تداعيات الاستبداد والتعصب والنرجسية

ان عصرنا الحالي نزع مجددا نحو الافكار التسلطية والاستبدادية والتعصبية، اصحاب هذه الافكار يعيشون في عالم لا واقعي مع تضخم مرضي مزمن ومتزايد لصورة الذات…

يقول علماء النفس إن التعصب هو اتجاه نفسي اجتماعي، اي صبغة وجدانية مصاحبة للحكم المسبق الذي ليس له أي سند يدعمه. ويتميز هذا الاتجاه بالتصميم المغرض والتفكير غير المنطقي وهذه كلها تعتبر من مقومات تعريف التعصب بل مكوناته. وهناك تعصب ايجابي وتعصب سلبي. فعلى سبيل المثال تعصب الكنيسة قبل النهضة كان تعصباً سلبياً. وكما قال الدكتور فؤاد زكريا إن اوروبا لم تستطع ان تحقق نهضتها الفكرية والعلمية والفنية إلا بعد الصراع مع الكنيسة، وفي هذا الصراع التعصبي سقط شهداء كثيرون أشهرهم جوردانو برونو الذي احرق حياً في القرن السادس عشر، لانه كان يؤمن بدوران الارض حول الشمس، “ولم تخل حياة اي فيلسوف او عالم من مشكلات مع رجال الدين”.
لقد كانت الكنيسة متشبثة بافكارها وعقيدتها كما تعصبت ضد المرأة (مراسيم البابوات، المرأة الشيطان) حيث حطمت تماثيل المرأة آلهة الجمال والخصوبة والحب، لذلك وجد البعض ان التعصب هو حكم سلبي مسبق. بل هو اتجاه سلبي ايضاً تجاه جماعة خارجية. وهذا الاتجاه نفسه موجود عند المستبد. وكما يقول الكواكبي: “قد تعد فرائض المستبد من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل والخطابة الأديبة، والخلاصة يخاف المستبد من هؤلاء العلماء لا من العلماء المنافقين او الذين حفرت في رؤوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة”.
ونستنتج هنا ان بين الاستبداد والتعصب رابطة وجدانية وانفعالية غير منطقية وكلاهما يعبر عن اتجاهات نفسية اجتماعية وهناك حرب دائمة بين المتعصب المستبد والعلم فبينما يسعى العلماء الى تنوير العقول يجتهد هذا الى اطفاء نورها.
اتجاهات علم النفس الاجتماعي الحديثة وخبرات الطب النفسي الحديث تقول ان التعصب مرض نفسي اجتماعي لا يختلف في بعض اعراضه عن الامراض العقلية. لذلك يميل البعض الى دراسة التعصب ضمن الاضطرابات النفسية باعتباره مرضاً او اضطراباً.
فالمتسلطون الاستبداديون والمتعصبون يتميزون بعدم الاستقرار الوجداني نتيجة شعورهم بعدم الأمان وتعرضهم للقلق والصراع والتوتر نتيجة الاحباط المتفاقم بحكم التربية لذلك يبحثون عن كبش فداء لتحميله المسؤولية في فشلهم وبالتالي يتوجهون نحوه بالعدوان.
كذلك فإن البناء اللاشعوري للمستبد المتسلط يتشابه مع البناء اللاشعوري للمتعصب وكذلك مع البناء اللاشعوري للبارانويدي لأن كل التداعيات البارانويدية الموجودة لدى المستبدين والمتعصبين ما هي إلا بعض الوسائل التي يمكن من طريقها ازاحة كل انواع القلق والصراعات والمعارك الداخلية الى العالم الخارجي.
أما الهذاء في الحالات المرضية وخاصة البارانويا فهو جزء من شخصية المريض لا يمكن أن يحيد عنه، مثال على ذلك: “إذا اعتنق فكرة أو رأياً لا يمكن أن يغير رأيه، فالانسان العادي يستطيع أن يغير ويعتقد ويصرح بأنه مخطئ، والفرق بين الفصام والبارانويا فرق في نوعية الهذاء، إذاً إن جنون العظمة وجنون الإضطهاد هو إضطراب في الناحية الشعورية، والسبب الرئيسي للمرض يعود الى الكبت “صراع عقلي عنيف بين رغبات الفرد في إشباع بعض نزعاته من جهة وخوفه إذا فشل في اشباع هذه الرغبات لتصادمها مع المثل العليا، ونتيجة الكبت والصراع يشعر المريض بالندم وتأنيب الضمير ويعكس هذه المشاعر على الآخرين إذا يعتقد أنهم هم المسؤولون عن ذلك لذلك يتولدهم الشعور بالإضطهاد، وفرويد أرجعها الى الكبت الجنسي أو رغبات جنسية مثلية مكبوتة”.
وبإيجاز إن الشعور بالإضطهاد هنا حالة دفاعية يقوم بها الفرد نتيجة شعوره بالنقص.
