لماذا يواصل “حزب الله” صيامه عن الكلام ومساجلة الآخرين؟

لم يعد خافياً ان "حزب الله" ومنذ نجاحه وحلفائه في اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري ومن ثم تكليف الرئيس نجيب ميقاتي مهمة تأليف الحكومة الجديدة، دخل في مرحلة من الصمت النسبي فصام طوعاً عن الرد على كل الحملات الاعلامية والسياسية المستهدفة سلاح مقاومته وامتنع رموزه عن الخوض في موضوع تأليف الحكومة، وكل ما يمت اليه بصلة.
الامر كله يتم طوعاً وبناء على توجه مسبق وقرار متخذ سلفاً في دوائر القرار في الحزب، وفي سياق سياسي له فلسفته وتأويله و"حساباته" المبني عليها. استهلالاً تشير الدوائر نفسها الى ان هذا الصيام عن الكلام المباح، والذي يقتصر على المقابلات الصحافية والتصريحات اليومية، وتشذ عنه الخطب في المهرجانات وحفلات التأبين، له بطبيعة الحال أجل محدد، وهو ينتهي باعلان الرئيس ميقاتي حكومته، فساعتئذ سيتحلل الحزب من مقتضيات هذا الصيام ويعود الى مقاربة القضايا وتناول المستجدات كما هي العادة.
وعموماً لا تخفي الدوائر عينها ان اولى مبررات ومسوغات هذا "الصمت" الاعلامي هو قرار متخذ سابقاً جوهره اراحة الوضع السياسي الداخلي بعد فترة تشنج واحتقان، امتدت من بدايات الصيف الماضي حتى لحظة اسقاط حكومة الحريري في كانون الثاني المنصرم وكان الحزب طرفا اساسياً فيها، لا سيما بعدما اخذ قراراً بمواجهة وقائية وحرب مفتوحة على المحكمة الدولية والقرار الظني الموعود صدوره عنها، والذي لم يعد يختلف اثنان على انه سيشير اليه بأصابع الاتهام.
كان الحزب، وفق الدوائر اياها، مضطرا الى سلوك هذا المسلك الوعر طوال الأشهر الستة الماضية، وكان مكرها على استخدام كل ما في جعبته من "اسلحة" وذخائر اعلامية وسياسية، لمحاصرة المحكمة الدولية التي تريد رأسه وتبغي تشويه سمعة المقاومة التي كانت رافعته وأسس حضوره ووجوده. لذا كان مدركاً انه بأدائه العنيف هذا انما يبعث موجة تخوف وحال قلق في البلاد برمتها، وقد سبق له ان حذّر الجميع صراحة من ان الاوضاع من اساسها ستكون فوق صفيح ساخن جدا، في كل مرة يشعر فيها الحزب بأن الاخطار والمؤامرات توشك على الاقتراب من مقاومته في الجنوب، ويمكن ان تنال منها بشكل او بآخر، وهو لم يتوان عن اسداء النصيحة لمن يعنيهم الأمر بأن عليهم التنبه لهذه المسألة الوجودية بالنسبة اليه، وعليهم بالتالي ان يكفوا عن المضي قدماً في ركوب هذا المركب الخشن الذي من شأنه في خاتمة المطاف ان يضع البلاد على شفا حفرة من الاحتمالات البالغة السوء.
اما وقد نجح الحزب مع حلفائه في اسقاط واقع سياسي يعد وجوداً معبراً للمحكمة الدولية الى مقاومته، وسد بالتالي منفذا من منافذ الفتنة، من خلال اسقاط الحكومة ورسم البداية لطي صفحة الحريرية السياسية التي جعلته خصمها الألد، وصعب عليه هو مهادنتها او ابرام تفاهم معها، فقد وجد فرصة للانكفاء عن الواجهة وممارسة "استراحة المحارب" لأنه صار على يقين من ان مرحلة الخطر الكبرى عليه قد ابتعدت وان ثمة مرحلة جديدة في المسرح السياسي ارتسمت وهي بالطبع ستكون لمصلحة توجهاته بصرف النظر عن صورتها النهائية وعن تفصيلاتها. والمسوغ الثاني لهذا "الصيام الاعلامي" الذي يمارسه الحزب، هو انه يتعمد فعلا ان يعطي الرئيس المكلف تأليف الحكومة فرصة ان يأخذ وقته كاملاً في عملية التأليف وما يكتنفها من ملابسات واخذ ورد هما بالاصل من طبيعة عمليات التأليف في لبنان وبالتحديد من العمل باتفاق الطائف حيث القواعد الجديدة لتركيب الحكومات.
