القرار..تجاوزات وفرضيّات من دون دليل

قرار الاتهام الذي صدر عن المدعي العام في المحكمة الدولية الخاصة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري يتضمّن فقرات يشتبه في أن وظيفتها الأساسية سياسية لا قضائية. أما التناقضات فتدلّ على إخفاقات مهنية غير مقبولة في مؤسسة تدّعي العمل بموجب أعلى المعايير الدولية

«المتهمون الأربعة مناصرون لحزب الله، وهو منظمة سياسية وعسكرية في لبنان. وفي الماضي، تورط الجناح العسكري لحزب الله في عمليات إرهابية». وردت هذه الجملة في الفقرة 59 من قرار الاتهام الذي رفع قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الخاصة بلبنان، دانيال فرانسين، السرية عن الجزء الأكبر منه أول من أمس. ولا يذكر المدعي العام دانيال بلمار في نصّ القرار المصدر الذي استند إليه للحسم بتورط حزب الله في الإرهاب. فليس هناك توافق دولي أو إقرار أممي جامع بتصنيف الحزب إرهابياً، بل إن حكومة الولايات المتحدة الأميركية تقود منذ ثمانينيات القرن الماضي حملات إعلامية وسياسية لتشويه صورة حزب الله عبر تصنيفه منظمة إرهابية أسوة ببقية التنظيمات المشاركة في مقاومة آلة الحرب الإسرائيلية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة حماس والجهاد الإسلامي وغيرها.

ولم يصدر أي قرار عن محكمة أو هيئة قضائية دولية أو عن الجمعية العمومية في الأمم المتحدة أو عن مجلس الأمن الدولي (الذي أنشأ المحكمة الدولية بموجب القرار 1757/2007) يصنّف الحزب أو يشير الى تورطه في الإرهاب، فعلى أي أساس سمح بلمار لنفسه بحسم هذه القضية في نصّ قرار قضائي صدر عن محكمة يفترض أن تعمل بحسب أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية؟

أما بشأن وصف المتهمين بأنهم «مناصرون لحزب الله»، ففي الفقرة نفسها ما يناقض ذلك بوضوح: ففي الجزء الثالث من الفقرة 59 يرد الآتي: «استناداً الى خبرتهما وتدريبهما وانتسابهما الى حزب الله، فإن من المعقول الاستنتاج أنه كان لدى (مصطفى) بدر الدين و(سليم) عياش القدرة على تنفيذ اعتداء 14 شباط 2005» (الفقرة جيم). فكيف يكون المتهمون مجرّد مناصرين لحزب الله كما يرد في مطلع الفقرة ومن ثمّ يتحوّل اثنان منهم الى منتسبين إليه؟
يدل ذلك، في الحدّ الادنى، على تراجع واضح في المستوى المهني للمدعي العام وفريق عمله. وللتأكيد على هذا التراجع الفاضح لأبسط المعايير المهنية التي تقتضي التدقيق في النصّ القضائي قبل نشره وتعميمه، لا بدّ من الإشارة الى الخطأ الوارد في الفقرة 21 من نصّ قرار الاتهام: فالمدعي العام بلمار قرّر إخفاء بعض المعلومات في النصّ بحجة الحفاظ على سرية التحقيقات التي ما زال يجريها، ومن بين تلك المعلومات عدد الهواتف المستخدمة في ما أطلق عليه «الشبكة الحمراء». لكن بلمار حذف الرقم في مكان وذكره في مكان آخر في الجملة نفسها، إذ جاء حرفياً في القسم «أ» من الفقرة 21: «أ. الشبكة الحمراء: شبكة سرية استخدمتها مجموعة الاغتيال وتتألف من (رقم محذوف) هواتف، اتسمت (رقم محذوف) منها بكثافة الاتصال، وكانت هذه الهواتف الثمانية مستعملة في 4 كانون الثاني 2005 حتى توقف استعمالها كلياً قبل دقيقتين من وقوع الاعتداء في 14 شباط 2005». يدلّ ذلك على خفة في تعامل المدعي العام مع القرار الاتهامي وذلك عبر عدم تدقيق فريقه في نصّ القرار قبل تعميمه، ما يشير الى تجاوز المعايير المهنية.

لماذا أصرّ فرانسين على إصدار مذكرات توقيف؟

إضافة الى القرار الاتهامي، رفعت المحكمة كذلك السرية عن نصوص مذكرات التوقيف الأربع، حيث تبين أن قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الدولية، البلجيكي دانيال فرانسين طلب من السلطات اللبنانية في 28 حزيران الفائت توقيف مصطفى بدر الدين وسليم عياش وحسين عنيسي وحسن صبرا وإحالتهم على لاهاي، على افتراض ثبوت الوقائع المسوقة بحقّهم استناداً إلى المعلومات المقدمة من المدعي العام بلمار والتي وردت في القرار الاتهامي والمواد المرفقة به. وسرد رئيس المحكمة الدولية القاضي أنطونيو كاسيزي أمس، نقلاً عن السلطات القضائية اللبنانية، تفاصيل أسباب تعذّر تنفيذ طلبات فرانسين حتى اليوم.

