أرنون.. انتصار أكّد وحدة الحياة

بعض الأحداث لا تموت، تخلّد، تستمر ذكرى مشرفة ومحطة خلاقة، لا تمحى من الوجدان ولا يسقطها التاريخ، بل على العكس من ذلك، فإنها تشرّف التاريخ وتضيئه في الصميم.
نعم كثيرة هي الأحداث التي فرضت نفسها وما زالت على وجدان الشعب يحتفل بها على أنها مفصل رائع في مسيرة حياته وتاريخه النضالي، وإنجاز قيّم عظيم يسجل في سفره الذهبي.
ومن هذه الأحداث التي لا يمكن أن تنسى، يوم أرنون، يوم تحرير هذه القرية الصامدة من رجس الاحتلال الصهيوني نهار الجمعة 26 شباط 1999، هو يوم من أيام الدهر الخالدة، يوم تحقيق القرار الشعبي الجنوبي خصوصاً، واللبناني عموماً.
فقد كان يمكن لبلدة أرنون في جنوب لبنان، أن يكون مصيرها كمصير عشرات القرى والبلدات، التي أخضعها العدو الصهيوني لاحتلاله في جنوب لبنان والضفة الغربية، ومرتفعات الجولان.

صادق
يذكر المواطن حسن صادق ما جرى خلال تلك الايام البطولية، متحدثاً عنها، كأنها جرت في الأمس القريب، فيقول: «كان يمكن للأسلاك الشائكة التي وضعها العدو حول البلدة قبل أيام، أن تصبح حدوداً جديدة للشريط المحتل. وكان يمكن للبنان أن يرفع شكوى إلى مجلس الأمن، فتضاف إلى مئات الشكاوى العربية المماثلة النائمة في أدراج الشرعية الدولية، أو أن تمارس الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو)، لأن «إسرائيل» خط أحمر لا يجوز تجاوزه، باعتبار أن ما تمارسه من عدوان وضمّ وإلحاق وتهويد وتهديد، أقوى من أي شرعية بل هو الشرعية ما دام يحظى بدعم وتأييد وحماية الدولة الأقوى والأعظم».
ويضيف: «لكن الشعب اللبناني أراد هذه المرة أن يقلب المعادلة ونمط التعامل مع الاحتلال، ويضيف مصطلحاً جديداً إلى قاموس المواجهة مع العدو، وهو مصطلح المقاومة الشعبية غير المسلحة لتكون رديفاً ورافداً لمقاومته المسلحة التي تحقق يومياً انتصاراً عسكرياً على العدو وآلته المتطورة».
وتابع: «في يوم الجمعة الواقع فيه 26 شباط 1999، تحرك الشيخ عبد الحسين صادق، إمام مدينة النبطية، لتحرير بلدة أرنون وفك الحصار المضروب عليها، ومعه جمهور من الرجال والشباب. فقد اقتحم ألفا طالب لبناني من مختلف الجامعات والطوائف اللبنانية، الأسلاك الشائكة المحيطة ببلدة أرنون واندفعوا بعفوية إلى داخل البلدة في مظاهرة حماسية وروح تصميم عالية على مواصلة المقاومة، متحدّين إرادة الاحتلال «الإسرائيلي»، إذ لم تؤثر في الجموع المحتشدة الرصاصات التي أطلقتها قوات الاحتلال «الإسرائيلي» فوق رؤوس المواطنين».
وأضاف: «كانت مواكب الناس صوراً رائعة من صور التحدي والصمود، حيث كان القادمون متلهفين للوصول إلى ما يريدون، الرجال والنساء والشباب والأطفال والشيوخ جميعهم كانت تمتلئ بهم الدروب وهم ينشدون أناشيد الحماسة والعنفوان.
وما إن وصلوا حتى كان الجميع في قمة التوق إلى إزاحة الكابوس عن أميرة القلعة؛ قرية التبغ الجنوبي العملاق، أم الليطاني الساحر. ولم ندر أية قوة دفعت العزائم إلى النهوض، لحظة امتدت زنود الشباب والأهالي إلى الأسلاك الشائكة تقطعها إرباً إرباً وتنهكها تهشيماً وتمزيقاً، كانت قوة الواحد بمئة، مشهد يصعب وصفه، ذلك هو الإيمان الحقيقي. لقد أيقظت هذه الحادثة روح المسؤولية عند الشباب، وأشعرتهم بواجبهم المقدس في الدفاع عن الوطن في لحظات الشدة والمعاناة».
وتابع صادق: «كان يوم دخول أرنون عيداً شعبياً، أقيمت فيه المهرجانات، وانقلبت أجواء الترقب والخوف في الجنوب اللبناني إلى أجواء من السعادة والفرح، لا سيما في مدينة النبطية المجاورة لأرنون، حيث وزع الأهالي القهوة والحلوى في الشوارع التي تحولت إلى ميادين للرقص الشعبي وترديد الأهازيج، وقد شارك في هذه الاحتفالات رجال الحكم، كما عمت الفرحة لبنان، مبرهنين على أن إرادة الحياة بعزة وكرامة، وإرادة التحدي والانتصار هما أقوى من الاحتلال وآلياته العسكرية، وأن ما يتمتع به الشباب وطلاب الجامعات والمدارس والشابات من روح وطنية وثابة، وإيمان بالوطن، وتمسك بالحرية والعزة والكرامة وطهارة الأرض اللبنانية، ما يبعث الطمأنينة في النفوس، مؤكداً أن الاحتلال «الإسرائيلي» زائل، عن قريب لا محالة، لأن الشعب إذا أراد الحياة لا بد أن ينتصر».
وأضاف: «ومن لم يكن هناك آنذاك، من لم يشارك في مسيرة التحرير هذه، يكن قد فاته حدث قلّ نظيره، ومشاهد تذهل وتثير الإعجاب والدهشة. فقد كان هذا الحدث بحق، جماهيرياً شعبياً، فقد استبسل أهلنا جميعهم بشتى ميولهم ومشاربهم السياسية والدينية، فالانصهار الوطني كان واضحاً لا سبيل إلى إنكاره. كما التحمت زنود الشباب والشيوخ والنساء والرجال، والتجار والمعلمين والأساتذة الجامعيين، ورجال الدين «المسلمين والمسيحيين»، فكانت هذه المسيرة وحدة جماهيرية حقيقية، من دون أن يطغى عليها حس طائفي أو مذهبي أو مناطقي، وإنما بدافع حب التراب وإنقاذ جزء من الوطن».

بوتقة واحدة
ما جرى في أرنون كان ملحمة شعبية حقيقية، تؤكد انخراط كل الشعب اللبناني في مقاومة الاحتلال وبأشكال مختلفة، كما تقدم صورة ناصعة لهذا الشعب العربي الذي يبدو واقفاً وحده على خط النار، يقدم للعرب اليوم نموذجاً جديداً في الصمود أمام عدو يسعى جاهدا لتأكيد هيمنته وسيطرته ووضع كل المنطقة في خدمة أمنه.
كانت ملحمة وأي ملحمة، ويا ليت كل يوم لنا فيه ملحمة، بها نطرد الغاصب ونبني صرحاً للحضارة والمدنية والتقدم.
في أوقات الصمت يصبح الصوت أكثر فاعلية. وفي حالات العجز تصبح الحركة أكثر قوة.

السابق
احتفال للقومي في الصرفند
التالي
الوطن: زوجان يقرّان بالتآمر لتمويل حزب الله