ولا تخفي الدوائر نفسها ان الحزب حرص كل الحرص على الا يجعل من نفسه عبئاً لا على الرئيس المكلف ولا على الفريق السياسي الذي سمّى الرئيس ميقاتي، وهو منوال سيواصل النسج عليه حتى تأليف الحكومة ولن يبادر الى التدخل الا في حال طلب منه ان يؤدي دور المدوِّر للزوايا الحادة والكاسح للعقبات التي يمكن ان تبرز من هنا او من هناك.
وفي كل الاحوال فان الدوائر نفسها في الحزب باتت تتحدث صراحة و"بجرأة" اكثر من اي وقت مضى عن ضرورة التعجيل في استيلاد الحكومة بناء لاعتبارات اربعة:
– ان الرئيس المكلف اخذ فرصته كاملة في محاورة الفريق الآخر حتى بلغه رسمياً ان هذا الفريق لم يكن اصلاً يرغب في الانضمام الى هذه الحكومة، وان كل ما طرحه مجرد شروط تعجيزية ينطلق منها مستقبلا لاستكمال مواجهته للرئيس المكلّف وجعلها ربط نزاع معه.
– ان الرئيس المكلف يتقن بالدليل الملموس ان ثمة غطاءً عربياً اسبغ عليه كان ابرز دلالاته بيان مجلس التعاون الخليجي الذي لم يجف حبره بعد.
– ان الحزب تبلغ عبر اكثر من طريق كما تبلغ الرئيس المكلف نفسه، بأن العواصم الاوروبية باتت مقتنعة بضرورة اعطاء الرئيس ميقاتي فرصته لينجح ويرسي أسس تجربة جديدة في الحكم.
– ان كل "العقد" الداخلية التي يمكن ان تعوق ولادة الحكومة في القريب العاجل صار معلوماً انها قابلة للنقاش وايجاد التفاهمات حولها.وعليه لا يخشى الحزب القول بأن تأخير ولادة الحكومة من الآن فصاعداً سيمتص من رصيد ميقاتي والفريق السياسي الذي يتكوكب حوله.
اما المسوغ الثالث الذي يجعل الحزب في حال اطمئنان تملي عليه "اراحة" المشهد السياسي، فهو انه ليس مضطراً لأن يصاب بحال خوف وهلع من نهج التصعيد والتوتر الذي يمارسه فريق تيار "المستقبل" والذي بلغ ذروته في مهرجان 13 آذار في ساحة الشهداء.
وهذا لا يعني بالنسبة الى الحزب ان هذا الفريق سيوقف حركة احتجاجه الشرسة على اخراجه قسرا من السلطة الاجرائية لأن الجميع يدركون انه اذا توقف عن هذا "الحراك الاعتراضي" يكون قد وضع نقطة نهائية في آخر سطر من سطور السياسة، لذا فان هذا الفريق بات "محكوماً" باجتراح المناسبات والذرائع لابقاء صوته عالياً واختراع العناوين التي يعتقد انها "جذابة" كمثل عنوان السلاح.
