نحو مؤتمر أول لـ “الانتفاضات العربية”

ليس صحيحا انه من الافضل والاقرب لروح العصر، ان تكون الثورات مقطوعة الرأس، بلاقيادة، ولا افكار جامعه وقابلة للبلورة ضمن صياغة محايثة للمستقبل، خاصة في مجتمعات ثقافتها مدمرة، تقادم عليها الزمن وهي تُسحق وتزور.

1 – لم تترك انطلاقة الانتفاضات في بدايتها، اي مجال للتساؤل عن الديناميات، او اذا ما كانت بنية البلدان العربية تنطوي على محركات موضوعية ومادية، تكفل للحركة الجماهيرية كمال الانتقال التاريخي. لقد طرأ تساؤل عن موضوع "الديموقراطية"، ربما عرضا ومن دون اعلان، ليذكر بالعوامل التي جعلت اوروبا والثورة الفرنسية في مقدمتها، تنتقل الى العصر الحديث على مستوى النظم والممارسة السياسية. ولم ينتبه سوى البعض، وفي دوائر ضيقة للغاية، الى قوة دفع الانقلاب الصناعي والثورة البورجوازية هناك، والى مجمل حركة التنوير التي امتدت لعدة قرون متوالية، بحيث توافق الانقلاب المجتمعي والمفهومي مع المتغيرات المادية، فولد بصعوبة، صورة جديدة مبتكرة للتاريخ وحياة الانسان، طبع واقع اوروبا المعاصر.
لا توجد مثل هذه العوامل / التاريخية / في الواقع العربي. هنالك قهر مديد، ثمة اذلال قديم مستمر، وسحق لانسانية الانسان. هنالك تبديد لايتوقف للكرامة الشخصية والوطنية والقومية، هنالك استهتار واستئثار بالسلطة والثروة، وامتهان للوطن والمواطن، كل الشرائع والقوانين موجودة هنا، وكل الشرائع والقوانين مستباحة، وموضوعة بيد ثلة تطوعها كما تشاء، هنالك اوهام لاتحصى منتشرة.
هذا كله يمكن ان يصنع انفجارا او انفجارات. انتحارا علنيا يقول ان الحالة تجاوزت كل طاقة على الاحتمال، وان العيش اصبح ممتنعا، بينما انتصر عليه الموت واحتل مجاله الطبيعي. ذلك قديكون هو المعنى الكامن وراء الانتفاضات، وصحوة الجموع، بعد الانتحارالمشهدي الذي اشعل تونس. فالذين رابطوا في الميادين والطرقات والساحات، كانوا يريدون استعادة شيء من الطاقة على تحمل الوجود، وليس الكرامة فقط كما اشيع. هل هذه سياقات مؤاتية لانتقال نحو مجتمع آخر؟ لم يمض وقت طويل حتى تبين ان الامر اعقد بكثير مما ظهر للوهلة الاولى. فالامتهان والآلام، وطول امد الاكراه والاذلال، حوّل الحلم الى وليمة يومية هبطت من السماء. وغياب اليوم المعاش وامتناعه الكلي، خلط الوهم بالحقيقة. لقد دخلت بعض الظواهر المستجدة مثل دور الشباب، فاعلية وسائل مستحدثة (الفيسبوك)، ودور الاعلام (الجزيرة)، مجال تغذية وتكبير الاماني، ومحاولات الخروج من نفق الموت، فتحولت بدايات الانتفاضات الى "ثورة او تكاد". كان العقل بحاجة الى موجه اكبر، الى جهة قادرة على الارتفاع الى الاعلى، ورؤية نواقص الموقف الفادحة. الاعلام سد حاجة تعبوية لا اكثر وكشف عن اضطراب وتداخل مستويات متعارضة من الفهم. التعليقات اليومية المواكبة، كانت كلها جزءا من ترسانة القمع. الفضائيات سقطت في الامتحان، وبدأ فجر اعلام آخر.
ليس صحيحا انه من الافضل والاقرب الى روح العصر، ان تكون الثورات مقطوعة الرأس. بلا قيادة، ولا افكار جامعه وقابلة للبلورة ضمن صياغة محايثة للمستقبل، خاصة في مجتمعات ثقافتها مدمرة، تقادم عليها الزمن وهي تسحُق وتُزوّر. اليوم يجب ان نكون قد تمكنا من اكتشاف الحقيقة: ليس في العالم العربي حاضر معاش. هنالك ماض، الناس يعيشون في رحابه كأنه حاضر، وهنالك حاضر منقول مترجم. الماضوية والاستعارة، احتلال المجال المسمى افكارا ومفاهيم، والثورة الحالية، تحمل وزر ومعنى، ليس البحث والقتال من اجل استعادة حيز الحياة من براثن الموت، بل، انتزاع الحاضر وازالة ركام الاتربة عنه. ازالة محتليه الاثنين: الماضوية والاستعارة.