كذلك تبرز العلاقة بين المستبدين والمستعصبين جلية واضحة وهي خروجهم عن الدرب من أجل فكرة أو مثال، ويستطيع المستبد المتعصب أن يضحي بالآخرين في سبيله، ولدى المتعصبين تمرد على كل شيء كامل يسعون لإحلاله محل ما ينقصهم. وبالنسبة الى الحالتين هناك قاسم مشترك هو التقلص الذهني وهبوط في الاهتمامات تجاه ما لا يكون غرضاً من أغراض هواهم ولديهم يقين لا يتزعزع في صحة أفكارهم، إسقاط العدوانية على الآخر:
إذاً في كلتا الحالتين التعصب والاستبداد يمنحان الأمان المعرفي وتوطيد النرجسية وغالباً ما يجري في الحركات التعصبية تعبئة الناس. وهناك حركات تعصبية خالصة لا تضم سوى أناس مجروحين نفسياً وكذلك المستبدون الذين يسعون لفرض الارهاب على الآخر وجعله يعيش ما يعانونه هم أنفسهم.
إن عصرنا الحالي نزع مجددا نحو الافكار التسلطية والاستبدادية والتعصبية، واصحاب هذه الافكار يعيشون في عالم لا واقعي مع تضخم مرضي مزمن ومتزايد لصورة الذات. والافراد الذين يستبدون ويتعصبون يرون انفسهم اصحاب قدرة كلية مختلفة عن الآخرين ويجتذبهم افق تغيير ما، لا سيما الأمل بتحويل مفاجئ لظروف حياتهم.
إن رحلة الفكر الغربي في مجال الاستبداد والتعصب هي تراجيديا حقيقة في مجال الدين وعلى اساس العرف والطبقة وجدلية الدم. البروفسور هكسلي في المانيا، وآرثر جوبينو في ايطاليا والمدرسة العرقية ولجوؤها الى علم البيولوجيا لاسناد صحة افكارهم ومن ثم الفاشية والفكر الفلسفي الالماني ومبدأ القوة. هذه الرحلة طويلة قامت على العنف والحرب من ارسطو الذي كان عرقياً والذي كان من انصار الاسكندر والذي قضى قتلاً، الى هيغل ونيتشه وشوبنهور وما بينهم.
بايجاز ان رحلة العقل الغربي هي تجربة التخطي والمعارضة التي دفع ثمنها الكثير من الشك والخوف والصراعات، ان قصة العقل الغربي هي قصة كل عقل يثور على أصنامه، ويبدأ بمغامرة الثورة عليها، لقد قتل العقل الغربي في رحلته النظريات الدينية اللاهوتية (الفكر الديني) المتمثل بسلطة البابوات والكهنوت، بعملية قتل الأب بالمفهوم الفرويدي النفسي استرد العقل الغربي ذاته، باحقاق المعرفة العلمية والتجريبية والحسية المنطقية والرياضية.
وبايجاز تام حطمت الرموز في الغرب وتحطم كل يوم، وتستبدل في اطار تحرك تاريخي نحو المستقبل. وكل هذا التغيير جرى في الفكر والفلسفة والثقافة والسياسة وأخطرها في العلم.
وفي الشرق فإن رحلة العقل العربي والاسلامي قد جابهت الافكار الغربية وما زالت، ونأى الشرق بنفسه عن المشاركة او المساهمة في تغيير الواقع العربي والمشاركة في المشهد العالمي لأن آليات التفكير العتيقة لم تتفكك وبقي الماضي مسيطراً. وبقي بعض الاصنام التي ترمز الى الاستبداد والتخلف وغابت آليات الحداثة والتغيير في ظل نرجسية ثقافية ثبتت على بعض منجزات الماضي. وفي هذا العصر الكسيح قامت الانتفاضات العربية الحالية ولا أسميها ثورات لان للثورات برامجها وآلياتها ومفاهيمها وقواعدها، وصحيح انها كسرت الجمود والتكلس فمخاضها لم ينته بعد، وعليها ان تسير بحذر لكي تنأى بنفسها عن الأجندات الغربية والحلف الاطلسي لأن الشعب هو الذي يغير، ولم يأخذ الحكام درساً من التاريخ القديم، فالاسكندر المقدوني اكبر فاتح في الارض لم يبقَ من تماثيله التي ملأت الكرة الارضية اي أثر بل حطمت بكاملها بعد وفاته بفترة قصيرة جداً.
واخيراً أعود الى الوطن، حيث تسيطر النرجسية الفردية وادعاءات الاصلاح والتغيير وبعض الهذاءات التي ترتكز على توهم الفكرة والاعتقاد والقدرة الكلية والتمسك بالآراء التسلطية التي لا تعترف بالآخر، بل سخرت من اجل خدمة الذات والتمحور حول الذات مع أحلام وردية اللون، وتشن حرباً عن يمين وشمال نتيجة جنون العظمة والنرجسية المرضية.
ان الاستبداد وكما قيل يفسد العقول ويصادر شعور الناس واحساساتها، ان الاصلاح والتغيير في اوطاننا وفي امتنا لا يمكن ان يقوم بهما اشخاص متعصبون متسلطون، او شخصيات مضادة للروح الانسانية وللحرية والديموقراطية لذلك نسدي اليهم نصيحتنا: إرحلوا قبل ان يرحل الوطن.

السابق
المقاوم لا ينتقم والثائر لا يثأر…
التالي
نحو مؤتمر أول لـ “الانتفاضات العربية”