجهة دفع المزيد من الحشود والتعزيزات واحداث العديد من المواقع وتكثيف عدد الدوريات. وعليه فإن الدوائر المختصة بالرصد والتحليل لدى الحزب بدأت بعد ورود التقارير المتعلقة بالطبيعة الميدانية لهذا الوضع المستجد تأخذ في الحسبان والقراءة العميقة للمشهد أمرين اساسيين:
الاول: تضاعف امكان أن تقدم اسرائيل على مغامرة أو عمل عدواني من طبيعة معينة تجاه الساحة اللبنانية.
الثاني: ارتفاع خطر أن تقدم اسرائيل على عمل ذي طبيعة أمنية تجاه المقاومة مستغلة في أي عمل من هذا النوع استغراق العالم كله بتطورات فصول الحدث السوري، خصوصاً بعدما نجح العديد من الانظمة العربية ولا سيما الخليجية في رفع منسوب عدائها للنظام في سوريا، و"ابتكارها" مؤتمرات وصيغاً بغية زيادة الضغوط عليه وتوفير مقومات الدعم والإسناد للمتمردين عليه، والساعين ليل نهار الى رؤيته يتداعى وينهار.
هذان الاحتمالان اللذان ينبثقان من اصل واحد، هو الثأر بمفعول رجعي من هزيمة اسرائيل في حرب تموز عام 2006، وبالتالي انجاز وعودها وتهديداتها بمنع تنامي قوة "حزب الله" وقدراته تداركاً لخطره، أخذهما الحزب على محمل الجد، وشرع في تقليب الامر على كل وجوهه للوصول الى مرحلة قطع الشك باليقين. لكن نتائج التقليب والتمحيص تلك، والتي أخذت وقتها، رجحت كفة الاعتقاد السابقة وهي ان احتمال عدم اقدام الكيان العبري على مغامرة ما تغيّر من واقع الحال المرسومة صورته منذ ما بعد حرب تموز، ما انفك الاحتمال الاقوى، والاعتبارات التي تدفع الى اعتناق هذا الاستنتاج الاطمئناني عديدة أبرزها:
– ان "حزب الله" رصد بدقة كل المناورات الخمس الكبرى التي أجرتها الآلة الحربية الاسرائيلية في ما بعد عدوان تموز، وتابع عن كثب قراءة الادمغة العسكرية الاسرائيلية والغربية لها والتي توصلت الى استنتاج شبه موحد هو أن أي حرب قد تقدم عليها القوات الاسرائيلية ضد "حزب الله" لن تكون نتائجها أفضل من نتائج حرب تموز التي لم تسر وفق ما اشتهته العقلية العسكرية الاسرائيلية.
– ان العقل العسكري الاسرائيلي قد بات على قناعة أكثر من أي وقت مضى بنظرية "الحرب الشاملة"، والتي تقوم على منطق ان أي حرب تشنها اسرائيل على "حزب الله" أو سوريا، أو ايران، أو حركة "حماس" في غزة منفردة ستبادر باقي اطراف المحور الى الانخراط فيها من دون أي تأخير، فنظرية "المسرح الشامل" التي تبدأ من ايران الى قطاع غزة قد كرستها الاطراف المعنية أكثر من أي وقت، وهي نظرية تحتاج بطبيعة الحال الى تجربة من اسرائيل لكي تتأكد من صحتها.
– إن "حزب الله" وشركاءه في محور الممانعة قد أخذوا يعملون على اساس ادخال عنصرين جديدين حاسمين في أية مواجهة مقبلة مع اسرائيل، ويعتقد انهما جزء من استنتاجاته من حرب تموز، وهما:
– رفع ترسانة الصواريخ، بعدما ظهر مفعولها الحاسم في مجرى المواجهة غير المتكافئة مع الجيش الاسرائيلي، بغية التخفيف من عنصر تفوقه في المجالات الاخرى.
– الضغط على الخاصرة الرخوة لدى العدو وهي العمق الاسرائيلي المأهول.
وكلاهما نقطة ضعف موجعة للاسرائيلي.
ان اسرائيل صارت على يقين من ان أي عمل عسكري أو عدوان قد تقوم به في هذه المرحلة ضد المقاومة في لبنان من شأنه أن يسرق الانظار عن مسار الوضع في سوريا، وسيكون عنصر قوة للنظام السوري، لأنه سيسقط وبسرعة قياسية "النظرية" التي ساهمت عواصم عربية في ترويجها وتعزيزها لدى شريحة من الجمهور العربي، وهي ان العدو لم يعد الكيان الاسرائيلي، بل صار في مكان آخر، والخطر لم يعد التهديد الاسرائيلي بل تمدد من مكان آخر.
– إن العقل العسكري الاسرائيلي صار على يقين بعد تجربة الاعوام الستة التي انطوت على حرب تموز ان "حزب الله" قد نجح الى حد كبير في تلافي ما يمكن اعتباره ثغرة أو نقطة ضعف بالنسبة اليه، وهي مسألة طرق الامداد اللوجستي والتذخيري، وذلك من خلال تحضير ترسانة خزينة تكفي على الاقل لمدة ستة أشهر من أي مواجهة يمكن أن تحدث.
– ان المحور الذي يشكل الحزب أحد اضلاعه الاساسية، قد انتقل في المرحلة الاخيرة من طور العاجز عن التحرك في الفعل في ساحات وميادين بعيدة عند الميادين التقليدية للمواجهات الى طور المتجرأ على اقتحام هذه الميادين، بدليل ما حصل في بلغاريا في الايام القليلة الماضية.
وبصرف النظر عن تفاصيل حادث بلغاريا والأيدي التي بادرت الى تنفيذه، فثمة بالنسبة الى اي مراقب عملية تطوير نوعي للمواجهات ذات الطبيعة الأمنية، والتي تنطوي على قدر كبير من التحدي والثقة بالنفس، وهي رد ضمني وسريع على رسائل اسرائيلية سابقة الى هذا المحور، فحواها الاستعداد التام لمنازلة اسرائيل في الساحات الخارجية، وان عليها إما ان تمضي قدماً في ما بدأته سابقاً وفيه قدر كبير من تغيير قواعد اللعبة السابقة، واما أن تعود الى الانضباط ضمن خطوط هذه القواعد المألوفة، ولكلا الخيارين حساباتهما ونتائجهما في الخارج وفي باقي الساحات المعهودة.
– إن "حزب الله" وحلفاءه بعث في الايام الماضية، وعلى طريقته الخاصة التي يفهمها العقل العسكري الصهيوني أكثر من سواها، بأكثر من رسالة مفادها ان هذا الحزب ما برح غير منشغل أو مستغرق في فخاخ الداخل ومتاهاته وان نظرية اغراقه في الحدث السوري وفي اللعبة الداخلية لم تنجح لأنه واعٍ لها.
وعليه كل الدروب والتحليلات بالنسبة الى الحزب تقود الى استنتاج أن تل أبيب لن تعطي الحزب والنظام السوري فرصة اعادة تصويب الامور والبوصلة من خلال أي عمل عدواني أو حرب جديدة في وقت قريب، من دون اسقاط الاحتمالات الاخرى.  

السابق
نصرالله: أنا نبيكم الجديد اتبعوني
التالي
إكتشف الأسرار المخبَأة داخلهما