-2 حينما تتعثر الخطوات، يبدي العالم القديم قدرة اكبر على الصمود. تتشقق اللحمة الاولى بعد سقوط الطغاة، تتغير الشعارات لتعدد التفسيرات، وظهور توازنات اخرى وتحورات وتغيير جلود وسحن، تتباين حسب المواضع، وتبلور خطر الانتهاء الى "ديموقراطية منقوصة"، والتوقف عندها، او حتى اعادة انتاج نظم استبداد جديده. هكذا تكبر وتتعدد الطرق والاثمان التي ينبغي دفعها، تصبح اعادة انتاج الخرافات الوطنية شأنا متداولا. مركزية مصر، محوريتها، وكون الخارج لن يسمح بالتغيير الجذري فيها، لأنها ستغير وجه الشرق الاوسط. استثنائية التجربة السورية. خصوصية تونس وفرادة الحالة الليبية. ينبغي تغيير النظر الى المواضع بقسوة. مصر تحدث فيها ثورات خلال فترات متباعدة جدا، لكنها ليست بلد الثورة او بلد الحلول الجذرية. ايقاعها بطيء هي بذاتها، وخرافة مركزيتها الثورية، يكذبها طول غيابها ورخاوتها كخاصرة. مصر هي بذاتها ليست بلد حسم، ولا علاقة للغرب بذلك. مصر ليست بؤرة ثورة وتثوير، وهي بحاجة اليوم كما في الماضي، الى مساعدة الآخرين. وسوريا ايضا، من أين تأتي يا ترى بالديناميات؟ من التاريخ ام خاصيات لحمة لا وجود لها. اقليم ضعيف، يكتسب اهميته من كونه بلد مواجهة. قبل ذلك، كان طريق قوافل وممر امبراطوريات. وبلد دول – مدن، ومجال تنازع قوى (تذكروا زمنا قريبا من الصراع على سوريا)، وموضع ردة الثورات الكبرى، تحولت هنا ثورة الاسلام الى "وراثة". لماذا ومن أين تأتي الاستثنائية، سوى من وهم اكتساب الاهمية والوزن اقليميا (بلد مواجهة)، بعد الثورة الاسلامية والفتح، مواجهة الامبراطورية البيزنطية، واليوم مواجهة اسرائيل. الشعار الذي يستحق ان يرفع هو ان كل المواضع منقوصة، كلها تحتاج الى الكل، والديناميات في مكان اخر، عند مستوى اعلى.
مكان واحد له شيء من الاستثنائية، العراق. والسبب انه واقع تحت الاحتلال، وفيه عملية سياسية تمارس "الديكتاتورية الانتخابية"، وتسميها "ديموقراطية". دعك من الحروب او الغزو الاميركي، والاحتراب الداخلي. الاستثنائية هنا مثلا، ان يعرف بلد 23 الف انفجار، خلال خمس سنوات تزيد على كل ما عرفته الكرة الارضية خلال نصف قرن من انفجارات. 18 الفا منها انفجرت بالناس المدنيين. سحقت هنا وانهارت دولة حديثة عمرها 82 سنه، لتطفو على اثر انهيارها مكونات ما قبل الدولة. والعراق اول بلد عربي تحرر رسميا عام 1932. اول بلد عرف الانقلابات العسكرية في العالم الثالث عام 1936، وهذا البلد مع ذلك فيه انتفاضة الان ايضا. واذا كانت هنالك انتفاضة في مثل هذا المكان، فإنها لا بد ان تكون استثنائية، لانها انتفاضة ما بعد انهيار الدولة المسماة حديثة، ما بعد التفكك الاجباري، والاحتراب الداخلي، هي انتفاضة اعادة البناء بالديموقراطية والتحرر، والذهاب من اللحمة بالقوة الى الوحدة طوعا.
