الحرب على إيران أقل ضجيجاً وأكثر دهاء

يبدأ اليوم رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي زيارته إلى واشنطن في أجواء تصعيدية شديدة على الإدارة الأميركية، بهدف إجبارها على اتخاذ خطوات أكثر صرامة حيال إيران وبرنامجها النووي. وسبقت الزيارة أخرى مماثلة لوزير الحرب إيهود باراك قبل أسبوع تصب في السياق ذاته، وهو حشد قوى الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية ضد إيران. ولأن السنة الحالية هي سنة الانتخابات الرئاسية الأميركية، تكتسب هذه الزيارات الإسرائيلية المتلاحقة أهمية خاصة، بعد أن أصبح الملف النووي الإيراني ملفاً انتخابياً بامتياز في سباق الرئاسة الأميركية.
الشاهد أن حرباً قد بدأت بالفعل على إيران مع مطلع العام، ولكنها ليست حرباً عسكرية توضع فيها خرائط المنشآت النووية الإيرانية ومواقع تمركز الجيش الإيراني على موائد القادة العسكريين والسياسيين، وتستعرض فيها كثافة النيران المهاجمة، ويتم خلالها تقدير وحساب مواقف الدول الإقليمية والدولية المختلفة. إنها حرب من نوع مغاير، أقل ضجيجاً وأكثر دهاءً. وإذ خيضت الحروب على مر التاريخ لانتزاع مكاسب سياسية، إلا أنها لا تمثل بذاتها هدفاً، بالمثل معلوم أن الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة. ومنطقياً يؤدي الضغط الاقتصادي على أي بلد إلى انتزاع تنازلات سياسية منه، هنا بالضبط يتشابه الاقتصاد مع الآلة العسكرية، في كونهما سوياً يبتغيان حصد مكاسب سياسية، وإن اختلفت الوسيلة والطريقة.
يتواكب، وفق هذا المقتضى، التلويح العسكري ضد إيران مع تصاعد غير مسبوق في العقوبات الأميركية والأوروبية الاقتصادية عليها للوصول إلى النتيجة ذاتها. في الحالة الراهنة، أي الحرب الاقتصادية – النفطية، توضع منحنيات أسعار النفط وجداول الانتاج وحصص التصدير والاستيراد للدول المختلفة على مائدة القرار الغربي، وتستعرض بالمقابل قدرات الدول المستوردة في التلاعب بالمصدرين عبر الضغوط، وكذلك مواقف الدول المصدرة والمستوردة للنفط ومصالح كل منها والسلوك المتوقع منها حيال الأزمة. هنا ينبغي ملاحظة أن حرباً عسكرية لم تقع حتى الآن على إيران – مع عدم استبعادها كلياً – وإنما اقتصادية تواجه إيران في غمارها عقوبات اقتصادية هي الأقسى في تاريخ جمهوريتها الإسلامية حتى الآن. حيث أقر الاتحاد الأوروبي حظراً نفطياً على إيران في مطلع العام الحالي، منضماً في ذلك إلى الولايات المتحدة الأميركية، التي أقر مجلس نوابها حظراً للتعامل مع البنك المركزي الإيراني مع نهاية العام الماضي، وهو ما يعني ضمناً منع استيراد النفط من إيران. لذلك يتم استهداف إيران عبر تقليص قسري لإيراداتها المالية، بسبب أن عائدات النفط – منذ عقود طويلة – تمثل الشطر الأعظم من الموازنة العامة الإيرانية. ومع تفاقم أزمة الموارد وضغوط التضخم من الداخل، يأمل المُعاقِبون (بكسر القاف) في انتزاع تنازلات إيرانية سياسية بخصوص ملفها النووي.
تأتي العقوبات الأميركية والأوروبية الأخيرة على إيران كموجة ثالثة من العقوبات النفطية على إيران في تاريخها الحديث، إذ بدأت الموجة الأولى مع قيام الزعيم الوطني الإيراني محمد مصدق بتأميم النفط الإيراني عام 1951، حينذاك قامت شركة النفط الأنغلو ـ إيرانية (بريتيش بتروليوم حالياً) بحظر استيراد النفط الإيراني، في محاولة منها لثني دول شرق أوسطية أخرى أن تحذو حذو طهران في تأميم نفطها، وهو ما لم ينجح في النهاية. وجاءت الموجة الثانية بعد قيام الثورة الإيرانية 1979، عندما فرضت الإدارة الاميركية وقتذاك حظراً على استيراد النفط من إيران، على الرغم من أنها كانت تستورد وقتها، نصف مليون برميل نفط يومياً من إيران. ولكن الأخيرة أفلحت في إعادة توجيه صادراتها النفطية إلى أسواق أخرى متغلبة على هذا الحظر بعد مرور فترة قليلة نسبياً. هنا يفيد تقليب النظر في تقديرات الأطراف الغربية وحسابات الدول المهنية والبدائل المتاحة أمام إيران لمقاومة الضغوط، في توقع السيناريوهات المختلفة للحرب الاقتصادية الدائرة ضد إيران على المستوى القصير، أي خلال الأشهر القليلة المقبلة.
 

