عميل ونقطة على السطر

نجح فريق الدفاع عن المحكوم بالتعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية، فايز كرم، في تحويل ملفه من أمني ـــ قضائي، إلى قضية سياسية. كان هذا الفريق مسنوداً بتيار سياسي عريض، ووسائل إعلامية واسعة الانتشار، وبخصوم لا يتورعون عن إدخال أخطر القضايا في زواريبهم.

وبعد صدور الحكم، صار من الواجب على المدافعين عن فايز كرم أن يصارحوا جمهورهم، وأن يعيدوه إلى الموقف الذي أطلقه النائب ميشال عون بعد أيام على توقيف كرم، عندما تحدّث عن «سقوط الشخص»، مذكراً بتجربة السيد المسيح ويهوذا الاسخريوطي. فمن حق هذا الجمهور ألا يبقى في موقع الدفاع عن عميل مدان بالتعامل مع إسرائيل، نال حكماً مخففاً لأسباب عديدة، أبرزها الانقسام داخل هيئة المحكمة خلال المذاكرة التي سبقت إصدار الحكم.

فهذا الجمهور خضع خلال العام الماضي لـ«ضخ» جعله متيقّناً من أن كرم ضحية سياسية لفرع المعلومات، من دون التوقف عند المعطيات الآتية:
أولاً، أوقف فرع المعلومات كرم بناءً على المعطيات ذاتها التي سمحت له بتوقيف أكثر من 20 عميلاً إسرائيلياً، صدرت بحق بعضهم أحكام بالإعدام أو بالسجن المؤبد، فيما لا يزال البعض الآخر يخضع للمحاكمة. ومن أبرز هؤلاء علي منتش (إعدام) وأسامة بري (إعدام) وهيثم الظاهر (مؤبد) وزياد السعدي (20 سنة) والعميد المتقاعد من الأمن العام أديب ع. وناصر ن. ومعظم من أوفقوا بعد صيف عام 2009 كانوا قد أتلفوا الأجهزة والمعدات التي تسلموها من الإسرائيليين، بناءً على أوامر مشغليهم.

ثانياً، إن فايز كرم أقر بتعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية أمام فرع المعلومات، ثم أمام النيابة العامة، وكذلك أمام قاضي التحقيق العسكري (حيث لا ضغط ولا تعذيب ولا تهديد). وعندما تراجع عن إفادته أمام قاضي التحقيق، قال إن الإسرائيلي الذي كان يتواصل معه هو دبلوماسي في السفارة الإسرائيلية في لندن! وأمام المحكمة العسكرية، لم يستطع فايز كرم تبرير اتصالاته برقمي الهاتفين النمسوي والألماني اللذين تستخدمهما الاستخبارات الإسرائيلية. وعندما قال كرم إن هذين الرقمين يعودان إلى صديق له، يدعى جو حداد، يعيش في فرنسا ويحاول تسوية مشكلاته الضريبية مع السلطات الفرنسية، قال له رئيس المحكمة العسكرية: «أحضر صديقك، وسنبرئك». لكن جو حداد بقي سراباً، ولم يقدّم كرم ووكلاء الدفاع تبريراً مقنعاً للأسلوب الأمني المعتمد في الاتصالات.

ثالثاً، إن جميع أجهزة التحقيق في لبنان تعتمد أسلوباً شديداً (يصل إلى حد التعذيب أحياناً) في التعامل مع الموقوفين، وخاصة منهم المشتبه في ارتكابهم جرائم خطيرة، وأبرزها التعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية. لكن فايز كرم كان استثناءً في هذا المجال، على حد تأكيد عدد كبير من المعنيين، وبحسب تأكيد النيابة العامة والأطباء الذين عاينوه بعد 4 أيام فقط على توقيفه، وهو ما تبنّته المحكمة العسكرية في متن حكمها. ومن غير المفهوم بعد سبب تمنع فرع المعلومات عن تزويد المحكمة بتسجيل مصور لتلك الجلسات، رغم أن عارفي آليات العمل في «المعلومات» يؤكدون أنه لا يترك تحقيقاً مماثلاً من دون تسجيله. لكن هذه التسجيلات، وعلى ما يؤكد غير قانوني جنائي، ليست دليلاً بحسب القوانين المرعية الإجراء في لبنان، وعلى رأسها قانون أصول المحاكمات الجزائية.

رابعاً، صحيح أن المحكمة العسكرية أصدرت حكمها بناءً على المعطيات المتوافرة في الملف الموجود بين يديها. لكن ذلك لا يحجب النقاش حول الحكم، وخاصة لناحية كونه مخففاً، إذا ما قورن بغيره مما أصدرته المحكمة ذاتها. فالقضاء تعامل مع كرم كما لو أنه «عميل عادي»، مفترضاً أن مشغليه الإسرائيليين كانوا سيطلبون منه تحديد مواقع للجيش والمقاومة. إلا أن كرم لا يشبه غيره، لكونه ينتمي إلى فئة «عملاء الصف الأول» الذين يمثلون قيمة استراتيجية للاستخبارات الإسرائيلية. فالرجل وصل إلى أبواب المجلس النيابي، وكان مرشحاً ليدخله في أي انتخابات. أضف إلى ذلك أنه واحد من المقربين من العماد ميشال عون، وله علاقات سياسية وأمنية في طول البلاد وعرضها، مع ما يتيحه له ذلك من قدر كبير من المعلومات المهمة، ويمنحه قدرة للتحكم بمجرى الأمور في عدد من الملفات التي يتولى إدارتها أو سيترشح لها مستقبلاً. أمام هذا الواقع، لم يكن منتَظراً من كرم الاعتراف بأنه أدلى بمعلومات تؤدي إلى قصف جسر ليجري تشديد الحكم بحقه.

اما تفصيل تخفيف الحكم عن كرم بسبب أوضاعه الصحية، فمشروع معه السؤال عن سبب عدم شموله غيره من العملاء، كزياد الحمصي وزياد السعدي على سبيل المثال لا الحصر. وهنا، لا يجد المطالبون بتشديد الحكم بحق كرم أملاً سوى في النيابة العامة التي لها حق تمييز الحكم وطلب تشديده، لكي لا يكون ملف فايز كرم سابقة يُبنى عليها مستقبلاً، لتعيش البلاد من جديد تجربة الأحكام «الجماعية» المخففة بحق عملاء ميليشيا لحد عام 2000.

خامساً، ليس التيار الوطني الحر استثناءً في لبنان، بل هو مستهدف، أكثر من غيره ربما، من قبل الاستخبارات الإسرائيلية، لكونه حليفاً لحزب الله والمقاومة. وبعدما ضبط حزب الله ثلاثة عملاء في صفوفه، لم يعد من الجائز تعظيم فايز كرم، ورفع شأنه إلى ما فوق مصاف المقاوم الذي واجه العدو مباشرة… ثم سقط في الامتحان.
سادساً، إن من أصدر الحكم هو المحكمة العسكرية، أو القضاء «التابع» للمؤسسة التي يثق بها العونيون، أي الجيش اللبناني الذي لن يتآمر مع فرع المعلومات على فايز كرم.

السابق
البناء: حزب الله: لاستغلال صبرنا حدود ويد الخارج ستُقطع وخطة الكهرباء تنتظر المخارج قبل الأربعاء واجتماع في السراي اليوم
التالي
الاخبار: الكهرباء خلاف تقني مستمرّ