الانتفاضة: الطغيان أو عودة الاحتلال!

فرضت أنظمة القمع على الشعوب العربية خياراً بين أمرين كلاهما مسيء إلى حاضرها ومدمر لمستقبلها: إما الاستسلام لحكم الرجل ـ الحزب ـ التنظيم الواحد والسكون والتخلي عن حقوقها البديهية في أوطانها، وإما الانتفاض على الظلم ورفض المهانة ومواجهة السلطة بأجهزتها البوليسية المتعددة والشرسة مما يتهدد «الدولة» في وجودها ويتهدد المجتمع في وحدته.

كانت التجربة القاسية الأولى في العراق حين تولى الغزو العسكري الأميركي، المسكوت عنه عربياً إلى حد التحريض، إسقاط صدام حسين في أوائل نيسان 2003، فكانت النتيجة اندثار تلك الدولة العربية الكبرى وذات القدرات الممتازة والتي كان الطغيان قد حوّلها إلى «دوقية» خاصة به وببعض عشيرته وبعض أعوانه الذين أنقذتهم المصادفات أو الغفلة من مصير سائر «رفاق النضال المجيد»!.

… وها هو العراق، الآن، مجموعة من الكانتونات، بعضها يتكامل نمواً تحت الحماية الأجنبية المباشرة، وبالشراكة شبه المعلنة مع إسرائيل، خارجاً من الدولة المركزية وعليها، وبعضها الآخر يجنح إلى الانفصال بذريعة حماية حقوق الأقليات، في حين يتمسك بعض ثالث بوحدة الدولة لأنه في موقع صاحب السلطة تاركاً خيار الانفصال قائماً كبديل جاهز لاستقلال كل طائفة بإقليمها (ونفطها)، تحت لافتة خادعة للدولة الاتحادية أو بالأحرى اتحاد الدويلات الطائفية والعرقية في أرض الرافدين.
أما التجربة القاسية الثانية فنعيش فصولها المأساوية الآن مع الشعب العربي في ليبيا، الذي يحاول إعادة تجميع «فتافيت» دولته التي جعلها «بطل ثورة الفاتح» جماهيرية لا سابقة لها في التاريخ الإنساني ووزّع السلطة والثروة والسلاح فيها على أبنائه، …

وها قد أخذت «النخوة» الحلف الأطلسي إلى التدخل بنيران أساطيله الجوية والبحرية وبعض الأكفأ من رجال مخابراته لاستنقاذ النفط بآباره والأنابيب ومصافي التكرير وموانئ التصدير، مع مراعاة حصص القبائل والعناصر (حتى لا ننسى الأمازيغ) في الثروة والسلطة. بعد ذلك يمكن البحث في أمر «الدولة» وهل تكون مركزية أو تعود إلى صيغتها الملكية، ولايات يضمها اتحاد تحت التاج. خصوصاً أن أهل النفط العربي ـ وكلهم أصحاب سمو ـ كان لهم دور حاسم، على الأقل مالياً، في «تحرير ليبيا» من الطاغية الذي جمع في شخصه كل ما عرف الأباطرة والملوك والسلاطين من أسباب السلطة المطلقة، ثم أضاف إلى ذلك بعض ما اختص به الأنبياء والرسل وحَمَلة كلمة الله!

تمكن أيضاً الإشارة إلى ما أصاب الدولة المركزية الوليدة في اليمن من أعطاب وتصدعات وتشققات تنذر بتفككها وعودة القبائل إلى سابق «استقلال» كل منها بمنطقتها، لا سيما أن تجربة «الحكم الشيوعي» في الجنوب كانت بائسة بحيث يستحيل التفكير باستعادة نموذجها الدموي، كما أن مصالح المحيط الملكي المذهب تسعِّر الفتنة في اليمن كشرط لإدامة الاستقرار في جواره حتى لو اقتضى الأمر جعل «قوة دفاع الجزيرة» أقوى من الحلف الأطلسي بأسلحته وأساطيله جميعاً.

وبرغم اختلاف الأحوال في تونس عنها في ليبيا، سواء ما اتصل منها بالدولة أو ببنية المجتمع،
وبرغم رسوخ «الدولة المركزية» في مصر وتماسك النسيج الاجتماعي فيها.
وبرغم قوة النظام في سوريا وصموده في وجه معارضيه من دون أن ننسى ثقل الكلفة الدموية والاقتصادية التي تكبدتها هذه الدولة الفقيرة بمواردها.
برغم ذلك فإن تصدعات خطيرة قد ضربت هذه المجتمعات نتيجة الثورات والانتفاضات الشعبية مهددة تماسكها وأهليتها لتحقيق أهدافها في بناء الدولة الحديثة، أقله بالسرعة التي كان الأمل معقوداً عليها.

وإذا كان لا خطر ـ مبدئياً ـ على الدولة المركزية في مصر، ولا مخاطر داهمة تتهدد وحدة المجتمع في تونس، وذلك لأسباب تاريخية، فإن شعوب معظم أقطار المشرق العربي تعيش حالة من القلق على «دولها» بعدما صيّرت الأنظمة الحاكمة فيها ذاتها بديلة عن «الدولة»، فصار الخطر على النظام خطراً على تماسك المجتمع وخطراً على وحدة الدولة.
ومن المكابرة إنكار التخوف على عودة المجتمعات التي كانت قد عرفت طريقها إلى العصر من الغرق في جاهلية سياسية جديدة إذا ما سقطت «الدولة» برصاص الأنظمة الحاكمة فيها، قبل معارضيها.