لا وجود للاستثنائية. ينبغي تبني مفهوم الاستثنائية العربية، والبحث عنها، هل خيار العالم العربي اليوم تكرار لما فعلته اوروبا الحديثة ؟ ثمة ايهام يمارسه الغرب والاوربيون، يسعى لادماج النهوض الحالي بالمنجز الاوروبي، هذا امر يترابط بسهولة مع حملة تدخلات، وخطط، ومساعي احتواء. بينما تظهر الديموقراطية (الانتفاضات) وكأنها اقل وطنية مما ينبغي، اكثر تساهلا في ما يخص مقتضيات "التحرر الوطني"، كأنما هنالك شبح تعميم للـ"الجلبية" العراقية… وهو ما بدأ يثير شبهات ونظرات مشككة، ويبعث على صعيد اخر، اعتراضات فلسطينية، ما افاد منه حكام ونظم ديكتاتورية، لاتزال صامدة في وجه الانتفاضات، مما يوحي بأن اعادة صياغة وتجديد خطاب تلك الانظمة، ومن يحيطون بها، ليس بالامر المستبعد تماما. يجب بناء عليه ان تقرأ أشياء حساسه على هذا الصعيد.
3 – ليست ماضوية ولا هي استعارة. العالم العربي يدخل بوابة "الدورة الثالث" من النهوض الحضاري المستقل. كيف؟ هنا يكمن حديث خطير ومهم للغاية. ينبغي تجديد الخطاب العربي ومغادرة ما يسمى خطاب عصر النهضة والاصلاح. نحن امام ثورة تاريخية، فأين عناصرها وأين تكمن؟ كلها اسئلة هي اسئلة الساعة. لا ينبغي الاصغاء لهؤلاء الذين يرفضون "الخصوصية" لمصلحة تكريس الهيمنة الفكرية والحضارية الغربية. هذا العالم اي عالم التاريخية التوحيدية، له خصوصياته وآليات تحكم انهياره وصعوده، يجب عدم تحويل الخصوصية الى سيطرة للماضي. ففي هذه المنطقة الحضارية مستقبل سينبع من داخلها ايضا. الماضي انتهى ولم يعد قادرا على الاستمرار، والانتفاضات الحالية اشارة حاسمة الى قرب تلك النهاية، كل هذا معناه اننا بحاجة لان نلتقي ونتحاور.
ينزعج الفلسطينيون اليوم، مع قوميي الحقب الماضية، واصحاب الشعارات، من بعض الظواهر المرافقة للانتفاضات. هذا أمر جدير بالملاحظة ولا بد من الاجابة عليه. هنالك حاجة الى تجديد "مفهوم العروبة". ولا شك بأن من الاشياء القاسية، ان لا تكون المسألة الفلسطينية من هنا فصاعدا "قضية العرب الاولى" او المركزية حسب التوصيفات الفجة المعروفة. وعليه ينبغي توضيح هذا التحول وتبريره. بعض القوى العروبية والقومية من بقايا عهود ماضية، تغادر الآن مسرح التاريخ، لكنها تفكر ايضا باللحاق بالركب، انها تعقد مؤتمرات، بينما الانتفاضات منشغلة بوقائع التغيير. "المؤتمر القومي الاسلامي" يؤيد التغيير، وهو تجمع عقيم، مفعم بالنظرة التسلطية التي تدعم النظام المنهار.
يوم كانت فلسطين "قضية العرب المركزية"، بنيت النظم والأحزاب، على اساس قانون يؤمن ارجحية الكيان الاسرائيلي الموضوعية ما دامت الديكتاتورية والقهر لازمان للتحرير. في المقابل العسكر والاحزاب الايديولوجية، ومفهوم العرب والعروبة غير المطابق، والمستعار من مفاهيم الغرب وحداثته، لم يكن قابلا لتأمين الغلبة، سوى على المجتمعات العربية وسحق ارادتها. اليوم لابد من دمج مفهوم العروبة بالتغيير القائم على اسس ومحركات الانتقال الى "الدورة الحضارية الثالثة". فلا انتصار على اسرائيل، الا عبر تحقق النهضة الحضارية العربية. وقتها فقط يتراجع المقومان الغربي والتوراتي، الواقفان خلف مشروع اسرائيل، وتصعد الثورة التوحيدية الحديثة في سماء المنطقة من جديد. واذن فالذي يلح اليوم، هو المشروع الحضاري الشامل، وهذا يجعل من المباشرة في التركيز على مهمات، غير قابلة للتحقيق في وجود البنية السابقة، امرا منتهيا ولو كان مؤلما. فهذا هو المدخل للانتصار على اسرائيل، وتحقيق وحدة الامة في الحاضر، وبما هي امة الآن لا الأمس. امة الراهن المستندة الى حقائقها واصول تاريخها.

( كاتب عراقي )

السابق
تداعيات الاستبداد والتعصب والنرجسية
التالي
قليلاً من التواضع!