هكذا تبخّر البعثي المؤسس من عاليه اللبنانية… فمَن خطفه؟

فجأة، وحين كان يمارس رياضة المشي اليومية كعادته، في طرق جبلية قرب منزل ابنته في عاليه (جبل لبنان)، اختفى شبلي العيسمي. حصل ذلك في 24 مايو. لم يكن قد مضى على وصوله إلى لبنان، قادماً من الولايات المتحدة، أكثر من خمسة أيام. توجّهت بعض أصابع الاتهام فوراً إلى «قوى إقليمية»، فيما حذر حفيده عامر شرف الدين من أنّه «إذا تعرّض جدّي لأيّ سوء وإذا تعرّضت حياته للخطر، فستكون هذه وصمة عار في تاريخ لبنان وسورية».
من هو شبلي العيسمي (مواليد 1925)، الرجل الذي صار على أبواب التسعين والذي «خطف من عقر دار الدروز في عاليه» على ما يقول شرف الدين؟ «الراي» لاحقت القصة ـ اللغز مع «تبخُّر» العيسمي، الدرزي من السويداء السورية، فقصدت موقع «اختفائه» في عاليه والتقت عائلته «المصدومة».

لا يمارس العيسمي حالياً اي نشاط سياسي، على الأقلّ منذ العام 1992، حين تخلّى عن منصب الأمين العام المساعد في حزب البعث العربي في العراق، بعدما شغله من العام 1966. كان أرفع رتبة من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، إذ شغل منصب نائب رئيس الجمهورية في سورية حتى العام 1966، حين كان الأسد الأب وزيراً للدفاع. وفي النصف الثاني من ذلك العام، ترك الأراضي السورية وانتقل إلى العراق حيث تسلّم مسؤوليته في حزب البعث العراقي وظل مقيما هناك إلى ما بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين في العام 2003.

بين العامين 1992 و2003 كان العيسمي خارج النشاط السياسي. وكان بدأ العمل الحزبي في العام 1943، ناسجاً علاقات وصداقات مع حزبيين وسياسيين. شغل عضوية القيادة القطرية لحزب البعث من العام 1943 الى العام 1956، حين صار نائبا للامين العام ميشال عفلق، وتولّى ثلاث وزارات من العام 1963 إلى العام 1966.

ليس العيسمي اذاً رجلا عادياً، رغم أنّه مغمور. ولعل المرة الوحيدة التي خرج فيها من الظل كانت العام 2005، حين وافق على الادلاء بشهادة تلفزيونية عبر فضائية «العربية» عن «فكر حزب البعث». البعثيون والقوميون العرب قرأوا له أكثر من 17 كتاباً بين دراسة وتحليل أهمها عن «عروبة الإسلام وعالميته» و«الوحدة العربية»، فهو كان واحداً من مهندسي الوحدة بين مصر وسورية، وأجرى لقاءات طويلة مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. وقد طُبعت بعض مؤلفاته مرارا وتُرجمت إلى الفرنسية والإنكليزية والإسبانية.

ليس رجلاً عادياً، فهو شارك في تأسيس البعث، الحزب الذي «حكم» المشرق العربي لنحو نصف قرن انطلاقاً من سورية والعراق. وظلّ حزبياً حتى عامه السابع والستين. يومها، قرّر أن «صحّته ما عادت تساعده على الاستمرار»، على ما قال أحد أصدقائه لـ «الراي» رافضاً نشر اسمه. لكنّ ابنته «رجاء» تداركت: «ليست الصحة فقط، فوالدي كانت لديه ملاحظات على طريقة إدارة البلاد في العراق، خصوصاً في شأن الحريات والسلوك الأمني».

ترفض رجاء الخوض أكثر، لكنّها تصرّ على أنّ والدها «لم يكن على عداء مع أحد، وحتى حين قرّر مغادرة العراق، تركه لأنّ النظام انهار وليس لأنّه على خلاف مع هذا النظام. كان حكيماً، وطوال عمره ناهض العنف وسعى الى الحوار».
رجاء متزوجة من الدكتور رجا شرف الدين، ولها شقيقان وشقيقة. المهندس بشار الذي عاش والده معه من العام 2003 حتى العام 2009 في مصر، حيث كان يعمل في شركة هندسية. وحين تراجعت أعمال الشركة سافرا معاً إلى الولايات المتحدة، حيث يعمل الابن الثاني الدكتور مازن، وصار الاب يمضي ستة أشهر في الولايات المتحدة شتاءً ومثلها صيفاً في عاليه، حيث تعيش رجاء مع عائلتها. وهناك ابنة رابعة تعيش في الولايات المتحدة أيضا، هي الدكتورة بشرى المتزوجة من الدكتور راني أبو الحسن.

أحد أصدقاء العيسمي قال لـ «الراي»: «ربما فُسر مجيئه إلى لبنان في هذه الظروف، هو المعروف بتاريخه وفكره وتجربته، في طريقة خاطئة، علما ان لا علاقة له بالعمل السياسي منذ عقدين». واكد انه «انقطع عن الاتصال بمعظم الرفاق، إلا مَن تربطه بهم صداقة شخصية أو مصاهرة، ولم يطلّ إعلاميا الا مرة واحدة العام 2005».

أما زوجته ميساء الجبر، فاوضحت لـ «الراي»: «كان منعزلاً في الاعوام الأخيرة، ويفضّل أن يعيش بين أولاده وأحفاده على أن يعمل في السياسة. وعزْلته سببها ابتعاده لفترة طويلة جدا عن العمل السياسي والحزبي».
حفيده عامر، خريج إدارة الأعمال من الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت، يتذكر جدّه «علمانياً وبعيداً من الطائفية والفكر التفريقي»، ويضيف: «حين كنت أسأله عن الأوضاع السياسية في لبنان كان يجيبني متهكماً على الطائفية ومعجباً بديموقراطية هذا البلد. كان يفكّر استراتيجيا ويحلّل على مستوى الأمة العربية كلّها».

ونسأل رجاء عن ميولها السياسية وزوجها، فيجيب عامر: «لدينا صداقات مع الامير طلال أرسلان والنائب وليد جنبلاط و«حزب الله» وكل الاطراف». وسرعان ما تعود الابنة الى استذكار ابيها: «كان مثاليا وموضوعيا ومعتدلا في آرائه، والأهم أنّه كان مع الفكر المقاوم الذي يخدم القضايا العربية».

لكن ماذا حصل يوم 24 مايو؟
العيسمي النشيط يمشي كلّ يوم نحو ساعة، نصفها عند السادسة صباحاً ونصفها بعد الظهر. في ذلك اليوم، غادر المنزل عند الرابعة والنصف ليمشي. تأخّر قليلا، فقرّرت العائلة أن تبحث عنه بمساعدة سكان عاليه لكنها لم تجد شيئا، حتى انها لم تعثر على العصا التي يستند اليها.

عند الحادية عشرة ليلاً، قرّرت الاسرة ابلاغ مخفر المنطقة، وبدأت الفاعليات والشخصيات تتصل وتَطمئنّ. حتى الآن لا جديد، سوى ان «مصادر أمنية حاولت أن توحي لنا أنّه قد يكون أضاع الطريق أو سقط في مكان ما»، على قول صديقه. واكد عامر «فتّشنا المنطقة عشبة عشبة ولم نترك خرم إبرة لم نبحث فيه، لكنه اختفى اختفاء مدبّرا ومنظماً، لقد خُطف».
ورغم انه يرفض التحدث طائفياً، يصر الحفيد على أنّ «خطفه من عقر دارنا في عاليه أغضب أهالي المنطقة، وهم يطالبوننا يوميا بتسيير تظاهرة تطالب بكشف مصيره».
في نهاية اللقاء، عرض لنا الحفيد صور جده مع صدام حسين والأسد الأب وكثيرين، وزوّدنا صوراً اخرى مع عفلق وعبد الناصر وبعض الزعماء العرب، قبل ان يصطحبنا الى المكان الذي يقول انه خُطف منه، ثم ودّعنا قائلا «انه رجل على أبواب التسعين، كيف سيستفيدون من خطفه ولماذا الآن؟».

السابق
بري دعا لجلسة عامة في 8 حزيران
التالي
عن “الذعر” من الديمقراطية