وهناك ملاحظة لافتة ومؤسفة في آن، في هذا المجال، خلاصتها أن مجتمعات ما قبل الدولة المركزية، تلك التي يحكمها السيف معززاً بالذهب الأسود، والتراث المقدس، أحياناً، تبدو وكأنها خارج دائرة الصراع المحتدم الآن في مختلف أرجاء الوطن العربي بين القوى الجديدة المطالبة بالتغيير وبين الأنظمة التي توحدت مع الدولة حيث تحكم وتتحكم بحيث يكاد يتوحد شعار إسقاط النظام مع العمل لإسقاط الدولة.
إن ثمة ظاهرة عربية لا يمكن إنكارها في العديد من الأقطار: لقد توحدت الدولة والنظام والمجتمع، وإلى حد كبير، في «شخص» يساعده بضعة من المعاونين، فإذا ما سقط هذا الشخص أو أسقط بانتفاضة شعبية (بعد اندثار عهد الانقلابات العسكرية) تهددت الدولة بالتفكك وانهار النظام وتبعثر المجتمع عائداً إلى مكوناته الأولى، أي الأديان والطوائف والمذاهب والعناصر القومية أو الإثنية، بما يفرض على العاملين للتغيير مهمة صعبة إلى حد الاستحالة.

ما من شك في ان المجتمعات العربية تعيش حالة من النشوة وهي ترى الجماهير تحتشد في «الميدان» مطالبة بإسقاط الأنظمة الدكتاتورية التي تحكمها منذ دهور، فتحجر على آمالها وقدراتها كما على حركتها وأنشطتها المعبرة عن طموحها إلى غد أفضل.
لكن هذه المجتمعات تخاف من ذاتها، وبالتحديد من ضعف قدراتها ومن نقص استعدادها لصنع المستقبل الأفضل. فهي بلا قيادات مؤهلة، أو انها لا تعرف هذه القيادات التي كانت مطاردة بالقمع بحيث تخفي كفاءاتها أو تنفي نفسها إلى الخارج، وبالتالي فهي كانت غائبة أو مغيبة، قد يحفظ لها الناس بعض التقدير ولكنهم لا يسلمون ـ آلياً ـ بأنها هي هي قيادتهم إلى الغد الأفضل.
وإذا كانت مصر تختزن في ملايينها الكثيرة مئات الآلاف من الكفاءات وأصحاب الخبرات والتجارب الغنية في العمل السياسي «المضبوط» ضمن حدود ما لا يقلق الشعب أو يثير مخاوفه..
وإذا كانت تونس غنية بتجاربها الحزبية والنقابية في عهد ما قبل الطاغية زين العابدين بن علي..
فالمؤكد ان القيادات الجديدة التي أطلقتها الميادين وتعرّف إليها «الشعب» في سياق الحركة لإسقاط الطغيان، تحتاج إلى مزيد من الزمن وإلى كثير من المعرفة بمجتمعها ومن الخبرة بأسباب إعادة بناء الدولة، قبل ان تتقدم لتتصدر الجموع هاتفة بحزم: اتبعوني!
لقد كان بديل الطغيان في حالات محددة أولها عراق صدام حسين وآخرها جماهيرية القذافي، الاحتلال الأجنبي، أميركياً أو أطلسياً، أي الاستعمار مجدداً.
ومن نافلة القول التأكيد ان الاستعمار هو نقيض مطالب الشعوب في التحرر وفي استعادة الكرامة المفقودة وفي بناء الدولة الواحدة الموحدة المؤهلة والقادرة على تحقيق مطامح شعبها.
إن الأزمة التي تعيشها الأمة أخطر من أن تحسمها الانتفاضات الشعبية، وإن كان هذا الحراك الجماهيري هو المدخل الطبيعي إلى المستقبل.
والمسافة طويلة بين النزول إلى الشارع وبناء الدولة.

وأخطر المخاطر: الاستعجال وارتجال الحلول، أو استسهال طلب المساعدة ممن استولدوا لنا دولاً لا تملك القدرة على الحياة، فكيف بالاستقلال والسيادة والعزة والكرامة؟!
… خصوصاً أن أهل الثروة العربية يقفون في الجبهة المناهضة لقيام دول عربية قوية ومؤهلة لصنع الغد الأفضل، ويفضلون الحلف الأطلسي على الثورة، ولا يخفون كراهيتهم للجمهوريات فكيف بالتحرر والعدالة الاجتماعية والتقدم وبناء مجتمعات الكفاية والعدل، قبل الوصول إلى تحرير فلسطين؟!

إن معركة التغيير في الوطن العربي ثورة عالمية… وصعوبتها تماثل خطورة إنجازاتها التي من شأنها ـ إذا ما تحققت ـ أن تصنع غداً جديداً للإنسان في الأرض جميعاً.
فهل نحن جاهزون لمعركة بهذا المجد؟!
ذلك هو السؤال.

السابق
في مهمّة رئيس حكومة حالي!!
التالي
بيت المهاجرين: لحقوقها الجاليات في لبنان