يقود تقليب النظر في الحسابات الأوروبية – أميركا تملك احتياطات من النفط تؤهلها للصلابة أكثر في هذه الحرب – إلى حقيقة مفادها أن دول الاتحاد الأوروبي تستورد نصف مليون برميل يومياً من النفط الإيراني، كما أنها استوردت حتى وقت قريب مئة وخمسين ألف برميل نفط يومياً من سوريا، ثم عادت فأوقفتها بسبب الانتفاضة الشعبية هناك. ويزيد الحسابات الأوروبية تفاقماً أن ليبيا – أحد المصدرين النفطيين التقليديين إليها – غير مستقرة راهناً ولم تستعد كل طاقاتها التصديرية بعد، لذلك فمن المتوقع أن يزيد قرار الحظر النفطي على إيران من الأخطار المحتملة على أوروبا. في هذا السياق تظهر السعودية باعتبارها طوق النجاة الأوروبي، حيث تملك بقدراتها الانتاجية الضخمة القدرة على تعويض النقص في الأسواق النفطية الأوروبية، ولكن السعودية لن تقدم – على الأرجح – على تعويض النقص في المعروض النفطي بالكامل. ويعود السبب في ذلك إلى أن إقدام السعودية على ضخ المزيد من النفط قبل خروج النفط الإيراني من السوق، سيعني فائضاً في العرض من شأنه دفع الأسعار إلى الهبوط وبالتالي تقليص العوائد السعودية منه. وحتى في حالة دخول الفائض النفطي السعودي إلى الأسواق الأوروبية بعد خروج النفط الإيراني منها، ستعمد طهران إلى إجراء خفوضات على أسعار نفطها لإغراء الدول المختلفة بشراء نفطها. في هذه الحالة سيتوجب على السعودية أن تجري خفوضات هي الأخرى على أسعار نفطها، ما يجعلها غير قادرة على الاستفادة كثيراً من تصدير كميات إضافية. كما أن ذلك الوضع سيكبح قدرة الرياض على تعديل اختلالات السوق العالمية للنفط، وهي أهم ورقة استراتيجية تملكها السعودية على الساحة العالمية.

قررت أوروبا أن حظرها النفطي على إيران سيدخل حيز التنفيذ بحلول شهر يوليو/تموز القادم؛ بغرض إتاحة الوقت أمام دولها الثلاث الأكثر تضرراً من هذا الحظر، أي إيطاليا واليونان وإسبانيا، للبحث عن بدائل جديدة لوارداتها النفطية. ولكن هذه المهلة ستعطي – للمفارقة – فرصة لإيران كي تبحث عن زبائن جدد لنفطها، لذلك لوحت طهران بأنها ستوقف تصدير نفطها إلى أوروبا في الفترة القليلة القادمة كإجراء وقائي، على الرغم من أن ذلك التلويح – لو وجد طريقه إلى التنفيذ دون بدائل فعلية – سيزيد من صعوبة الوضع الاقتصادي الإيراني الراهن. وإذا ما وسعنا دائرة الحسابات في الحرب الراهنة لقياس مواقف الأطراف الثالثة، لأمكننا توقع أن تركيا والهند ستتمسكان بوارداتهما النفطية من إيران، ومن المتوقع أن تبررا ذلك بغياب غطاء دولي من مجلس الأمن للعقوبات النفطية على إيران. أما اليابان وكوريا الجنوبية، المعتمدتان على المظلة الأمنية الأميركية في حماية أمنهما القومي، فستعمدان إلى خفض وارداتهما من النفط الإيراني، نظراً لاعتمادهما الشديد عليه في تغطية حاجاتهما من الطاقة. على الأرجح سيتحول شركاء إيران التجاريون إلى المقايضة السلعية معها، وبالتالي يستمرون في استيراد النفط منها مع تجنب التعامل مع بنكها المركزي. في هذا السياق تردد أن الهند قد تدفع ذهباً لقاء النفط الإيراني، ويمكن لدول أخرى لها علاقات تجارية متشابكة مع إيران، أن تحذو حذو الهند. وإذ بلغ الميزان التجاري بين تركيا وإيران حوالى 15 مليار دولار في عام 2011، فقد اتفق البلدان في وقت سابق على زيادته إلى 20 مليار دولار في العام الحالي، ويتوقع أن يرتفع الميزان التجاري بين البلدين إلى مستوى 30 مليار دولار بحلول العام 2015، وهذه الأسقف المرتفعة معطوفة على الجيرة الجغرافية يمكنها تسهيل عمليات المقايضة بين طهران وأنقرة. أما الميزان التجاري لإيران والصين فقد وصل إلى مستوى 29 مليار دولار العام 2010، وعاد ليرتفع إلى 41 مليار العام 2011، ما يؤهله بوضوح للدوران برشاقة حول العقوبات المفروضة على البنك المركزي الإيراني.

