قانون تجريم المقاطعة: إسـرائيل تفقد صوابها

 بعدما أصبحت مقاطعة البضائع الإسرائيلية، ومنتجات المستوطنات، والجامعات وغيرها، منتشرة في دول أوروبية عدّة، وبين الأفراد وناشطي السلام الغربيين، وحتى الإسرائيليّين، أخذت إسرائيل المبادرة، ودخل قانون تجريم المقاطعة بكل أشكالها حيّز التنفيذ الأسبوع الماضي. القانون الذي سيسمح لأي مستوطن بتغريم ناشطي السلام بملايين الدولارات، لقي استهجاناً كبيراً في الصحافة الغربية، والأميركية تحديداً. حتى أعتى المدافعين عن إسرائيل عدّوه دليلاً على رجعيتها وتعصبها، وعن كون القانون «لا يليق بديموقراطية إسرائيل»، كما عنونت صحيفة «نيويورك تايمز». ووصلت الأمور بجيفري غولدبرغ، أشرس الصحافيين الصهاينة، إلى الطلب من الأميركيين التوقف عن التبرع لنتنياهو. ولم يجد القانون من بين الصحافيين المشهورين من يجرؤ على الدفاع عنه.

النازية الإسرائيلية

أوري أفنيري *
منذ سنوات طويلة، قلت إنّ هناك معجزتين في إسرائيل: اللغة العبرية والديموقراطية.
كانت العبرية ميتة لسنوات، كاللاتينية تقريباً حين كانت تستعمل في الكنيسة الكاثوليكية، لكن فجأةً، ومع بروز الصهيونية (لكن على نحو مستقل عنها) عادت العبرية إلى الحياة. لم يحصل ذلك لأيّ لغة من قبل.
سخر ثيودور هرتزل من فكرة أن يتمكّن يهود فلسطين من التحدث بالعبرية. أراد لنا أن نتحدث الألمانية. قال ساخراً «هل سيطلبون بطاقات للقطار بالعبرية؟».
حسناً، نحن نشتري اليوم بطاقات الطيران بالعبرية. نحن نقرأ التوراة في نسختها العبرية الأصلية، ونتمتع بذلك كثيراً، كما قال أبا إيبان مرة، إذ أتى الملك دافيد ليعيش في القدس اليوم، سيتمكن من فهم اللغة المحكية في الشارع، لكن ببعض الصعوبة، فلغتنا تتعرض لبعض التغيير، كمعظم اللغات الأخرى.
في كل الأحوال، وضع اللغة العبرية آمن. الأطفال وحاملو جوائز نوبل يتحدثون بها.
لكنّ مصير المعجزة الثانية أقل استقراراً.
■ ■ ■
مستقبل ـــــ وفي الحقيقة حاضر ـــــ الديموقراطية الإسرائيلية في خطر داهم.
هي معجزة، لأنّها لم تتطور خلال أجيال، كما حصل مع الديموقراطية الغربية. لم يكن هناك ديموقراطية في المدن اليهودية الصغيرة في أوروبا. ولم يكن هناك ما يشبهها في التقاليد اليهودية الدينية، لكنّ الآباء المؤسسين الصهاينة، وهم في معظمهم يهود من اوروبا الوسطى والغربية، طمحوا إلى تحقيق أسمى الأفكار الاجتماعية في زمنهم.
لقد حذرت دوماً من أنّ للديموقراطية جذوراً سطحية وهشّة، وتحتاج الى اهتمامنا الدائم. أين كبر اليهود الذين أسسوا اسرائيل، وأتوا لاحقاً إلى هنا؟ لقد كبروا في ظل دكتاتورية المندوب السامي البريطاني، والقيصر الروسي، ودكتاتورية البروليتاريا، وملك المغرب، وبولندا في عهد بيلسودسكي، وانظمة اخرى مماثلة. من أتى منا من دول ديموقراطية، مثل ألمانيا في عهد حكومة فايمار أو الولايات المتحدة، كانوا أقلية صغيرة جداً.
