هكذا عارض سعد الحريري…

منذ إسقاط حكومته في الثاني عشر من كانون الثاني الماضي، وعد سعد الحريري بأنه سيقدم نموذجا فريدا في المعارضة على طريق عودة السلطة الى أصحابها كما قال قبل سبعة اشهر… ومع تأليف الحكومة الميقاتية، قطع عهدا على نفسه ألا يترك شيئا إلا وسيلجأ اليه لإفشال حكومة نجيب ميقاتي وإسقاطها.

سبعة أشهر من عمر معارضة سعد الحريري، تشكل فترة كافية لمحاكمة «النموذج الفريد» الذي قدمه زعيم المستقبل، فلا هو استطاع منفردا ولا بالتكافل والتضامن مع فريقه وحلفائه في 14 آذار، ان يضع نفسه في موقع القادر على القيام بمعارضة حقيقية، ولا وضع نفسه في موقع الرقيب والحسيب لحكومة ميقاتي، بل انه سارع الى كشف كل أوراقه فركز على البعد الشخصي للنيل من الخصوم، سواء التقليديين أو الجدد وفي مقدمهم ميقاتي.

في الأكثرية الجديدة، ينبري من يتهم الحريري بعدم الاكتراث بالاستقرار الداخلي أو بانطلاق عجلة المؤسسات في البلد، ويأخذون عليه اعتماده ما يسمونها «سياسة خبط عشواء» قائمة على قاعدة ان ليس لديه ما يخسره أكثر من خروجه من السلطة. وثمة الكثير من الادلة الحسية حول تلك السياسة، ليس أقلها استمرار الرهان على مبادرات خارجية والاعتماد عليها كـ«عكازات» يتكئ عليها في طريقه الى استرداد السلطة، وفي مقدمها المحكمة الدولية والأزمة السورية، بما تشكلانه من فرصة للثأر الشخصي وتصفية الحساب مع من قال انهما أخرجاه من الجنة الحكومية أي الرئيس بشار الاسد والسيد حسن نصر الله.

ولعل أكثر ما تبرزه محاكمة معارضة سعد الحريري انه نسف مقولة «الحياد» التي لطالما رفعها وفريقه، مقرونة بشعار «ثقافة الحياة» في معرض التمايز عما يسمونها «ثقافة الموت» المنسوبة الى «حزب الله»، وذلك من خلال اعتماد سياسة توريط لبنان في سياسة المحاور وفي صراعات عربية طاحنة، وفي هذا السياق جاء انضمامه المبكر الى جبهة الهجوم على نظام الأسد، ومن ثم تفاعله مع بيان الملك السعودي والتعامل معه وكأنه «البيان الرقم واحد».

وبمعزل عن تمنيات الحريري وفريقه، ثمة نتائج ستترتب على الحدث السوري، وأيا كانت الاتجاهات ستظلل المشهد اللبناني وقد تتحكم بمساراته في المرحلة المقبلة، فماذا لو جاءت الرياح بعكس ما تشتهي سفن الحريري وماذا لو خرج النظام السوري من الازمة الراهنة؟

إن أكثر السقطات خطورة في معرض محاكمة معارضة الحريري وفريقه، تتجلى في الخطاب المذهبي المستخدم ضد سوريا من دون تقدير عواقب هذا المنحى الذي قد لا يسلم منه أحد. وتتجلى ايضا بتقديم أدلة على وجود ما يشبه «دولة مستقلة عن الدولة» على حافة وسط بيروت التي يقال ان لها مرفأها الخاص ومنه يرسل السلاح سرا الى سوريا، ما قد يعني ان من يرسل السلاح في اليخوت يستطيع أن يستقدم عبرها ما هو أخطر تحت جنح الظلام، وثمة الكثير من الاسئلة حول هذا الموضوع لدى جهات أمنية رسمية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، ثارت ثائرة قائد المعارضة ردا على دعوة السيد حسن نصر الله السلطات البحرينية الاستجابة لمطالب الشعب البحريني. يومها بادر زعيم «المستقبل» الى الاتصال شخصيا بملك البحرين متضامناً ومتفهماً بيان الخارجية البحرينية ضد نصر الله، ويومها قرن الإجراءات البحرينية بحق اللبنانيين بحملة قاسية على «السيد» واتهمه بتهديد اقتصاد لبنان وبدفع الحكومات العربية الى التضييق على اللبنانيين في الخارج. وما دامت المسألة كذلك، ألا تشكل مواقف الحريري ضد النظام السوري تهديدا للاقتصاد اللبناني، وماذا لو قررت سوريا الآن وبعد اكتشاف عمليات تهريب السلاح و«هبة شباب التراويح» والبيان اللبناني المنشأ لـ«الاخوان المسلمين» ضد نجيب ميقاتي، أن تلجأ الى اعتماد خطوات احترازية ووقائية، كإقفال المعابر الحدودية مع لبنان أو التشدد في إجراءاتها على الحدود، أليس من حق سوريا أن تحمي أمنها وتمنع تدفق السلاح اليها، وألا يتسبب ذلك في اختناق لبنان، وبالمناسبة هنا، هل سيبقى الحريري متفرجا حيال ما يتعرّض له الشعب البريطاني؟

ولكن أمام هذه «النماذج الفريدة» التي قدمها سعد الحريري على مدى الاشهر السبعة الماضية، يبرز نموذج آخر قدمه نجيب ميقاتي، وسعى من خلاله الى تأكيد حضوره بتجنب الانزلاق الى فخ المواجهة السياسية في الداخل وبتقديم نفسه كرجل دولة منفتح ومدرك تماما للتعقيدات اللبنانية وخطورة المرحلة، وبانتهاج سياسة امتصاص الأزمات واستيعاب التناقضات وتنفيس محاولات استفزازه عبر سلوك منحى تهدئة الداخل والإثبات انه وحكومته يجسدان منطق الحاجة للجميع، للحفاظ على الحد الادنى من كينونة الدولة، وإظهار حكومته التي بدأت تتلمس ملفاتها على انها تقف على قاعدة انتاجية، وعلى الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والمعيشي.

على مدى الاشهر الماضية، أعطى ميقاتي نموذجا مختلفا عن نموذجه في العام 2005 وعن كل نماذج الحكومات اللاحقة، واذا كان الحفاظ على نقاط التواصل الداخلي هدفا اولَ له، يأتي بالقدر ذاته سعيه للحفاظ على الحد الادنى من ارتباط لبنان بالمجتمع الدولي. ويسجل له هنا المخرج الذكي الذي أوجده في ما خص بيان مجلس الامن الدولي من سوريا وسار فيه بين النقاط، فلم يصادم المجتمع الدولي كما لم يصادم سوريا كما كان يشتهي الحريريون، وأثبت انه يقيس بميزان لبناني وليس بميزان خارجي.
تماما كما تعامل مع بيان الملك السعودي حيال سوريا، حيث استند اليه ميقاتي للقول «ليس علينا ان نتدخل في الشأن السوري لأننا في النهاية قد نكون من أكثر الذين سيدفعون الثمن».

السابق
السفير: واشنطن تريد دعماً دولياً قبل المطالبة بتنحي الأسد توافق أميركي ـ تركي على «الانتقال إلى الديموقراطية»
التالي
نحاس: لانشاء مرصد للاسعار يمنع التجاوزات الحاصلة