رأيت الذي لا بد لي منه

في انتظار صدور النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية المصرية الخميس المقبل، ستظل التكهنات بفوز المرشحين، اداة للضغط النفسي والسياسي على اللجنة العليا للانتخابات أكثر مما هي استقراء للواقع.
حملتا محمد مرسي وأحمد شفيق لم تتأخرا في إعلان فوز كل من الرجلين في انتخابات تبدو للناظر من بعيد نموذجا كافكاويا لواقع مشوه: لا دستور، لا مؤسسة تشريعية، لا هيئة تأسيسية، محكمة دستورية أقرت كل هرطقات الرئيس السابق وتؤدي اليوم دور «الختم المطاطي» في يد المجلس العسكري الحاكم، قوى الثورة مفتتة ومتناحرة، «إعلان دستوري» كسيح يتلاعب به العسكر وفق الأهواء والمصالح…الخ. باختصار يحيل المشهد المصري الى «مضحكات ولكنه ضحك كالبكا».

هذه حصيلة عام ونصف من المهاترات بين «الثوار» الذين أخفقوا في كل اختبار خضعوا له من الاستفتاء على الدستور الى الانتخابات التشريعية الى الجولة الاولى من الرئاسيات مرورا بعدم القدرة على تبني موقف موحد من دموية القمع الذي مارسته اجهزة الأمن في احداث ماسبيرو وشارع محمد محمود وصمود «الدولة العميقة» وامساكها بالكثير من روافع التحكم بالسلطة وبدورة الحياة اليومية للمصريين.
كان هذا يجري في الوقت الذي لم يغير فيه المجلس العسكري من مطالبه من الثورة حرفا واحدا. كان جليا منذ اليوم الأول انه ساهم في إبعاد حسني مبارك وأسرته والحاشية الفاسدة المحيطة به، من أجل هدف أكبر وأبعد هو حفاظ الجيش على الموقع الذي يحتله منذ العام 1952 كقوة مهيمنة على المجتمع وعلى جزء كبير من الاقتصاد وخارج على أي شكل من أشكال الرقابة او المساءلة. ورغم تصدع «الأساطير المؤسِّسة» لسيطرة الجيش على الدولة، من الانحياز الناصري الى جانب الطبقات الفقيرة وتأميم قناة السويس وانتصار اكتوبر، إلا أن الجيش لا يبدو عازما على التنحي عن ممارسة السلطة الفعلية، رغم إعلانه نقله «السلطات الدستورية كلها» الى الرئيس المنتخب نهاية الشهر الحالي.

فالزاهد حقاً بالسلطة لا يصدر الاعلان الدستوري المكمل الذي يجعل رئيس الجمهورية موظفا عند المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في اجراء استباقي لما قد تحمله الصناديق من مفاجآت للعسكريين.
في المقابل، ما كان للمجلس العسكري ومرشحه السابق عمر سليمان والحالي أحمد شفيق ان يحققوا كل هذه النجاحات السياسية في تطويق الثورة والالتفاف عليها وتجويف مطالبها، لو لم يكن المجتمع المصري يقف عند مفترق طرق لا يبدو السير في أي منها مشجعا. واحد من الأسئلة الكبيرة، على سبيل المثال لا الحصر، يتعلق ليس بالسياسة الاجتماعية لحكومة يترأسها «الأخوان المسلمون»، بل يتناول البرنامج الاقتصادي لرئيس يأتي من جماعة لم يعرف عنها الاهتمام بالاقتصاد الكبير (الماكرو) فيما تشي تجارب قياداتها في مجال الأعمال بنظرة شديدة الضيق تقوم على تعميم الاستهلاك ونقله من الفئات الأغنى إلى الافقر، على ما يمكن فهمه من نشاط الرجل القوي في «الاخوان» خيرت الشاطر وعدد من رجال الاعمال الذين يتولون ادارة استثمارات عقارية ومالية وعدد كبير من المتاجر والتوكيلات لسلع اجنبية شعبية.

ولعل من الملحّ الاعتراف ان التوازن الساكن للقوى الاجتماعية المصرية ساهم مساهمة كبرى في وقف زخم الثورة وجعل مرحلتها الانتقالية بطيئة ومعقدة تحضر فيها الفئات الأكثر تقليدية حضورا قويا فيما يتراجع محركو الثورة الى الهوامش والاطراف. يعيد هذا الاعتراف الى الأذهان قول ابن عربي:
«رأيت الذي لا بد لي منه جهرةً ولم يكُ إلا ما رأيت من الكون».  

السابق
إحياء الإسراء والمعراج في صور
التالي
الإجازة لاسبوع لا تكفي