لكنّ مؤسسي اسرائيل نجحوا في تأسيس ديموقراطية نابضة بالحياة، لم تكن، على الأقل حتى 1967، اقل من النموذج البريطاني او ذاك الأميركي، وربما كانت أفضل. كنّا فخورين بها، وكانت مثار إعجاب العالم اجمع. لم تكن مقولة «الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» شعار بروباغندا
فارغاً.
يدّعي البعض أنّ الفترة الذهبية انتهت مع احتلال الأراضي الفلسطينية، التي تستمر منذ 1967بالعيش تحت نظام عسكري قاس دون أي أثر للديموقراطية وحقوق الإنسان. مهما كان توجهك، اسرائيل، في الحقيقة، وداخل حدود ما قبل 1967، حافظت على سجل منطقي، إلى فترة غير بعيدة. بالنسبة إلى المواطن العادي، كانت الديموقراطية لا تزال طريقة حياة. حتى المواطنون العرب استمتعوا بحقوق ديموقراطية اعلى بكثير مما كان يوجد في العالم العربي.
هذا الأسبوع، اصبح كل ذلك في دائرة الشك. يقول البعض إنّ ذلك الشك انتهى، وباتت الحقيقة الفاقعة واضحة جداً.
■ ■ ■
لم يكن تشارلز بويكوت (CHARLES BOYCOTT)، وهو وكيل أحد ملاكي الأراضي البريطانيين في إيرلندا، يحلم يوماً بأن يكون له دور في دولة تدعى اسرائيل بعد 130 عاماً من تحوّل اسمه (BOYCOTT) إلى شعار عالمي.
طرد الكابتن بويكوت المستأجرين الإيرلنديين الذين تأخروا في دفع إيجار منازلهم، بسبب أوضاعهم الاقتصادية السيئة. رد الإيرلنديون بسلاح جديد: لم يعد أحد يتحدث إليه، أو يعمل معه، أو يشتري منه. أصبح اسمه ملازماً لهذا النشاط غير العنفي.
الوسيلة تلك كانت قد اخترعت قبل ذلك. اللائحة تطول، من بينها: في 1830 «عبيد» أميركا أعلنوا مقاطعة المنتجات التي يجبَر العبيد على صناعتها. الحركة المدنية الأخيرة في أميركا بدأت عبر مقاطعة شركة باصات النقل مونتغومري التي كانت تفصل السود عن البيض في مقاعد الجلوس. خلال الثورة الأميركية، أعلن المتمردون مقاطعة البضائع البريطانية، كذلك فعل المهاتما غاندي في الهند.
قاطع يهود أميركا سيارات هنري فورد الذي كان معروفاً بمعاداته للسامية. شارك اليهود في دول عدّة في مقاطعة البضائع الألمانية، مباشرة بعد وصول النازيين إلى السلطة في 1933.
قاطع الصينيون اليابان بعد اجتياحها بلدهم، كما قاطعت أميركا الألعاب الأولمبية في موسكو. كلّ من له ضمير حول العالم قاطع بضائع ورياضيي جنوب أفريقيا العنصرية، وساعد على إجبار النظام فيها على التنحي.
استخدمت كل تلك الحملات حقاً ديموقراطياً أساسياً: يحق لكل إنسان رفض الشراء من أشخاص يكرههم. يستطيع كل شخص أن يرفض ان يُستخدَم ماله لأمور تتعارض مع قناعاته الأخلاقية.
لقد جرى التشكيك في هذا الحق في اسرائيل هذا الأسبوع.
■ ■ ■
في 1997، أعلنت منظمة «غوش شالوم» للسلام مقاطعة منتجات المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة. نحن نؤمن أنّ تلك المستوطنات، التي بنيت من اجل إعاقة إعلان دولة فلسطين، هي خطر على مستقبل اسرائيل.
لم يحضر أي صحافي اسرائيلي المؤتمر الصحافي الذي أعلنّا خلاله تلك الخطوة، لكن المقاطعة ازدادت زخماً. مئات آلاف الإسرائيليين لا يشترون منتجات المستوطنات. الاتحاد الأوروبي، الذي يعامل اسرائيل كواحد من أعضائه وفق اتفاق للتجارة، أجبر على تطبيق فقرة من الاتفاق تعفي منتجات المستوطنات من الامتيازات.
