ذلك الذي لا اسم له..

ليس للعشاق خصائص محددة. ليسوا مجموعةً مستقلة منفصلة عن الكوكب. ببساطة، يمكن أنّ يكونوا، في لحظة واحدة، هم العالم. الحبّ على مقاس الجميع. يوم واحد لا يكفي للاحتفال فيه، لكن، ربما، للمرور العابر، على أجمل ما قيل فيه

لا أحد أكبر من الحبّ أو أصغر منه. لا يمكن أن يكون «يوماً مسخاً» واحداً، وفي الوقت عينه، لا أحد يسعه تجاهل الأحمر الكثير الذي تعبق به المدن في مثل هذا اليوم. الحبّ على مقاس الجميع. ليس مفهوماً إن كان يدخل الآخرين، أم هم الذي يدخلون إليه. وربما، لذلك، فضّل الشاعر الفلسطيني، محمود درويش، أن يحسم جدلاً طويلاً بينه وبين الحب: «كمقهى صغير على شارع الغرباء، هو الحب، يفتح أبوابه للجميع».

وعلى طريقة درويش، اختارت الشاعرة اللبنانيّة، جمانة حداد، أن تضع حداً للتباينات في التعريف: «قالت إن الحب يشبه القمار، وإنها تخسر دائماً، قالت إنه عادةٌ سيئة، لا تجرؤ على الشفاء منها». من يقامر يخسر دائماً. والحبّ مقامرة دائمة، أشبه بعَوْد أبدي فردي، لا خلاص منه. لطالما ارتبط الشعر بالحب وصار أغلب الناس شعراء في عيده. «الأرض بلا حياة، ولا شيء آخر يحيا سوى القلب، تلفك الأرض الباردة، لا حنيني». هذا قلب فرناندو بيسوا، الشاعر البرتغالي، الذي يردم الفجوة بين الأرض والحياة بالقلب. بيسوا، الشاعر، يعرف الطريق إلى الحبّ ويبصر بحنينه.
على نقيض منه، تحتار رائدة النسوية الإيطالية، سيبيللا أليرامو، في تعريف المشاعر المتراكمة. تخرج عن سياق العيد، لكن ليس عن مضمونه. ولعلها، كنسويةٍ أولى، اختارت الالتباس في الحب: «ليس اسمه حباً، لكن لا شيء في العالم يهمّني قدره، وقدر عينيك النادرتي الابتسام، بقدر مصيرك الذي لا تعهد به إليّ، بقدر الحب الذي تكنّه لي سرّاً: حبكَ ذلك الذي لا اسم له». في عيد الحبّ، ليس الجميع فرحاً. الحب حادّ وذو وجهين يمتازان بالشغف عينه. وفي الشعر الذي قيل، وسيقال حتماً، سلطة الحبيبين متعادلة في لحظة الاحتفال. قوة واحدهما محكومة بضعف الآخر. الآخر قد يعلن ضعفاً واضحاً، كما يقول الشاعر وديع سعادة، راثياً ذاكرته، «فراشةُ الحُبّ تطير بعيدًا، وعطلةٌ قصيرة على كفّها، لكنَّ يدي أضاعت مفاتيحَها. أتدلَّى فوق سور الأسماء، وغيمةٌ تشبه اليد، ترفع لي قميصَ الشتاء».

