شاكر البرجاوي مهزوماً..

لا يؤخذ شاكر البرجاوي بجدية.
مهما أضفى "الأخ أبو بكر" عبوساً على ملامحه، وفصحى على لغته، تغلبه "الطريق الجديدة". تطل خفة دمها البيروتية من مخارج حروفه، ومن انسياقه، بلا انتباه، إلى النكتة التي يحبكها بعفوية من راح يحكي البارحة عن قاذفات تحملها أمه وعمته، وتنزلان بهما إلى المعركة. وهي نكتة انقطعت لأنه في "مؤتمر صحافي"، بينما كانت لتتطور وتستمر ساعات بينه وبين أصدقائه من أبناء المحلّة، لو أنه جالسٌ وإياهم في أحد مقاهي الفاكهاني، ولولا أن حرباً صغيرة وقعت بينه وبين كثر من هؤلاء الأصدقاء – الأعداء.
كان الضحك سيرتفع، والتهكم سيدور بين الجالسين على أنفسهم وعلى بعضهم بعضاً، حتى ينسوا، في نهاية الحديث، من أين بدأوا، فمهما كان من أمرهم، تجري في دمائهم الواحدة تلك النكهة الخاصة للطريق الجديدة.
المعارك التي وقعت أمس الاول وأدت إلى نفي "ابو بكر" من "بلاده"، ستكون لأيام مقبلة موضع تندر بيارتة هذه الجهة الفارقة من بيروت، وسيكون أحد أشكال عقاب "أبو بكر"، منعه من المشاركة في هذه المتعة. لكن يوماً قريباً سيأتي، يجلس فيه شاكر إلى أحد المقاهي، ويتذكر، ويَضحك.. ويُضحك.

شاكر البرجاوي لا بد عائد إلى "الطريق الجديدة". الوقت خارجها مستقطع. و"أبو بكر" لا يكون خارج المنطقة. هو واحد من أولئك الذين إذا خرجوا من مائهم الخاص، شفوا حتى باتوا لامرئيين. و"أبو بكر" لن يظهر مجدداً بطوله الفارع وأناقته الإيطالية المفرطة في سينمائيتها، إلا في شوارع "الطريق الجديدة".
لا وجود لهذه الشخصية القدرية بلا "الطريق الجديدة". لا ماهية لها ولا عمق ولا مكنون بلا النسيج السياسي الاجتماعي المعقد والخاص لمنطقة لطالما كانت عاصمة العاصمة وبحر عروبتها ونواة القضايا الكبرى، فلسطينية كانت ويسارية وناصرية، ورافعة شعاراتها العالمية الخرافية، ومصهر مخابرات العالم ومؤامراته. وهي، برغم كل ذلك، لم تنتج يوماً زعيماً على مستوى الوطن. لكنها لم تنقطع، في المقابل، عن إنتاج "قبضايات" محليين، تتبدل أشكالهم مع تبدل الأزمان والأحوال السياسية، ويبقون في المضمون على ما هم عليه، ذكور بفائض هرموني، يخلطون السياسة بالمراجل، ويدينون بالولاء لمراكز قوى يرونها بمثابة عقولهم، ويرون أنفسهم بمثابة عضلاتها.

"أبو بكر"، بهذا المعنى، قبضاي بيروتي نموذجي. له حجم ثابت لا يزيد ولا يقل قيد أنملة، كأن شاكر البرجاوي صُبَّ في قالب. يمكن الاستهسال باختزاله بأنه واحد من "أصحاب الدكاكين"، على ما تصف أدبيات السياسة اللبنانية أمثاله، متهمة إياه بأنه ممن لا يميزون بين كتفهم اليمنى وتلك اليسرى، ما دامت البندقية قابلة للتكيف مع الاثنتين، وما دامت القضية قبل أي شعار آخر، هي المال. لكن "أبو بكر" يُظلم كثيراً اذا اختصر بذلك.
البرجاوي ليس زاهداً بالمال طبعاً، يتساوى بذلك مع مئات "الدكاكين" المفتوحة على جانبي سوق السياسة والخصومة اللبنانيين. كما أن سرّه ليس في اللغة المشهورة بخشبيتها، والمطواعة بتركيب عشرات العبارات من بضع مفردات هي: "المقاومة"، "العروبة"، "العدو الصهيوني" و"القضية الاولى فلسطين". يتقن الرجل، كغيره، هذه المنظومة اللغوية، وربما يؤمن بها، لكنه يرددها بآلية تزيل عنها أي مقدرة على الإقناع. ومع أنه حكواتي ممتاز يتمتع بذاكرة حادة ومنظمة وتلقائية، إلا أن مبالغاته الشديدة تؤدي عكس المطلوب منها.

