هل الوجود المسيحي في خطر··؟

فجأة··· ومن دون مقدمات مُقنعة، كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن <خطر يُهدّد المسيحيين في لبنان وسوريا>، وأن ما يسمى <تحالف الأقليات> يصلح درعاً للوجود المسيحي في الشرق، وأن فرز الصوت المسيحي عن أصوات الناخبين المسلمين، يُشكّل ضمانة للمسيحيين في لبنان!!·

وألهبت دوّامة المزايدات خيال بعض السياسيين الذين ذهبوا إلى حدّ المطالبة بالفرز المذهبي لأصوات المسيحيين، بحيث ينتخب الصوت الأرثوذكسي للمرشح الأرثوذكسي فقط، والصوت الماروني للمرشح الماروني فقط، والناخب الكاثوليكي لابن طائفته فقط··· وهكذا، بحجة تمكين المسيحيين، في مختلف المناطق ومن مختلف المذاهب، من اختيار نوابهم بأنفسهم، ومن دون أية مشاركة من شركائهم في الدائرة الانتخابية، وفي الوطن، وفي العيش المشترك، سواء أكانوا من المسلمين أم من المذاهب المسيحية الأخرى!·

وحرص بعض من حضر اللقاء الأرثوذكسي، على أن يصبّ الزيت المذهبي على نار الهواجس الطائفية والفئوية، وراح يُروّج لفرز الأصوات المسيحية في الانتخابات، وكأن المسألة أصبحت مطلباً وطنياً لا غُبار عليه، من دون الأخذ بعين الاعتبار ردود الفعل عند مكونات النسيج اللبناني، والتي من شأن الخوض فيها الآن أن يُلهب النقاش الطائفي، ويُذكي التمايزات المذهبية، في وقت يعتبر فيه البلد بأمسّ الحاجة إلى استعادة وحدته الداخلية، وطي صفحة الخلافات السياسية المتفاقمة، ومغادرة الانقسامات العامودية، حتى يتمكن من مجابهة العاصفة الهوجاء التي تضرب المنطقة، والتي زلزلت وجود أنظمة، كانت حتى الأمس القريب تعتبر عصماء عن كل اضطراب داخلي أو تغيير!·

أولاً، لا بدّ من الاعتراف بحق كل فريق أو حزب سياسي أن يطرح من الأفكار والمشاريع السياسية ما يريد· وكذلك الأمر بالنسبة لحق كل طائفة أن تعبّر عن هواجسها، وتبحث عمّا يحمي وجودها ودورها في المعادلة اللبنانية·

ولكن لا يحق لأحد، سواء أكان طائفة أم حزباً أم مجلساً ملّياً، أن يطرح من المشاريع الانتخابية، أو الصيغ السياسية للنظام اللبناني، ما يعتبر خروجاً عن منطق <الوحدة في إطار التنوع>، أو ما يمكن أن يشكّل طعنة جديدة لصيغة العيش الواحد بين اللبنانيين، أو حتى ما يمكن اعتباره أفكاراً خبيثة تباعد بين اللبنانيين، وتستغل خلافاتهم السياسية المعهودة، لإعادة الترويج للمشاريع التقسيمية المشبوهة، التي تُهدّد ليس بتفتيت الكيان اللبناني وحسب، بل وشرذمة وتقسيم أكثر من دولة في المنطقة·

هذا الكلام لا يعني، ولا يجب أن يعني لأحد، إقفال أبواب النقاش حول القانون الانتخابي الأفضل قبل حلول استحقاق الانتخابات النيابية عام 2013، كما أن هذا الكلام لا يعني أن أية مقاربة سياسية أو فكرية للنظام الطائفي الحالي هي بمثابة <تابو> يرتقي إلى منزلة المحرمات الوطنية· ولكن ثمة بون شاسع بين البحث عمّا يحفظ وحدة الوطن، أرضاً وشعباً، والخوض في متاهات تُباعد بين اللبنانيين، وتُغذّي انقساماتهم، وتهدد وحدة الشعب والأرض والوطن·

وغريب أمر بعض الساسة المتلاعبين بالغرائز الطائفية، والحساسيات المذهبية، كيف يرون أن العودة إلى دولة الانتداب في ثلاثينيات القرن الماضي، التي اعتمدت نظام <الصوت المذهبي>، بحيث أن الناخب يصوّت فقط لمرشح من مذهبه، كما أوردنا سابقاً··· إن هذه العودة أفضل عندهم من البحث عن صيغ ديمقراطية عصرية تجمع اللبنانيين، في أحزاب سياسية تعتمد مبادئ المواطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بعيداً عن التحزبات الطائفية أو المذهبية البغيضة، وتعمل على تطوير العمل السياسي والممارسة الديمقراطية الصحيحة، عبر رؤى وبرامج سياسية وطنية، تؤدي إلى إنقاذ المواطن اللبناني المعذب من كوابيس المزايدات الطائفية والمذهبية الرخيصة، التي تؤجج التناقضات بين اللبنانيين، وتزرع بذور التفرقة بين أبناء المنطقة الواحدة، والمدينة الواحدة، والقرية الواحدة!·