هناك اليوم مئات المعامل في المستوطنات. لقد أجبروا، أو أُغروا ليذهبوا إلى هناك، لأنّ الأرض (المسروقة) هناك أرخص بكثير من اراضي اسرائيل. يتمتعون بمساعدات حكومية كبيرة وإعفاءات ضريبية، ويمكنهم استغلال العمال الفلسطينيين مقابل أجور منخفضة جداً. لا يجد الفلسطينيون وسيلة اخرى لإعالة عائلاتهم سوى الرضوخ لقامعيهم.
مقاطعتنا كانت تستهدف، من بين أمور اخرى، تهديد تلك المميزات. وبالفعل، رضخت العديد من المؤسسات الكبرى وتركت المستوطنات، تحت ضغط المستثمرين الأجانب والزبائن. بعدما أحسوا بالخطر، أصدر المستوطنون أوامرهم إلى الخاضعين لهم في الكنيست لإعداد قانون يواجه تلك المقاطعة.
الاثنين الماضي، دخل «قانون المقاطعة» حيّز التنفيذ، ما ادى الى عاصفة جدل قوية لم تشهد مثلها البلاد من قبل. يوم الثلاثاء الماضي، قدمت منظمة «غوش شالوم» التماساً من 22 صفحة إلى المحكمة العليا لإبطال القانون.
■ ■ ■
«قانون المقاطعة» هو عمل ذكي جداً. من الواضح أنّ بسطاء البرلمان لم يكتبوه بأنفسهم، لكن فعلت ذلك عقول قانونية ذكية، ربما بتمويل من بارونات المال والمتعصبين الإنجيليين الذين يساندون اليمين المتطرف في اسرائيل.
أولاً، القانون يتلطى خلف واجهة محاربة نزع الشرعية عن دولة اسرائيل حول العالم. يمنع القانون أي دعوة إلى مقاطعة دولة اسرائيل «من ضمنها المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية». وبما أنّه لا يوجد حتى عشرة مواطنين اسرائيليين يدعون إلى مقاطعة الدولة، من الواضح أنّ هدف القانون الوحيد والحقيقي هو تجريم مقاطعة المستوطنات.
في نسخته الأولى، عدّ القانون ذلك جرماً. كان ذلك سيناسبنا، فقد كنّا مستعدين للذهاب إلى السجن من أجل تلك القضية، لكن القانون، في نسخته النهائية، يفرض عقوبات من نوع آخر.
وفق القانون، يحق لأي مستوطن يشعر بأنّه تأذى من المقاطعة، المطالبة بتعويض غير محدود من أي شخص او منظمة تدعو إلى تلك المقاطعة، وذلك دون أن يضطر إلى أن يبرهن عن أي ضرر حقيقي. يعني ذلك أنّ كل واحد من المستوطنين الـ300000 يستطيع طلب الملايين من كل ناشط سلام دعي الى المقاطعة، مدمراً، بالتالي، حركة السلام بأكملها.
■ ■ ■
كذلك نبيّن للمحكمة العليا في التماسنا، أن القانون غير دستوري على نحو واضح. نعرف أنّ اسرائيل لا تملك دستوراً رسمياً، لكن هناك العديد من القوانين التأسيسية التي تعدّها المحكمة العليا مشابهة للدستور.
أولاً، يخالف القانون الحق الجوهري في حرية التعبير. النداء من أجل المقاطعة هو عمل سياسي شرعي، مثله مثل تظاهرة في الشارع، بيان أو عريضة جماعية.
ثانياً، يخالف القانون مبدأ المساواة. فهو لا ينطبق على أي نداء لمقاطعة أخرى موجودة اليوم في اسرائيل: من مقاطعة المتدينيين للمتاجر التي لا تبيع لحم حلال (الملصقات التي تدعو إلى تلك المقاطعة تغطي جدران المناطق المتدينة في القدس ومدن أخرى)، وصولاً إلى النداء الأخير الناجح لمقاطعة منتجات الأجبان بسبب أسعارها المرتفعة. سيكون نداء المتطرفين اليمينيين لمقاطعة الفنانين الذين لم يخدموا في الجيش شرعياً، أما إعلان فناني اليسار أنّهم لن يذهبوا إلى المستوطنات، فسيكون غير قانوني.
