العلّامة اللاطائفي.. السيّد محمد حسين فضل الله

«إنّني أشعر بالاعتزاز لأنّني استطعت أن أفتح عقلاً على ما أعتبره الحقيقة، وأن أفتح قلباً على ما أدعو إليه من المحبّة، وأن أفتح حياةً على الخطِّ المستقيم.. إنّني أشعر بأنّ الله في ألطافه منحني أن أعيش مع كلّ النّاس دون أن أجد هناك أيّ حاجزٍ بيني وبين أحد. كنت ـ ولا أزال ـ أعيش مع الأطفال طفولتهم، ومع الشّباب شبابهم، ومع الشّيوخ شيخوختهم، كنت أحاول أن أعيش إنسانيّتي في إنسانيّة الآخرين، وحتى الآن، إنّني أشعر بأنّني كبير جداً عندما أجلس مع الصّغار من أجل أن أحدِّثهم بأسلوبهم الطّفوليّ. فأنا أذهب دائماً بين وقتٍ وآخر إلى مبرّات الأيتام التي أرعاها، لأجلس مع الأيتام، وأخطب فيهم خطبة طفوليّة أحدّثهم فيها بالأسلوب الطّفوليّ جدّاً عمّا آمله فيهم».

(السيد محمد حسين فضل الله)
أن تقف في حضرة السّيد، كاتباً عنه في ذكرى غيابه الأولى، أمرٌ يعتبر ـ شخصياً ـ في غاية الفخر والاعتزاز، حيث تندر في أيامنا هذه، وحتى في سابقاتها من القرن الماضي، شخصيات تؤثّر في من يكتب عنها، مثلما فعل سماحة السيد محمد حسين فضل الله فيّ، إنسانٌ يستحق، وبقناعةٍ مطلقة، أن تنحني أمامه الهامات احتراماً، وأن يخطّ القلم عنه كلماتٍ تصاحبها حالةٌ من التؤدة والحذر، لما تكتنزه حياة الراحل، من محطّات مضيئة، جعلت منه… علاّمةً بامتياز.

شخصيته غير اعتيادية، بل فوق العادة، هادئ لا ضعيف، رصين إلى حدود العنفوان، متواضعٌ حتى العظَمَة، معطاءٌ حتى التفاني، فقيهٌ ربّما وصل إلى حقيقة الكون والحياة والموت، حبيب قلوب الملايين، ولوهلة تظنّه أنه ملايين.. في رجل.
اختار الدين ودراسته والتعمق فيه منهجاً لحياته، قارب الأمور من الزوايا جميعها، حتى وصل إلى جملة حقائق، تُعتَبَر تَرِكَةً قيّمةً تُغْني الإنسان قبل المكتبات، فإلى جانب الأمور الدينية البحتة في جميع جوانبها، من عقائد وفتاوى واجتهادات وما إلى ذلك، لامس السيّد، لا بل غاص في شتّى أمور الحياة، ليخلق للناس في الحياة مسلكاً، وطريقاً بيّناً يحدّد فيها الخطأ من الصواب، والخطيئة من التميّز، والرذيلة من الحسنى.

منصف المرأة، وكاره الطائفيين، ومحبّ الأيتام وراعيهم، وعاشق العِلم والمعرفة، كان يومُ أمس، على موعدٍ مع ذكرى غيابه الأولى، غيابُهُ الّذي كان له أثرٌ كبيرٌ في قلوب الملايين من اللبنانيين، ومن العرب وبعض أهل الغرب، من محبّيه ومحترميه، ومن الذين قرأوا له أو سمعوه أو شاهدوه، كما كان لهذا الغياب الأثر الكبير في نفوس المفكرين والأدباء، ولا ننسى الأعداء الذين لا يريدون لهذه البلاد عِلماً ولا معرفة، ولا تقدّماً أو تطوّراً، هم الذين تربصوا به مرّات عديدة، فلاحقوه وتعقبوه، وزرعوا له العبوات الناسفة بغية اغتياله، ولا سيما ما جرى في منطقة بئر العبد سنة 1985، حيث ارتُكِبَت مجزرة كبيرة، ذهب ضحيتها عشرات المواطنين، جلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ العزّل، أما الهدف، فكان فضل الله الذي نجا من ذلك التفجير.