سرّه في مكان آخر. جرأة وإقدام شديدان الى حد التهور. تهور يلامس الرغبة الدائمة بالانتحار، حتى يكاد يكون بقاؤه في "الحياة السياسية"، وفي الحياة عامة، مثيراً للذهول. وليس الاحتفاء الناري به أمس الاول إلا أبلغ دلالة على الذهول لأنه دائماً ينجو من ورطاته ويؤجل مشروع شهادته.
هي سيرة طويلة من التهور السياسي المشوب باعتداد عالٍ بالنفس، وبصورة مضخمة عن الذات لا تتطابق مع القياسات الموضوعية لها. و"أبو بكر" يتمتع بحس عالٍ من النزق والاستعداد للمغامرة، أقرب إلى لعبة "الروليت" الروسية التي لا تصح في العمل السياسي. وهو أصلا يجهل من هو. سياسي خلف مكتب أم عسكري في الحرب. يقاتل مرّة في العراق، ويرمى مرات في السجون السورية، وتطرده "حركة أمل" من "الطريق الجديدة"، قبل سنوات كثيرة من إقدام "المستقبل" على الخطوة عينها. تحبسه مخابرات أمين الجميل. ويتعرض لأكثر من محاولة خطف يتحول فيها إلى خبير ألعاب قتالية يرمي في خلالها من يحاول خطفه عن الشرفة. ينجو من الخطف بقوة ساعديه. وبعد سنوات طويلة يتهم بقضية الشيخ نزار الحلبي، ويخطف، بقوة ساعديه الدورية الامنية التي قبضت عليه. ويفر. ويزوّر جواز سفر ويحاول الهرب في البحر، فيُقبض عليه بحراً بعدما هرب براً. ويسجن ويعذب ويخرج بريئاً من القضية ويُحكم بالحبس عاماً لما فعله لعناصر الدورية. ويتهمه "المستقبل" لاحقاً بأنه كان وراء "غزوة الأشرفية" في الخامس من شباط 2006. ويعود ليصير حليفا لـ"المستقبل" في حماية ثغور "الطريق الجديدة". ثم يعلن بعد السابع من ايار 2008 انه في خندق واحد مع "حزب الله". وتمضي حياته هكذا، في أحداث وغرائب أخرى مما لا تليق إلا بجيمس بوند، ولا تقع في حياة واحدة لشخص عادي، فكيف لسياسي لا يحكي عن نفسه إلا بصيغة الجمع.

وفي السيرة ذات الأحداث المستمرة كثير مما يصدق ومما لا يصدق. على أن الأكيد أن شاكر البرجاوي صنارة حية للمشاكل التي يجلبها لنفسه. وهو، لشدة ما يقع في المشاكل، يعيش تناقضاً هائلاً بين صورته الرصينة كرئيس حزب "يستقبل ويودع ويزور ويصرح إثر اللقاء"، وبين صورته الاخرى مساقاً إلى سجن، أو مهزوماً في معارك عسكرية لا يصمد في خلالها أكثر من ساعات، في ما يدل على ضعف قدراته وعلومه العسكرية معاً، بعكس ما يحاول الإيحاء به حين يحكي، من أنه عسكري مُجرّب وعتيق.. ومن أنه حيثية شعبية وسياسية كبيرة.
وفي التناقض بين ما يشاء لنفسه، وبين ما ينتهي إليه بعد كل "وقعة" من وقعاته، الكثير من الهزل الذي يلفّ شاكر البرجاوي، حتى لا يملك الواحد إلا الضحك إزاء "أبو بكر كيشوت" الرائع هذا.. وهو يخوض معاركه، أو تخاض ضده المعارك. وتنتهي دائماً بخسارته.

وهو ضحك كان ليكون مقبولاً، ولربما شارك فيه شاكر وأعداؤه معاً، لولا أن حرباً حقيقية وقعت قبل يومين، وسقط في خلالها ضحايا آخرون أسماؤهم أضيفت إلى اللائحة الطويلة لغبائنا العام والمستعر والمستعاد هكذا، بلا أي أمل لنهاية له يوماً ما. وهو غباء ممتد فوق الجميع ولا يستثني أحداً.
خرج أبو بكر للمرة الألف من "طريق الجديدة"، "مهزوماً"، وفي الغالب "مكسور الوجدان"، على ما تقول قارئة فنجان نزار قباني. لكنه عائد إلى "الطريق الجديدة". لا بدّ عائد. هذا قدره الذي لا مانع له، سوريّاً كان خصمه أم من "أمل" أم من "المستقبل". لا يعرف شاكر ما شكل الطواحين خارج "الطريق الجديدة"، لذا لن يجيد القتال ولا التنفس ولا حتى الانهزام خارجها.
أي شكل لعودته، أي اسم لحزبه، أي موقف في السياسة.. هذه تفاهات لا يُعوّل عليها. الأساس هو أن يعود "أبو بكر" إلى حاضنته الاولى والاخيرة، ليكون واحداً من أشهر أبطالها الشعبيين، وأكثر من هزمتهم طواحينها عناداً، واستعداداً دائماً للتهور.. وإصراراً غريباً على البقاء.

السابق
قلق خليجي
التالي
فعاليات صيدا ترفض التفلت الأمني: لا للخـروج عـن ثـوابـت المدينـة