أهالي بعلبك – الهرمل على قلق يحاكي خفة هزلية

مدينة الشمس

كثير من القلق الممزوج بالخوف المخفي تحت الجلد، انتاب أهالي المناطق الحدودية مع سورية في منطقة بعلبك – الهرمل (شرق لبنان)، منذ بدء الحديث عن توجيه ضربة عسكرية غربية للنظام السوري. تبدو حال الناس في تلك المنطقة ذات الغالبية الشيعية، والمرتبطة ارتباطاً حيوياً بدمشق وحمص والقصير، غريبة إلى حدّ الهزلية. فهم معروفون بجدّيتهم وصلابة سلوكهم المتأثّرة بالطبيعية الجافة للمنطقة والشمس الحادة القريبة من أرضهم، لكن احتمال توجيه ضربة عسكرية غربية جعل يوميات غالبيتهم تتّسم بشيء من الخفّة التي لا تُحتمل.
فالتحية الدارجة هنا «سلام عليك» تحوّلت سؤالاً مكرّراً في اليوم آلاف المرات: «متى ستبدأ الحرب؟ هل سمعتم آخر خبر؟ ماذا قال أوباما؟ ولافروف؟ وماكين؟ وهولاند؟ وفابيوس؟». والأحاديث تحوّلت نكاتاً وروايات عن حرب مرتقبة، وصواريخ متخيّلة بألوان قوس قزح قاتل! والترقّب أفسح المجال أمام إعادة النظر بالحروب السابقة ومخلّفاتها، وذكريات أليمة كالتي يرويها حسين أستاذ المدرسة الذي نجا من الخطف عام 1975 على أحد الحواجز الميليشيوية. هناك حيث تسارعت دقات قلبه وقبّل يد المقاتل ليتركه كي يعيل 5 أطفال في انتظاره. حسين بارع برواية الأحداث وتفاصيلها، خصوصاً تلك التي تتخلّلها قذائف ومتاريس، يمثّل بجسده تحرّكاتها وبصوته أصواتها. لكن ابن الستين سنة، يقولها بالفم الملآن وبأسى: «أنا خائف جداً، لن ينجّنا أحد هذه المرّة. الكل سيتركنا وحدنا حتى الروس والإيرانيون. وقد لا أعيش لأخبركم عن تجارب حرب إضافية»!
محزن كلام حسين الذي قضى حياته يتهجّر من منطقة إلى منطقة، وينجو من حروب مستمرة، حاله وحال أهالي المناطق الحدودية مع سورية، تذكّر بالقلق الرهيب الذي انتاب أبطال فيلم «ميلانكوليا» للمخرج الدنماركي لارس فون ترايير. ردود فعل أبطال الفيلم، إزاء كارثة يعرفون أنها باتت وشيكة للغاية منهم وأصبح أمرهم محسوماً منها، قد لا تختلف كثيراً عن ردود فعل الأهالي خصوصاً غير المناصرين لـ «حزب الله» أو الذين غير راضين عن مناصرته للنظام السوري. فهؤلاء، ينتظرون «التوماهوك» وقد يموتون حرقاً، كما تقول راغدة التي لم تعد تنام جيّداً منذ بدء الحديث عن ضربة عسكرية لسورية. «بالكاد أغفو، التوتّر يؤرقني ويؤرق زوجي وأولادي. لا نفهم بالسياسة جيداً لكننا نفهم أن حياتنا في خطر».
لا يختلف توتّر راغدة المتدرّج في وتيرته الذي يتصاعد كلّما سمعت تصريحاً، أو كلما رنّ هاتفها الذكي ليعلن عن خبر عاجل أوردته خدمة هذا الموقع الإلكتروني أو ذاك، عن توتّر كلير وجوستين اللتين تنتظران أن يصطدم كوكب «ميلانكوليا» بكوكب الأرض. لكن الفرق بين كارثة الحرب والكارثة الطبيعية، أنه ليس في الأخيرة ظالم ومظلوم، ولا معارض أو مؤيّد، ولا مشوّه أو مشلول. فهناك في أفلام الخيال العلمي، الأمور حاسمة، أما هنا في بلداننا فلا شيء محسوماً بعد، حتى الحرب التي يمتنع الناس أحياناً عن إعلان الخوف منها على اعتبار أنها حرب وجودية ودعائية ونفسية. فهم «أشرف الناس» كما يصفهم الأمين العام لـ «حزب الله» السد حسن نصرالله، وهم مناصرو المقاومة التي انتصرت على إسرائيل في 2006 «نصراً إلهياً»، فكيف يُعلنون خوفهم ويُعبّرون عن مشاعرهم الضعيفة؟
ينتظر الناس هنا عادة، خطاب نصر الله ويتابعونه باهتمام، لكن منذ التحضيرات التي غزت البحر المتوسط بحاملات الطائرات والمدمّرات والصواريخ، صارت خطابات أوباما ولافروف وهولاند وماكين وكاميرون، غير المحبوبين أبداً لدى غالبية سكان أهل المنطقة من ركائز اليوميات البعلبكية بامتياز. ويبنون على أساسها مشاريعهم وأسفارهم وتحضيراتهم للحرب المقبلة.
تنشغل النساء هنا بتحضير مزيد من المؤن كالبرغل والكشك والمكدوس وربّ البندورة (طماطم) والفاكهة المجفّفة. «في حرب تموز 2006 انقطعت المعلبات والأجبان في الضيعة، حتى الدجاج واللحم البقري انقطع، ولو لم يكن لدينا برغل وعدس وكشك، لمتنا من الجوع»، تقول ابتسام الأم لأربعة شباب. وتؤكد الخمسينية أنها هذه السنة زادت حجم المؤن ضعفها، «نخاف من الضربة، فإذا ضربت سورية نحن جزء منها ولن تترك أميركا حزب الله بمأمن».
تضحك جارتها في بلدة العقيدية وهي تحشو الباذنجان بالجوز والحرّ، قائلة: «الأهم من ذلك، أن نعيش لنأكل ما صنعنا. يا حسرتي على هذه الدنيا كل فترة تأتينا حرب وتوقف حياتنا. فنصبح كألعاب الدمى في انتظار من يحرّكنا».
لكن فاطمة الثلاثينية الأم لثلاثة أطفال، والتي تعتقد أن «النصر معنا بإذن الله»، قررت بعد الانتهاء من تحضير مؤونة عائلتها، الانتقال إلى بيروت علّها تكون آمنة أكثر من بعلبك. وتقول أختها التي ودّعت زوجها قبل يومين ليذهب «مع الشباب» ولا تعرف أراضيه، «قد لا تكون قوّتنا تضاهي قوة الترسانة الغربية، لكن لنا الشرف بالموت شهداء وهذا هو النصر الذي نتحدث عنه». فيصرخ ابن خالتها علي الذي يحاول السفر إلى كندا عند أقربائه هرباً من الحرب: «هذا ليس نصراً. ولا نريد موتاً إضافياً. أريد أن أتزوج وأخلّف لا أريد الاستشهاد». فتعلو الصرخة ضدّه كأنه ارتكب حماقة لا تغتفر. «ماذا تريد إذاً أن نبقى جبناء خاضعين للغرب؟»، يسأله مهدي. فيؤكد سامر وهو ممدّد ينفث نرجيلته: «سنهزمهم كما هزمناهم في القصير وحمص وفي حرب تموز. إسرائيل وأميركا والعالم كلّه يخاف من ضربة حزب الله وليس نحن من نخاف. نخاف فقط على تدمير البلاد والأطفال والنساء. أما الحرب فنحن لها». فيسأل علي المغضوب عليه هنا: «بمجرّد الطلقة الأولى ستختفي كل هذه الحماسة. أنتم تتحمّسون فقط، لكن لماذا لم تذهبوا إلى الجبهة؟». يصمت الشباب، ثم يقول سامر: «لو طلب السيّد حسن لألبي النداء حتماً».