«الطائفيون لا يفهمون شيئاً من المسيحية ولا الإسلام»، من أقوال العلاّمة الراحل، قولٌ يحمل في طيّات كلماته المعدودة الكثير من المعاني، ويستحق أن يكون عنواناً لكتاب، أو تمهيداً لدراسة معمّقة في الواقع اللبناني، وفي الفرق ما بين الدين والطائفية.
هو محمد حسين فضل الله، ابن السيِّد عبد الرّؤوف فضل الله، عالم، فقيه، مجتهد، روحانيّ، منفتح، والدته الحاجة رؤوفة بزّي، ابنة المرحوم الحاج حسن بزّي، الذي يعدّ من الفاعليّات الدّينيّة، المؤمنة، الخيِّرة في بلدة بنت جبيل في جبل عامل- جنوب لبنان.

ولادته والنشأة
أثناء إقامة والده في مدينة النّجف الأشرف في العراق متلقياً دراسته في الحوزة العلميّة، وُلِد فضل الله عام 1936 ميلادياً.
تعود عائلته (فضل الله) في النسب إلى «أهل البيت»، وتحديداً إلى الإمام الحسن بن علي، وقد سكنت قرية عيناتا في جبل عامل – قضاء بنت جبيل، ويعتبر السيِّد الثالث في الترتيب العائلي.
وُلِد السيِّد محمد حسين في جوّ من الترقّب واللّهفة، ومن الطّبيعيّ أن يُحاط بعنايةٍ فائقة، وكما كان حيويّاً حركيّاً نشطاً في كلِّ حياته، برزت هذه الصِّفات منذ طفولته الأولى، وبفعل جمال صورته، وخفَّة حركته، كان الخوف شديداً عليه، فقُيّدت حركته، ومنع من اللّعب في أزقّة النّجف، واقتصر ميدانه على البيت، في اللّهو مع إخوته.

نقده لطرق

التعليم البدائية
في بعض أحاديثه عن دراسته الابتدائية، يتحدَّث عن معاناته مع المنهج والكتاب والأسلوب، مما كان لا ينسجم مع قدراته الذّهنيّة، فالموضوعات والمصطلحات والتّعابير الّتي كانت تُعتمد في الدّرس والتّدريس، كانت تتطلَّب مراحل عمريّةً قد تتجاوز سنَّ المرحلة الثانويّة (18سنة)، حتى يستطيع الطّالب أن يفهمها ويستوعبها ويناقش في إشكالاتها. ومع ذلك، فقد استطاع بجهدٍ أن يتخطّى هذه المرحلة، بفعل ذكائه الحادّ، وتفوّقه ومتابعته وفضوله وأفقه الواسع.

أمام هذا الجوّ الجادّ الّذي كان يرفض اللّهو واللّعب حتّى للصّغار، كان فضل الله يمضي بعض الفترات منفتحاً فيها على أجواء الرّاحة والفرح من أجل تجديد النّشاط فقط.

عقليَّة الوعي والانفتاح

ثم انطلق فضل الله وهو في مقتبل صباه، ينوِّع في نشاطاته، فاتَّجه ليمارس هواية الإعلام في عالم الأدب والفكر، فأصدر بالتَّعاون مع ابن خالته الشَّهيد السيِّد مهدي الحكيم، مجلّةً باسم «الأدب»، كانا يحرّرانها خطيّاً، فيكتبان الأعداد بعدد المشتركين، حتّى إذا ما زاد واحد اضطرّا إلى كتابة عددٍ إضافيّ.

كان شغوفاً بالمطالعة، يرتاد المكتبات ليطالع الصّحف المصريّة واللّبنانيّة والعراقيّة، حتّى حصل على مخزونٍ معرفيٍّ واسع، ما جعله عرضة للنقد، بسبب انفتاحه الواسع على العصر بكلّ مجالاته، على أساس أنَّ هذه الثّقافة العصريّة تخفّف من هيبة رجل الدّين وروحانيّته، وبذلك شَكوه إلى والده، وشكا هو هذا الأمر إلى عمّه المرحوم السيِّد محمّد سعيد فضل الله، والّذي كان من أقطاب الحوزة العلميّة في النّجف آنذاك.

رعاية الأيتام

أولى سماحة السيّد اهتماماً بالغاً للأيتام، كونهم يمثّلون الشريحة الضعيفة في المجتمع، والتي تحتاج إلى الكفالة والرعاية، حتى لا تضيع في مهبّ العواصف الاجتماعية، وقد رعى فضل الله مشروع حماية اليتيم وكفالته عبر مشروعين:
المبرّات
أسّس فضل الله جمعيّة المبرات الخيرية التي شيّدت صرحها الأول للأيتام تحت اسم «مبرّة الإمام الخوئي»، والتي أمّنت المسكن الكريم للأيتام الذين كادت الحرب اللبنانية أن تتركهم لأيدٍ غير أمينة على دينهم وأخلاقهم وحياتهم.