قيل في الحب إنه فراشةٌ إذاً وإنه ورد. هل هناك من لا يرى كل هذا الورد في عيد الحب؟ الشاعرة البولندية، فيسوافا شيمبورسكا، رفضت أن تراه: «أمس، حينما اسمك ردّده أحدٌ على مسمعي، شعرتُ كما لو أن وردة، قُذفتْ في غرفتي من نافذة مشرّعة. اليومَ ونحن معاً، أدرتُ وجهي للحائط. الوردة؟ كيف تبدو الوردة؟ هل هي زهرة أو ربما حجر؟». لم تقصد الشاعرة إيذاء الورد. ربما، أرادته فعلاً يوميّاً لا يتحول إلى حجر. الورد لا يختصر الحب، لكن الحب يختصر العالم، كما أنه فكرة موازية لله، في «كتاب الحب» للشاعر السوري، نزار قباني: «ما دمت يا عصفورتي الخضراء حبيبتي، إذن، فإن الله في السماء». رغم بساطة المفردات وطفرة تردادها في «عيد العشاق»، يمكن الجزم بأن قباني لم يكن عبثياً في اختياراته، وإلا، لما لاقته ذاكرات شعراء آخرين، كبسام حجار، الذي يحاول إنقاذ الحبّ من أسطورة الأبد، حين يقول «وأَذكرُ أَنَّني، مُلتَصِقًا بكِ، كُنتُ أَسيرُ لكي أُعطيَكِ رسالتي الأخيرة. أنَّكِ، مُلتَصِقةً بي، كنت تبحثين عنِّي، لكي تجدي أَنِّي على الكُرسي. ما زلتُ أَنْتَظِرُ أَنْ يَجِدني أحد». وفي هذا شيء من الاعتراف بقسوة الذاكرة إذا اقترنت بحب تخطاه قطار الزمن، لا توزايه إلا قسوة الشاعرة الروسية، آنا آخماتوفا، التي ترثي حبها كالآتي: «وبينما كان كل منا يلعن الآخر، في شغف متّقد حد الانصهار، لم نكن كلانا قد أدركنا بعد ما أصغر الأرض على شخصين، وأن الذاكرة الضارية تبرح تعذيب الأشداء». وهكذا يصبح الحبّ، في الشعر، مقترناً بالذاكرة اقتراناً لا لبس فيه.

الحبّ والذاكرة توأمان، يكادان في الشعر أن يكونا جسداً واحداً. الشاعر اللبناني، يوسف بزي، تجاوز الواقع المحدد للعلاقة بين الحبّ والذاكرة، إذ تطهّر بالأول من الثانيّة وما فيها من آثام قديمة: «قضيتُ سنةً واحدةً من التَّلمُّس الأعمى، والصومِ، والتنفسِ، كي تستحيلَ الرغباتُ قويةً كأسناننا. أحياناً يخطر ببالي: سنعيشُ في غابة، لدينا مطبخ، باب قديم، ونستعمل الطاولة للحب».
ذاكرة الحبّ تتكرّر كل عام. ينقص حضور الشِعر فيها، لحساب الأشياء الأخرى، لكن، ما قيل في الحب، أجمل من الذاكرة نفسها. كاترين بييزان، الشاعرة الفرنسيّة، تغني في «نشيد العاشقة الرابع»، خلود يوم حب: «سوف نموت حباً نحن الاثنين، ذلك مذكور في كتاب الأنامل، ورموز هلاكنا رأيتها، في دلالات أيدينا المبتهلة، سنموت، فتعيد من أجلي اختراع المحيطات وأقمارها وأسماكها، والأرض التي تدور». في المقابل، يعود الشاعر اللبناني، شوقي أبي شقرا، إلى دمهِ، كي ينقذ الحب من هلاك الضرورة، فيقول «قلبي يتمشَّى وحدَه، عاريًا بعد العَشاء، انتظريه يَصْبغْكِ بالحبر الأحمر، ويصحِّحْ لكِ غلطة الكحل». وعلى نقيضٍ من ابتهالات بييزان، وآمال أبي شقر المعلقة على عين الحبّ، يقسو الشاعر الإيطالي بيير باولو باتزوليني على نفسه، متذرّعاً بالحب نفسه: «ها أنا إذاً في جلسة بوحٍ سامية مع نفسي، ذلك الملاك النجس الذي أحبّ. كم من اليباس في ملمس هذا الجسد الآن، كنتُ أعشقه شاباً، لأني كنتُ مؤمناً بالحبّ. لكني لن أخاف ولن أستسلم، بل سأطلب من الله الذي لا يعطي الحياة، ألا يدعني أموت». قيل في الحبّ ما لا تتسع صفحات قلوب الكون لاستيعابه. لكن، هل يمكن تجاهل الإيطالي كاميلو سباربارو؟ كان قولاً حاسماً لا يعترف بيوم يتيم للحبّ. الحبّ يعني الأبد: «لأجلها، كمثل شحاذ يقصد ضفّة النهر، ويرمي بهزء قرشه الوحيد، لأجلها، ضاحكاً، قد أرمي حياتي كلّها». 

السابق
فشلوا… ولم يعتزلوا الغرام
التالي
جسّ نبض