جلسات تحليلية
يغوص عباس ابن السبعين سنة مع أصدقائه المتقاعدين في قرية بيت شاما (شرق بعلبك)، بالأحاديث السياسية منذ يفتح عينيه باكراً وحتى ينام. «الوضع لا يُطمئن أبداً، نحن في حالة حرب منذ بدأت الأحداث تتسارع في سورية. وإن وقعت، ستكون أخطر حرب على المنطقة»، يقول الأستاذ الجامعي المتقاعد. فيمازحه صديقه عادل تاجر الألبسة الذي يشكو بانتظام من جمود الحركة التجارية: «لكن أبو علي محمد سيحسم المعركة… سيرتدي حذاء «أديداس» الجديد ويقضي على كل المدمرات». يضحك الجالسون الغارقون في تحليلات وتوقعات عسكرية لا تفضي إلى نتيجة. فيسأل عباس: «لماذا تضحكون هكذا؟». يردّ أحدهم: «التحق أبو علي جارنا ابن الـ 65 سنة، بمعسكر «مع الشباب» منذ أسبوع. يبدو أنهم أعلنوا حال التعبئة». يعاود الجميع الضحك من جديد بصوت عال. فيسأل عباس: «وهل هذا الرجل العجوز يمكنه القتال بعد؟». يشرح حسن طبيب الأسنان هازئاً: «لا نعلم ماذا سيفعل موظف حكومي متقاعد منذ زمن، على الأرجح قد يضعونه في المطبخ أو في قسم التنظيفات أو في قسم الحسابات بما أنه حريص جداً على كل ليرة في جيبه!!!». لكن سرعان ما تتحوّل حلقة المزاح هذه سلسلة ضحك متواصلة، عندما تصل ابنة أبي علي لتُعلمهم أن أباها «عاد من الجبهة سالماً غانماً». فيضرب عباس كفاً بكفّ، معلناً تعليق الجلسة في بيته وانتقالها إلى بيت «العسكري العائد من الحرب الافتراضية».

السابق
“8 آذار” رداً على الرئيس: رفضنا إعلان بعبدا وسنرفضه وسيبقى حبراً على ورق
التالي
كيري للافروف: الوقت مبكر جداً لأثق بكل كلمة تقولها