ثمّ ضاعفت الجمعيّة جهودها في مجال رعاية الأيتام تحت ضغط الحاجة الاجتماعية التي تحرّكت في مناطق مختلفة من لبنان، فأسّست جمعيّة المبرات ـ تحت توجيهات فضل الله ورعايته ودعمه ـ عدّة مبرّات للأيتام توزّعت على مناطق متعدّدة من لبنان، وتطوّرت الرعاية قي مختلف جوانبها، وتحوّلت من رعاية اجتماعية إلى رعاية رسالية شمولية في التربية والتعليم والثقافة ونواحي الحياة كافة، هادفةً إلى أن توفّر للأيتام الرفاهية الجسدية والنفسية والاجتماعية وتنمية قدراتهم الذاتية وتحقيق تقدّمهم، ليساهموا فيما بعد بفعالية في حركة المجتمع والحياة.
وتؤمّن الجمعيّة لليتيم الرعاية الشاملة في كل ما يحتاج إليه في الشؤون الحياتية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والنفسية، بالإضافة إلى تنشئته روحيّاً ومسلكياً ودينياً، مستخدمة لذلك كل الوسائل التربوية الهادفة، ومعتمدةً على أهل الاختصاص في التربية والتعليم وغيرهما، ليكون كلّ ما يُقدّم الى يتيم مدروساً ومراقباً من قِبَلهم ومتناسباً مع عمره واحتياجاته النفسية والجسدية. والهدف من ذلك هو الوصول باليتيم ليكون إنساناً سويّاً في العقل والجسد والروح، ومتوازناً في علاقته بالمجتمع عموماً، وتحتضن الجمعيّة حتى اليوم أكثر من 3300 يتيم ويتيمة موزّعين على مبرّاتها.
وقد عملت الجمعيّة على رعاية الخرّيجين من الأيتام، محاولةً تأمينهم في الجامعات المتنوّعة، رفداً لمسيرة تطوّرهم العلمي والثقافي، وجعلت الأولوية في وظائفها لليتيم الذي يمتلك الكفاءة والخبرة اللازمين في عمله.

الفقراء والمساكين والمعوّقون
يتوفّر مكتب الخدمات الاجتماعية التابع للمؤسّسة على دراسة الحالات الاجتماعية التي تتقدّم بطلب إلى المكتب، أو التي يُشار إليها من العائلات المستورة، أو العائلات التي أقعد العجز والإعاقة معيلها عن العمل وتأمين حاجاته وحاجات أسرته، وذلك لتحديد احتياجات هذه العوائل من الغذاء والدواء والملبس، وتجري مساعدة الأسرة الفقيرة أو الفرد من خلال الحقوق الشرعية من الأخماس والزكوات، أو من الصدقات التي يجمعها المكتب عبر مشروع «صندوق الصدقات» تحت اسم جمعية المبرّات التي توزّع على المحالّ والمراكز التجارية والمؤسّسات العامة، أو عبر «قجّة الخيّرين» أو «قجّة التقويم» اللتان توزّعان على المنازل الراغبة في المساهمة في العطاء والتكافل الاجتماعي.

المكفوفون والصُمّ والبُكم

كان الواقع الإسلامي يعاني نقصاً كبيراً، بل انعداماً في المؤسّسات التي ترعى ذوي الاحتياجات الخاصّة ممّن فقدوا حاسّة البصر أو السمع، أو تعثّرت معهم القدرة على النطق، ما جعل هؤلاء، وخصوصاً في الحرب الأهلية، مضطرّين للانخراط في مؤسّسات ذات طابع ديني مختلف كليّاً عن الإسلام، ما يؤسّس لضعف المناعة الدينية لهذه الفئة، ولذلك كان اهتمام فضل الله بالغاً بتهيئة الأرضيّة لإنشاء مؤسّسة متكاملة، بدأت صغيرة في البداية، ثمّ تطوّرت تحت اسم «مؤسسة الهادي للإعاقة السمعيّة والبصرية»، والذي يُعدُّ ـ بشهادة الكثيرين ـ من المعاهد الأولى في الشرق الأوسط، وليس في لبنان فحسب.

