ما سرّ المصادفات بين التسريبات والاتهام؟

جاءت نتيجة القرار الظني، الصادر عن محكمة لاهاي الخاصة بلبنان، مطابقة لقسم أساسي من استنتاجات فريق أمني لبناني، ما يعني أن هذه الأجهزة العالمية لم تُضف جديداً نوعياً على ما قدمه فريق أمني لبناني قبل نحو 5 سنوات. لكن هناك حاجة اليوم إلى مراجعة بعض العناوين، ذلك أنّ الفريق الأمني نفسه سار على ثلاث سكك: الأولى دلّت على العمى السياسي والاحترافي، وقامت على فكرة أنّ سوريا، ومعها أجهزة أمنية لبنانية، هي التي تقف خلف الجريمة. وبناءً على ذلك، فتحت جبهة سياسية وإعلامية وأمنية، وكان الغطاءَ الخارجي نصّابٌ دولي اسمه ديتليف ميليس.

ثم جاءت فترة ثانية، بدأ فيها التحقيق يتقدم صوب البحث عن الجهة التي تخلق حوافز عند عناصرها للقيام بذلك. وفجأة، برز ملف خلية تعمل في مناخ تنظيم «القاعدة»، وقدّم أحد أفرادها رواية، سرعان ما جرى وأدها في مكاتب التحقيق لدى الجهة الأمنية نفسها، قبل أن تصاب لجنة التحقيق الدولية بإحباط جراء نقص في المعطيات الدقيقة. وأدى هذا الإحباط في تلك الفترة، إلى برودة مفاجئة في العلاقة بين لجنة التحقيق والجهة الأمنية نفسها.

ثم كانت المرحلة الثالثة التي قامت على فرضية أن من قام بعملية تفجير موكب الحريري واغتياله، إنما يقف خلفه جهاز متطور، محنّك، منظّم، له قدراته القوية، وله أذرعه داخل لبنان وخارجه. وبعد إعلان الضابط وسام عيد توصله إلى خريطة تقاطع اتصالات هاتفية تقود إلى المجموعة التي يعتقد أنها تقف خلف العملية، سارع الجهاز الأمني نفسه، مع الجوقة السياسية، إلى مطابقة هذه الافتراضات التقنية مع الوقائع السياسية التي سادت لبنان والمنطقة، وخصوصاً بعد فشل عدوان تموز، حين صارت الأولوية لضرب حزب الله بأي شكل، هي التي تتطلب حشد كل الطاقات. فكان أن أُشيع من يومها، أن حزب الله متورط في الجريمة، ثم بدأت حملة التسريبات، من «لوفيغارو» إلى «دير شبيغل» إلى «لو موند»، إلى التلفزيون الكندي، وحشد من التصريحات والتلميحات، وصولاً إلى القرار الاتهامي ومذكرات التوقيف الصادرة بحق أشخاص يعتقد أنهم نافذون في حزب الله.

واللافت أنّه في كل هذا السياق، من محطة لجنة تقصي الحقائق، إلى لجنة ديتليف ميليس، فخلَفه سيرج براميرتز، وصولاً إلى دانيال بلمار، كانت القاعدة البيانية، والمعلومات الأمنية، والحجج السياسية، تتوافر من جانب الجهاز الأمني ـــــ السياسي نفسه. وكانت أجهزة الاستخبارات العالمية، ولا سيما الأميركية، تعمل على تغذية مسار التحقيق الذي يوصل إلى اتهام حزب الله أو مجموعات بارزة فيه، بالوقوف خلف الجريمة. وهو المسار الذي حافظ عليه فريق بلمار، وعمل من أجله طوال الوقت، حيث كان يجمع ما يعتقد أنها الأدلة القاطعة على تورط هؤلاء العناصر في الجريمة.

وفي مراجعة معلوماتية لكل ما حصل، يظهر أنه في عام 2006 تبلغ الرئيس سعد الحريري من فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي أن التحقيقات تشير إلى تورط أشخاص من حزب الله في الجريمة. ثم سُلِّم تقرير عيد إلى الجهات القضائية اللبنانية وإلى لجنة التحقيق الدولية. ثم سُرِّبت أولى المعلومات عن تحقيقات فرع المعلومات، وكان البارز فيها أن أسماء قيادات عسكرية وأمنية في حزب الله تظهر في كل مرة، مع إضافات تركز على الأشخاص الذين كانت إسرائيل أول من أشارت إليهم، بينما كان فريق دانيال بلمار يعمل على لائحة أسماء غير واضحة الهوية. وفي وقت متأخر، قال بلمار إنه توصل إلى ما يؤكد له الهوية الحقيقية لأعضاء هذه اللائحة، وصودف، فقط صودف، أنها الأسماء نفسها التي سربتها أجهزة أمنية لبنانية، عربية، أميركية وإسرائيلية خلال الفترة السابقة، علماً بأن بلمار استند في فرضيته إلى قاعدة البيانات الهاتفية التي أعدها فرع المعلومات، والتي تشير بدورها إلى عناصر من «حزب الله».

حسناً، إزاء هذه المصادفات، بين معلومات أعدّت، وتقارير وصفت، وتسريبات إعلامية حصلت، ومفاخرة إسرائيلية أعلنت، ما الذي يمنع طرح السؤال الصعب: من قاد تحول التحقيق صوب المقاومة؟
الجواب البديهي لدى فريق 14 آذار أن الأمر مجرد مصادفة، لكن الوقائع هي وقائع ولا تبطلها التسريبات، بحسب أحد نواب هذا الفريق. والجواب السياسي أنّ من الطبيعي أن يكون «حزب الله» إحدى الجهات المفترض أنها قادرة على القيام بمثل هذه العملية. ومن ثم يخرج من يقدم التحليل النظري، والسياسي الذي يشير إلى وجود حوافز لدى «حزب الله»، بالتعاون مع سوريا، للقيام بمثل هذه الخطوة.

أما جواب فريق المدعي العام الدولي، فيستند إلى ما يقول إنه أدلة صلبة وقاطعة، وإنه يحق للمحققين الركون إلى أدلة حسية، وإلى أدلة ظرفية. وفي هذه الحالة، يريد بلمار معالجة مسألة المصادفات، باعتبارها أدلة ظرفية، أضاف إليها ما وصل إليه من معلومات وأدلة، حتى جعلته يذهب نحو هذا القرار الاتهامي.

يبقى سؤال أخير: إذا كان جهاز الأمن اللبناني هو من وفّر المستند الأول، وإذا كان قانون المحاكمة يستند إلى قانون لبناني، وإذا كان قسم كبير من القضاة لبنانيين أيضاً، فما الذي يحصل؟ هل هي الدونيّة الدائمة أمام الرجل الأبيض، أم هي الحيلة التي تتيح لأجهزة استخبارات عالمية إضافة مواد اتهام بوجه المقاومة؟

السابق
هل يضحّي حزب الله بالمحكمة أم بالحكومة؟
التالي
معركة الإلحاد في الريجنسي!