ستستفيد روسيا من الحظر النفطي على إيران، لأنها أكبر مصدر للنفط في العالم ويهمها الاستحواذ على حصة أكبر من سوق الطاقة في أوروبا، وهي مالكة بالفعل لأكبر حصة في سوق الطاقة الأوروبي، لذلك يتوقع أن تسارع روسيا إلى تعويض النقص في المعروض النفطي بالسوق الأوروبية، بغرض إدامة سيطرتها وبالتالي تظهير هذه السيطرة الروسية إلى أوراق سياسية مقابل أوروبا. ستكون الصين أيضاً في مقدم الرابحين من الحظر النفطي على إيران، فهي ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم، وستستفيد من الحسومات الإيرانية الاضطرارية على نفطها الموجه إلى آسيا. ولما كانت الصين في طريقها لاستكمال «المخزون الاستراتيجي النفطي» بطاقة مئة مليون برميل – طبقاً لبيانات الوكالة الدولية للطاقة – لذلك ستضطر إلى رفع مستوى استيرادها، المرتفع أصلاً، من الطاقة لتعبئة هذا المخزون. في هذه الحالة ستستطيع إيران تصدير كمية إضافية من النفط فوق حصتها الاعتيادية إلى الصين، وهي كمية إضافية تتراوح بين 450 ألفاً إلى نصف مليون برميل يومياً ولمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر متواصلة.. وهي بالمناسبة الكمية نفسها التي تصدرها إيران إلى دول الاتحاد الأوروبي قبل قرار الحظر على نفطها.

ستتضرر إيران من هذه العقوبات، حتى في حال نجاحها بكسب شركاء جدد أو تصدير نفطها عبر المقايضة، فقد لا تضمن تصدير نفطها بالكامل. ومن المتوقع أيضاً أن تهبط احتياطياتها النقدية من العملات الأجنبية، مثلما ستتقلص قدرتها على تمويل وارداتها من الخارج، ومن الممكن أن يترافق ذلك مع نسبة التضخم المرتفعة بالفعل، ليتسبب كل ذلك سوياً، في ضغوط اقتصادية مؤلمة. ولكن نظراً إلى تجارب إيران التاريخية في التعامل مع العقوبات النفطية، ووجود بدائل متاحة أمامها لإعادة توجيه الصادرات فضلاً عن تقاطع مصالحها مع مصالح أطراف ثالثة وازنة، مثل الصين والهند وتركيا واليابان وكوريا الجنوبية؛ فمن غير المرجح أن يستطيع الغرب ترجمة حربه النفطية على إيران إلى مكاسب سياسية.. على الأقل خلال الأشهر القليلة القادمة.
يبقى في النهاية السؤال المفصلي معلقاً برسم الإجابة: هل ستنضم أطراف دولية أخرى غير أميركا وأوروبا إلى العقوبات الغربية ضد إيران، فتدخل الأخيرة في دوامة اقتصادية يريدها خصومها فترضخ سياسياً في النهاية، أم ستستفيد إيران من تجاربها التاريخية – مع اختلاف الظروف – في إعادة توجيه صادراتها النفطية والالتفاف على العقوبات النفطية الغربية عبر إغراء المستوردين الآسيويين؟
يلخص هذا السؤال لب المعارك الدائرة الآن بين إيران والغرب، أما التلويح العسكري الإسرائيلي ضد إيران وزيارات باراك ونتنياهو المتكررة إلى واشنطن، فلا تعدو أكثر من موسيقى تصويرية صاخبة بغرض حشد الأطراف الدولية المختلفة، وفي مقدمها أميركا، في حرب دائرة فعلاً أقل ضجيجاً وأكثر دهاءً … حرب تتوسل النفط والضغط الاقتصادي وليس الآلة العسكرية لانتزاع تنازلات سياسية ونووية من طهران!

السابق
فوز بوتين بالرئاسة بنحو 60 في المئة من الأصوات.. هل تبدّل الموقف من دمشق؟
التالي
حزب الله في عالم يتغيّر