الحوزات العلمية
ضمن رؤية سماحة السيّد، والتي تتلخّص بأن على العالم الديني أن يكون أفقه الناس بما يؤمّهم فيه، وأحكمهم بطبيعة الحركة الإسلامية في خط الدعوة إلى الله تعالى، ومن أجل إعداد علماء الدين والمبلّغين للمجتمع الإسلامي، اهتمّ سماحة السيد بتأسيس ورعاية الحوزات العلمية، سواء منها التي تنتمي إلى المؤسسة بشكل مباشر، أوالتي تقوم عليها جهات دينية متوازنة. وأهمّ الحوزات التي يرعاها فضل الله حالياً:

المعهد الشرعي الإسلامي
تأسّس هذا المعهد في منطقة النبعة، وكان يتولاّه السيد فضل الله بشكل مباشر، وقد نمّاه حتى كبُر شأنه وعظم شأنه فأصبح مقصداً لطلاّب العلم من مختلف أنحاء لبنان والعالم، وقد بلغت شهرته الحوزات الكبرى التي كانت تحتضن طلاّبه من دون تدقيق يُذكر.

انتقل المعهد على أثر اندلاع الحرب اللبنانية الداخلية من منطقة النبعة إلى منطقة حيّ السلّم، حتى استقرّ بعدها في منطقة بئر حسن الواقعة على أطراف الضاحية الجنوبية للعاصمة. وهو يضمّ الآن أكثر من مائة طالب من المراحل الأولى حتى مرحلة الخارج.
كما أسس حوزة المرتضى في دمشق، التي ضمّت في ثناياها طلاباً من جنسيّات مختلفة، حيث خرّجت العديد من المبلّغين والمبرّزين في العلم الديني. ويتوزع عدد كبير من متخرّجي هذه الحوزات على مساجد وقرى متعددة في لبنان والخارج. ومما يُذكر في هذا المجال، أنّ أغلب علماء الدين في لبنان هم إمّا تلاميذه أو تلاميذ من تتلمذوا عليه.

المركز الإسلامي الثقافي

مؤسسة ثقافية يرعاها السيد فضل الله، حيث يعمل المركز على نشر الثقافة الإسلامية، من خلال الندوات الفكرية والثقافية التي يحضرها نخبة من أهل الفكر والعلم في مواضيع تهمّ الأجيال المعاصرة. وإحياء المناسبات الدينية. والدروس الفقهية والعقائدية والأخلاقية، وإقامة دورات تعليم تجويد القرآن وحفظه، ودورات صيفية للفتيان والفتيات، و دروس محو الأمية.

المكتبة العامّة
تعزيزاً للروح العلمية في القراءة والبحث، حرص السيد فضل الله على توجيه الأنظار نحو مشروع تأسيس مكتبة عامّة، أُطلِق عليها اسم «مكتبة سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله العامة»، وتضمّ في ثناياها الكتب المختلفة والمتنوّعة، وبعد أن توفّرت له الأيادي الخيّرة التي ساهمت في دعم المشروع الذي نُفّذ في الطابق السفلي من مسجد الإمامين الحسنين، راح يشرف عليه المركز الإسلامي الثقافي، وقد تمّ تجهيزه بعشرات الآلاف من الكتب، مع صالة للإنترنت والبحوث الكمبيوترية.

المؤسسات الأكاديمية والمهنية
اهتمّت مرجعيّة السيّد بإنشاء المدارس الأكاديمية التي كانت تشكّل حاجة ملحّة، فأقامت عبر جمعيّة المبرّات الخيرية خمس عشرة مدرسة نموذجية، إضافة إلى معهد فنّي تقني، حيث ضمّت- لهذا العام- 15000 تلميذ وتلميذة، وقد هدفت الجمعية من خلال ذلك إلى إعداد الطالب وتربيته تربية متكاملة فكرياً وروحياً، جسدياً ونفسياً واجتماعياً، لكي يُسهم في بناء وتقدم مجتمعه، ويكون ذا قدرات تواجه عصره وتحدياته، بعد دراسة احتياجات مجتمعه ومتطلباته، والعمل على تلبيتها والإسهام في حل مشكلاته وتحقيق أهدافه الحياتية.
وإلى جانب ذلك، فقد اهتمّت الجمعيّة بتأمين التعليم المهني والتقني بأسلوب متطوّر، فأنشأت معهد عليّ الأكبر المهني والتقني، ودار الصادق، ومدرسة للتمريض.