كان يمكن، بحسب قواعد الإجراءات والإثبات، أن تصدر عن فرانسين دعوات لحضور المتهمين المحاكمات، إما شخصياً أو عبر الفيديو (نقل مباشر) من المكتب الخاص بالمحكمة في منطقة المونتي فردي. وكان رئيس مكتب الدفاع فرانسوا رو قد عبّر لـ«الأخبار» عن موقفه المؤيد لإصدار دعوات للحضور لا مذكرات توقيف بحق المتهمين الأربعة، لكن فرانسين كان مصراً على إصدار مذكرات توقيف بحقهم. لماذا؟

أقنع بلمار فرانسين بأربعة دوافع تبرر صدور مذكرات التوقيف، وهي: أولاً، أن الرجال الأربعة متهمون بارتكاب «جرائم خطيرة وبخاصة مؤامرة هدفها ارتكاب عمل إرهابي، والتدخل في ارتكاب عمل إرهابي، وجرائم قتل عمداً»؛ ثانياً، إنّ «خطر الفرار من وجه العدالة قائم» لأنّ هذه المحكمة تلاحق المتهمين الأربعة «بسبب مشاركتهم في مؤامرة أحد أهدافها تحديداً الفرار من وجه العدالة»؛ ثالثاً، إنّ «خطر عرقلة المتهمين الأربعة سير التحقيق قائم»، ولا سيما من خلال قيام كلّ منهم شخصياً أو من خلال أشخاص آخرين «بتعريض الشهود المحتملين للخطر أو بتخويفهم، نظراً إلى أنّ ذلك حدث على ما يبدو في أثناء التحقيقات التي أجراها المدعي العام»؛ رابعاً، إنّ «خطر تواطؤ المتهمين الأربعة مع أشخاص آخرين ربما كانوا متورطين في الأعمال التي يشتبه في تورطّهم فيها خطر قائم لأنّ الشركاء أو المتدخلين المفترضين في هذه الأعمال لم تحدد هويتهم بعد، بل لم يستدعوا للاستجواب».

تستدعي الأسباب الأربعة التي وردت في مذكرات التوقيف الملاحظات الآتية:
1- إن «تعريض الشهود المحتملين (أو أي أشخاص آخرين) للخطر أو تخويفهم» يعدّ جريمة تهديد بموجب القانون اللبناني المعتمد في المحكمة الدولية بحسب نظامها الأساسي. وبالتالي يفترض، استناداً الى ما ورد في مذكرات التوقيف، أن يُتهم الرجال الأربعة بموجب المواد 573 و574 من قانون العقوبات اللبناني وغيرها من المواد التي تعنى بجريمة التهديد. غير أن التهم التسع التي ترد في القرار الاتهامي لا تتضمن تهمة التهديد. وبالتالي يُستغرب ورود جريمة منسوبة الى المتهمين في نصّ مذكرات التوقيف لم ترد في نصّ القرار الاتهامي. يرد كذلك في نصّ مذكرات التوقيف أن تهديد بعض الشهود وتعريضهم للخطر وقع «أثناء التحقيقات التي أجراها المدعي العام»، بينما لا يشير «بيان الوقائع» في نصّ القرار الاتهامي الى ذلك إطلاقاً.

2- إذا كانت النقاط الأربع التي وردت في مذكرات التوقيف صحيحة ومستندة الى دليل موثوق فيه، فلماذا لم تصدر مذكرات توقيف بحق الرجال الأربعة في أسرع وقت ممكن، أي قبل ثلاثة أشهر من صدور قرار الاتهام؟ فقواعد الإجراءات والإثبات (المادة 63 دال) تتيح للقاضي فرانسين توقيف المشتبه فيهم قبل اتهامهم بارتكاب الجرائم بثلاثة أشهر. وبما أن قرار الاتهام الذي يتضمن أسماء الأشخاص الأربعة كانت قد أحيلت النسخة الأولى منه الى القاضي فرانسين في كانون الثاني 2011، وعلى الرغم من إدخال بعض التعديلات على نصّ القرار، وبما أن «خطر فرار المتهمين الأربعة من وجه العدالة قائم» وبما أنهم يشكلون «خطر عرقلة سير التحقيق» و«تعريض الشهود المحتملين للخطر أو تخويفهم»، فلماذا انتظر القاضي ستة أشهر لإصدار مذكرات التوقيف بحقهم؟

3- لم يتوضّح كيف يكون «خطر الفرار من وجه العدالة» وكيف تكون مشاركة المتهمين الأربعة «في مