عن “الذعر” من الديمقراطية

يجمع اللبنانيون، قولا على الاقل، على تمني الحياة "الديمقراطية" للشعب السوري الشقيق. يتساوى في هذا التعبير المؤيدون للنظام الحالي كما المعترضون عليه، وان كان البعض منهم نحا هذا المنحى بعدما سمع عبر الاثير إقرار القيادة السورية الحالية بمشروعية المطالب التي رفعها العديد من المحتجين في المدن والبلدات السورية، وتناهى اليه ان الرئيس السوري بشار الاسد اكد على ضرورة القيام بإصلاحات تهدف إلى الغاء قوانين حالت دون اطلاق الحياة السياسية على قاعدة التعددية الحزبية، وتهدف أيضا إلى الحدّ من دور حزب البعث في السلطة ومن تغول السلطة الامنية على مفاصل الدولة.

على ان القوى السياسية الممسكة بالمجتمع والمؤسسات، والممعنة في تهشيم الدولة، تصر على قراءة المشهد السوري واحتمالاته على ايقاع مصالحها المذهبية او الطائفية، وبنظرة قاصرة عن القراءة من خارج المعادلة المستحكمة بلبنان، اي من خارج منطق الغلبة والخوف، وبمعايير مذهبية وطائفية لا غير.

هكذا تبدأ عملية حساب الخسائر والارباح. فإذا تجاوز النظام السوري أزمته وخرج سالما، فذلك يعني في العرف اللبناني اليوم ان القوة الشيعية ستكون بمنأى عن اي مخاطر على سلطتها ونفوذها. في المقابل إذا تغيرت طبيعة النظام في سورية سيترجم هذا التغيير صعودا للمارد السني، وبالتالي سيترجم في لبنان من خلال المزيد من النفوذ السني، وبالتالي غلبة هذه الطائفة على بقية الطوائف في المعادلة السياسية والميدانية.

هذا ما يتفتق عن أذهان العديد من السياسيين والاعلاميين في المشهد اللبناني، وتجري محاولات حثيثة لاسر وعي اللبنانيين في هذه المعادلة، التي يجري تمويهها بعناوين براقة حول "الخوف على المقاومة لدى البعض"، او "استهداف السنّة وتهميشهم" كما يحلو للبعض الآخر ان يفكر. وفي كلا الحالين ثمة من يدرك ان لعبة التخويف المذهبي والطائفي لم تعد قادرة على مواجهة الثورات التي باتت تتلمس بثقة طريقها الى التغيير عبر الديمقراطية، بكل ما تعني هذه العبارة الساحرة والواقعية من نيل الحرية الفردية والسياسية، ومن وسيلة تعبر عن هذا النزوع الشعبي او المجتمعي لتغيير احوالها نحو الافضل.

كما يمكن تلمس ان القوى السياسية التي استقوت بتزخيم العصب المذهبي والطائفي في لبنان تدرك ان شرط نفوذها وحضورها وجود الخصم المذهبي والطائفي الفاعل، وهي ستفقد الكثير من معنى وجودها اذا فقدت خصمها.
هكذا يمكن ملاحظة الارباك الذي احدثه الانكفاء النسبي للرئيس سعد الحريري عن المشهد السياسي في جبهة خصومه، اذ فقدت هذه الجبهة رصيدا من الأهداف عجزت عن تعويضه، وبدت فاقدة التوازن السياسي، خصوصا في مواجهة تشكيل الحكومة، والامر نفسه كان يمكن ان يحدث لو تبدّلت مواقع الطرفين اليوم.

في الحقيقة يتفاءل كثير من اللبنانيين بأن يلتقط الشعب السوري وقواه المختلفة والمتنوعة فرصة التحول الديمقراطي، لأنهم يتمنون ان تتقدم سورية في ركب الحضارة وفي اضفاء معنى جديد لعروبة ديمقراطية. وبهذا المعنى ليس خافيا ان هذا التحول الايجابي، فيما لو تحقق في سورية، سيمهّد لتحول لبناني جوهره الخروج من معادلة الاصطفاف المذهبي والطائفي، وسيدفع إلى تجاوز الاعاقات التي تعثّر النظام الديمقراطي في لبنان وتمنع تطوره.

ومنطق السياسة والواقع يؤكد ان سورية النظام، التي اخذت واعطت في لبنان، كانت حريصة على لجم اي تطور ديمقراطي حقيقي، مع حرص على اضفاء الوصف الديمقراطي على الواقع السياسي والدستوري المشوّه الى جانب مصطلح الوصاية. اذ كيف يخاطب هذا النظام شعبه ليقنعه بأهمية سلطة الحزب الواحد والزعيم الاوحد؟ اذا لم يعط مثالا على سوء الديمقراطية ونظامها في مجتمعاتنا العربية. وكيف لأحد ان يقنعنا ان القيادة السورية (بسبب تأثيرها ودورها الكبيرين في لبنان) كانت تحرص على تحصين النظام الديمقراطي في لبنان؟ فاقد الشيىء لا يعطيه، هذا اذا اراد ان يعطي.

لا ننسى أيضا أنّ نموذجا لبنانيا ديمقراطيا ناجحا سيكون خطرا على اسرائيل اولا، وخطرا على انظمة القمع العربية المحيطة. لذلك امكن اعاقته دون النجاح في الغائه. لكن القاطرة اللبنانية اثبتت مع الايام انها عاجزة عن ان تسير ذاتها بشكل طبيعي، فكيف ان تكون قاطرة التغيير الديمقراطي في العالم العربي؟

وإذا كانت مصر عنوان التحول في العالم العربي والمؤثر في مساراته الاستراتيجية، فان التغيير في سورية نحو النظام الديمقراطي كفيل بكشف هذا الذعر المصطنع والمشغول من قبل جهات محلية وخارجية. ونزعة ترسيخ حماية الاقليات هي كلمة حق يراد بها باطل… ويقول الامام الراحل محمد مهدي شمس الدين في نقده لهذه المقولة: في منطقتنا العربية الإسلامية – لا توجد أقليات مسلمة ولا توجد مسيحية. توجد أكثريتان كبيرتان: إحداهما أكثرية كبيرة هي الأكثرية العربية التي تضم مسلمين وغير مسلمين، والأخرى هي الأكثرية الأكبر، وهي الأكثرية المسلمة التي تضم عرباً وغير عرب. وكل شيء دون هذا هو مشروع فتنة.

السابق
هكذا تبخّر البعثي المؤسس من عاليه اللبنانية… فمَن خطفه؟
التالي
النابلسي: نعيش لحظات صعبة داخليا