 

إن ضمان الوجود المسيحي في الشرق العربي، لا يكون بعزل المسيحيين عن مجتمعاتهم العربية، وهم في الأساس جزء أصيل لا يتجزأ منها، وعاشوا في كنف الأكثرية الإسلامية، وفي ظل الامبراطوريات والممالك التي تعاقبت على المنطقة منذ ألف وأربعمائة سنة، بسلام ووئام، حيث لم يُسجّل التاريخ وقوع مجازر في الشرق العربي، شبيهة بتلك التي وقعت بين الكاثوليك والبروتستانت مثلاً في الغرب الأوروبي إبان العهود الوسطى·

بل العكس تماماً، لقد ارتفع دور المسيحيين المتفاعلين مع محيطهم فوق الحساسيات الطائفية، وتجاوز الاختلافات الدينية الضيّقة، إلى رحاب الريادة والتميّز في قيادة حركات النهضة العربية المتتالية، اللغوية والثقافية أولاً، ثم السياسية والحزبية ثانياً وثالثاً ورابعاً، ولعبت شخصيات تاريخية من أمثال أحمد فارس الشدياق، وجرجي زيدان، وأنطون الجميل، في قيادة النهضة الثقافية واللغوية والصحافية التي حافظت على اللغة العربية كعصب قومي أساسي للأمة· وجاءت بعدهم مجموعة من المثقفين المسيحيين الذين اطلقوا عدداً من الأحزاب على أسس قومية ومبادئ علمانية، تجاوزت الاعتبارات الطائفية والمذهبية والمناطقية، وأسست للحياة الحزبية في إطار من الممارسة القومية البعيدة عن التشوهات القطرية، فكان أنطون سعادة والحزب السوري القومي الاجتماعي في لبنان، وجورج حبش مؤسّس حركة القوميين العرب على أطلال نكبة فلسطين، وميشال عفلق وحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا·

لا ندري إذا كان أصحاب المزايدات الطائفية الرخيصة، يُدركون جيداً أن الخوض في الكلام عن <الصوت المسيحي للمرشح المسيحي>، قد يفتح أبواب جهنم للمتلاعبين بنيران التجييش الطائفي، ويؤدي إلى تقويض <صيغة المناصفة> التي نص عليها الطائف ميثاقاً ودستوراً، وبالتالي يُعيد البحث إلى أساس الأكثرية العددية، فضلاً عن توزيع المناصب والصلاحيات، الامر الذي لا طاقة للناس على تحمله في هذه المرحلة المشحونة بكل أنواع التوتر والتعقيد، محلياً وعربياً وإقليمياً!·

إن مشاعر الإحباط لم تعد وقفاً على المسيحيين وحدهم من دون مواطنيهم الآخرين من الطوائف الأخرى، والأسباب معروفة ولا تحتاج إلى مزيد من شرح وتفصيل·

ولكن الحفاظ على الوجود المسيحي الفاعل، والمتفاعل مع محيطه، لا يكون باعتماد منطق التقوقع الطائفي والعزل الديني، بل من خلال العودة إلى تجارب الروّاد المسيحيين الذين أطلقوا الأحزاب العلمانية، الوطنية والقومية، بعيداً عن الهواجس المقلقة على الوجود المسيحي في لبنان والمنطقة·

المسيحيون في الشرق، هم بأكثريتهم الساحقة، من صلب الأمة العربية، وهم جزء لا يتجزأ من تكوينها وكيانها، شاء أهل الانعزال والتقوقع أم أبوا·

والخطر المحدق حالياً بالمنطقة لا يتهدّد المسيحيين وحدهم، بل هو تهديد لكل شعوب دول المنطقة، بغض النظر عن هوياتهم الطائفية أو العرقية·

ومتى كان العدو الصهيوني، ومَن وراءه، يُميّز بين المسلم والمسيحي من ضحاياه في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن؟·
 

السابق
اللواء: الراعي في الجنوب يشدّد على الشراكة ··· وانتقادات جعجع تتفاعل
التالي
الجمهورية: ميقاتي يرأس في نيويورك جلسات مجلس الأمن: الانتقائيّة في القرارات الدوليّة لا تخدم لبنان