مؤسسات صحية

قامت جمعية المبرّات الخيرية بالتعاون مع مؤسسة بهمن الخيرية بإنشاء مستشفى بهمن في ضاحية بيروت (الجنوبية)، والتي تعدّ من المستشفيات النموذجية ذات التجهيز التقني العالي. إضافة إلى مستشفى الزهراء في صور التي لا يزال ينتظر التمويل لتجهيزها.

وقد افتتحت الجمعيّة أيضاً عدداً من المستوصفات الصحيّة في المناطق المحرومة من لبنان، والتي كان آخرها مستوصف ياطر في الجنوب اللبناني. كما يقدّم «مكتب الخدمات الاجتماعية» ـ عبر دائرته الصحّية ـ مساعدات صحيّة تتضمّن الاستشفاء والمعاينات الطبّية والأدوية والفحوصات المخبرية المتنوّعة والأشعة، علماً أن المكتب يغطّي ما بين 50 إلى 70 % من كلفتها المادّية.

القضاء الشرعي

كان سماحة السيد فضل الله مرجعية قضائية منذ أكثر من أربعين عاماً، يرجع إليه المتنازعون في مختلف المجالات، وخصوصاً في ما يتعلق بالحياة الزوجية، لكي يحلّ المشاكل العالقة في نطاق الحكم الشرعي. وقد كان تصدّيه للقضاء مباشراً حتى أوائل الثمانينات من القرن الماضي، ولكن، ونظراً للمشاغل المتزايدة، أسس مكتباً للقضاء أُطلق عليه اسم «المكتب الشرعي»، انتدب له علماء دين من ذوي الكفاءة العلمية والخبرة العملية في إدارة الخلافات وفي تطبيق الحكم الشرعي، حيث يعمل هؤلاء على حلّ مشاكل الناس بالوكالة عن السيد فضل الله ضمن الموازين الشرعية للقضاء، ويرجعون إلى السيد لإبداء رأيه النهائي فيها.

مكتب الاستفتاء
بعد تصدّي السيد فضل الله للمرجعية والإفتاء، كثرت الاستفتاءات الواردة إلى مكتبه، فلم يعد يتّسع وقته للإجابة عنها بشكل مباشر، فدعت الحاجة إلى إنشاء مكتب للاستفتاء يقوم عليه جُملة من العلماء ذوي الكفاءة العالية في العلم والشرع.

المؤسسات الإعلامية
نظراً لما اكتسبه الإعلام من أهمية كبرى في هذا العصر، حيث أتاحت وسائل الاتصال الحديثة للإنسان الدخول إلى أكثر من مجال وأفق، رأى السيد فضل الله أنّ الفكر الإسلامي يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إعلام منفتح واعٍ ملتزم وحيوي، فأسس موقع «بيّنات» على الإنترنت سنة 1997، من أجل إبراز الصورة الإسلامية بإشراقاتها وحيويّتها وغناها. وكذلك موقع جمعية المبرّات ومكتب الخدمات الذي تضمّن تعريفاً بكلّ منهما والتقديمات التي يؤمّنانها، بالإضافة إلى آليّات التواصل.

وإذاعـة البشائـر الرسالية الثقافية الشبابية الاجتماعية الهادفة، التي تسعى إلى بث الأفكار والقيم والمعارف ونشر المبادئ الإنسانية الحقة، وجريدة بيّنات التي تركّز على القضايا الإسلامية الحيوية العامة، والتي تهمّ الشرائح الاجتماعية المتنوّعة على حدّ سواء.

فهم الحياة
وعن الحياة وكيف يفهمها يقول السيد فضل الله: «يجب ألا يكون الزّمن مجرّد لحظات تمرّد، وعلى الإنسان محاولة ملء الزّمن بكلّ معاني إنسانيّته، حتى يتحوّل الزّمن إلى عنصرٍ من العناصر الّتي تمنح الإنسان معنى من حياة. ربما يتصوّر الإنسان أن الحياة هي في هذه الحياة الجسديّة التي تحرِّك كلّ أجهزته، ولكنّي أتصوَّر أنّ هذا يمثِّل آليّة الحياة وليس الحياة. إنّ إنسانيّة الإنسان عندما يقول: «أنا»، ليست هي هذا الجسد، وإنما الإحساس بكلّ عنصرٍ داخليّ يتحرّك في إطار هذا الجسد.