بما أنّ مواد القانون تلك تخرق القوانين الأساسية، فإنّ المستشار القانوني للكنيست، وفي خطوة غريبة، قال إنّ القانون غير دستوري ويقوّض «أساس الديموقراطية». حتى السلطة القانونية الحكومية الأعلى، أي «المستشار القانوني للحكومة»، أصدر بياناً قال فيه إنّ القانون هو على «حافة» عدم الشرعية. ولأنّه خائف حتى الموت من المستوطنين، أضاف إنّه سيدافع عنه رغم كل شيء في المحاكم. وسيضطر الى فعل ذلك قريباً، فقد منحته المحكمة العليا 60 يوماً للرد على التماسنا.
■ ■ ■
هناك مجموعة صغيرة من البرلمانيين ترهب أغلبية الكنيست وتمرر أيّ قانون تريده. قوّة المستوطنين كبيرة جداً، ويخاف نواب اليمين المعتدل (وهم على حق في ذلك) من أنّهم إذا لم يكونوا متطرفين كفاية، فلن ينتخبهم مجلس الليكود المركزي، الذي يختار المرشحين للانتخابات. يخلق ذلك منافسة حادة بين من يستطيع أن يبدو الأكثر تطرفاً.
لا عجب في أنّ القوانين المناهضة للديموقراطية تتوالى: قانون يمنع المواطنين العرب من العيش في تجمعات فيها اقل من 400 عائلة؛ قانون يسلب تعويضات الكنيست من الأعضاء الذين لم يحضروا استجوابات الشرطة (مثل عزمي بشارة)؛ قانون يسحب جنسية اشخاص أُدينوا بتهمة «مساعدة الإرهاب»؛ قانون يجبر المنظمات غير الحكومية على الإفصاح عن مصادر تمويلها الخارجية الحكومية؛ قانون يمنح الأفضلية في التوظيف الحكومي لمن خدم في الجيش (ويستبعد بالتالي معظم المواطنين العرب)؛ قانون يجرّم الاحتفال بذكرى النكبة (طرد المواطنين العرب من أراضٍ احتلتها اسرائيل)؛ ملحق لقانون يمنع (على نحو خاص تقريباً) العرب الذين يتزوجون من الأراضي الفلسطينية من العيش معهم في اسرائيل.
وقريباً، سيدخل قيد العمل قانون يمنع المنظمات غير الحكومية من قبول تبرعات تزيد على 5000 دولار من الخارج، وقانون سيفرض ضريبة دخل تتعدى نسبة 45 في المئة على اي منظمة غير حكومية، اذا لم تعفها الحكومة من ذلك. كذلك، سيدخل حيّز التنفيذ قانون يجبر الجامعات على غناء النشيد الوطني في كلّ مناسبة، وآخر سيعيّن لجنة تحقيق برلمانية للتحقيق في المداخيل المالية للمنظمات اليسارية.
كذلك يلوح خطر فصائل اليمين المتطرف الواضح في الهجوم مباشرةً على المحكمة العليا «الليبرالية»، وسلبها بالتالي قدرتها على إبطال القوانين غير الدستورية والسيطرة على تعيين قضاة فيها.
■ ■ ■
قبل إحدى وخمسين سنة، عشية بداية محاكمة ادولف آيخمان [عضو القوات الخاصة النازية، خطف من الأرجنتين وحوكم وأُعدم في اسرائيل]، كتبت كتاباً عن ألمانيا النازية. في الفصل الأخير، سألت «هل يمكن أن يحصل ذلك هنا؟». يبقى جوابي منذ ذلك الوقت صامداً: نعم. 

السابق
التغيير لمنع الفتنة
التالي
حناجر وأنامل و”بخاخ”…سيسقط النظام!