وعليه فان السؤال المطروح هو: هل يخشى الحزب من "اجندة" معينة ربما محفوظة في جعبة هذا الفريق "لتطوير" وتعلية معركته في قابل الايام؟
ترى دوائر معنية في الحزب ان اخطر ما يمكن ان يواجهه الفريق الخصم هو انه سيكون مضطراً الى امرين صعبين جداً:
– الأول: ابقاء جمهوره والبلاد عموماً في حال ارتجاج وتوتر دائم من خلال ممارسة الاعتراض في الشوارع والساحات، وهو امر يحتاج الى شروط ومقومات ليست بالضرورة متوافرة عند جمهور هذا الفريق.
وبمعنى آخر سيضطر هذا الفريق الى اخذ المكان الذي كانت المعارضة السابقة تضع نفسها فيه دوما خلال الاعوام المنصرمة.
– الثاني: ان جمهور هذا الفريق سيصاب بعد فترة قد تطول او تقصر بحال احباط وخيبة امل لأنه سيجد ان الامور السياسية "ستقلع" لا سيما بعد تأليف الحكومة ولأن الشعار الذي يرفع لواءه وهو ازالة السلاح من المعادلة لن يتحقق اطلاقاً.
وفي كل الاحوال لا تعتقد دوائر الحزب عينها ان الفريق الخصم، بخلاف ما يقول، ليس في يده ما يستطيع ان يفعله جديا في الأيام المقبلة، بل سيحصر نفسه في موقع "رد الفعل" اي انه سينتظر افعال فريق الاكثرية الجديدة ليبني عليها وليشرع في حركة الاعتراض، وبالتالي سيكون اسير الانتظار والمراوحة خصوصا اذا كانت الحكومة العتيدة المقبلة على قدر ما هو متوقع منها من الآمال والتوقعات في ارساء قواعد جديدة للحكم ولمحاربة الفساد ومقاربة شؤون الناس وقضاياها اليومية الملحة.
ولكن الا يخشى الحزب تداعيات وانعكاسات المستجدات المتسارعة في المنطقة، ولا سيما في منطقة الخليج وبالتحديد بعد "الغزو" العسكري السعودي المغطى بدعم خليجي للبحرين، على مسار الاوضاع في الساحة اللبنانية التي تمتلك عادة قابلية التأثر والتماهي بما يدور حولها؟
لا ريب ان الحزب يمتلك عيناً حساسة حيال هذا الامر وربما يعي اكثر من سواه ابعاد مثل هذه الاحداث والتطورات المنفتحة على المزيد من التفاعلات.
ولا ريب ايضا ان الحزب توقف ملياً امام الصورة العملاقة التي ارتفعت في مهرجان الاحد الماضي في ساحة الشهداء للعاهل السعودي وما يمكن ان تنطوي عليها من دلائل مضمرة ومعلنة.
وبالنسبة اليه اذا كان اسدال هذه الصورة يترجم رغبة سعودية في تغطية مضامين كلمات المهرجان ولا سيما ما اتصل منها بموضوع الحملة على السلاح مع ما يعني ذلك من رغبة تضمرها الرياض في توسيع اطار المواجهات، او اذا كان ذلك يعبر عن"استجداء" من جانب تيار "المستقبل" لدعم سعودي يعتبره التيار وزعيمه احد حبال السرة الذي يعتاش ويتكسب منه ويشكل رافعته، فان الامر سيان لاعتبار اساسي واحد هو ان الحزب، وحلفاءه، لم يعد مضطراً لأن يبذل جهودا كبرى ليمد جسور العلاقة والتواصل مع السعودية كما حصل ابان ازمة عامي 2007 و2008، فالرياض لم تعد لها الكلمة الفصل في الساحة اللبنانية وصارت هي الآن في موقع "الشريك المضارب" المحتاج الى رضى الآخر ليقبل باعطائها حقه او ليرضى بأن لا يلغي حصتها نهائياً، علماً ان الحزب لم يفكر يوماً بقطع قنوات التواصل مع السعودية او الوصول معها الى حالة تصادم، حتى في احلك الظروف واصعب الاوقات.

السابق
الثورة الإيرانية في البحرين
التالي
ماروني: الحكومة ذاهبة الى ما بعد القرار الظني