لذلك كنت منذ البداية أشعر بالزّمن وهو يتحرّك في وجودي، وكنت لا شعوريّاً في البداية أحاول أن أُغني هذه الحياة التي تضجُّ في هذا الوجود المادي، كنت أحاول أن أغنيها بفكرٍ، أيّ فكر! ولذلك كانت الحياة الفكريّة عندي تشبه الفوضى، لم أخطّط لها، ولكنّي كنت ألتقطها، وكنت أحاول ـ مهما صدَمَتْني المحاولة ـ أن يكون ما أتمثّله من هذا الفكر الّذي يغني الحياة جديداً. لذلك عشت الجِدَّة منذ بداية عمري، ربما لم أكن أختزنها في العمق، ربما كانت تطفو على السّطح، ربما كانت تترك تأثيرها على كلماتي وأسلوبي، ولكنّها كانت تشعرني بأنّي أحيا في العصر الّذي أعيش فيه».

ويضيف: «إنّني أفهم الحياة بأنّها هذه الحيويّة العقليّة والرّوحيّة والحركيّة الّتي تمثّل الوجود الإنسانيّ الّذي يبحث عن فكرٍ ينغرس فيه، وعن مستقبلٍ يصنعه، وعن روحٍ يسمو معها ويصفو».
ويضيف: «كنت أتصوّر أنّ على الإنسان أن يتحرّر من القيود، وأن يحاول أن يبني الحضارة الجديدة، وفي الوقت نفسه، كنت أتحدّث عن مشكلة الاستعمار ـ وقد كان انحساره عن لبنان مبكراً، وكنت أتحدّث أيضاً عن «الوحدة الإسلاميّة»، وعن مشاكل الشباب الاجتماعيّة في يأسه وضياعه، إنّني عندما أدرس هذه القضية والمرحلة، أتمثّل أنّ الحياة كانت تضجُّ في كياني، وربما أشعر بالغرابة أنّه كيف لشابّ لم يصل إلى السّابعة عشرة من عمره بعد، أن يختزن هذه المشاعر والأحاسيس المنفتحة على الجديد، في وقتٍ يعيش في بلدةٍ مغرقة في القديم، وهي «النّجف الأشرف» في تلك المرحلة، وتلك الفترة… وأتذكَّر وأنا في أوّل زيارة للبنان ـ لأنّي ولدت في النّجف ـ

أنّني كنت أتحرّك في ندواتٍ حواريّةٍ مع مختلف التيّارات الحزبيّة، كالشّيوعيّة والقوميّين العرب والبعثيّين، بحيث كنت أشعر بالمسؤوليّة بحسب ما كان لديَّ من حجمٍ ثقافيّ. إنّي أتصوّر أنّ حياتي الّتي عشتها كانت تنطلق من إحساسٍ بالمسؤوليّة عن إغناء تجربتي الحياتيّة، ومحاولة إغناء تجربة الآخرين، وكانت مسألة الصّراع الّذي ينفتح بالحوار على الاختلاف الفكريّ، مسألةً أساسيّة، ولذلك أستطيع أن أقول إنني بدأت الحوار مبكراً، وكان ذلك منذ أكثر من خمسين سنة».

المعاصرون والمسؤوليّة

يقول السيد عن الذين عاشوا معه وعاصروه، ومن الّذين كانت لهم ذهنيّات وعقليّات على مستوى كبير، ولم يعيشوا المستوى المطلوب من المسؤوليّة: «كان الفرق بيني وبين أصدقائي، هو أنّهم كانوا منسجمين مع البيئة، ويعيشون كلّ مفرداتها، ولا يتطلّعون إلى أبعد منها، بل ربما كانوا يشعرون بأنّ الابتعاد عن مفردات البيئة، والتطلّع إلى آفاقٍ جديدة، يسيء إلى مواقعهم، أو إلى روحانيّتهم، أو يسيء إلى ما يخطّطونه من مستقبلٍ يدفعهم إلى أن يحصلوا على الثّقة من النّاس بهذه الطّريقة التقليديّة المعروفة في البيئة النّجفيّة، وغيرها من الحوزات. بينما كنت منذ البداية أطلُّ على عالمٍ آخر، كنت أقرأ مبكراً، أقرأ الصّحافة المصريّة مثلاً، سواء كانت الصّحافة الأدبيّة أو الصّحافة السياسيّة، وكنت في ذلك الوقت أقرأ التّرجمات لبعض القصص أو الرّوايات الفرنسيّة، ما جعلني أنفتح على هذا العالم، وإن كان بشكلٍ ضبابي، ما جعلني أحسّ بهذه النّبضة الحركيّة في وجداني».

السابق
رئيس الاتحاد: اقليم التفاح ينمو…ومليتا شرعت الباب للسياحة
التالي
جلسات الثقة بالحكومة…برميل بارود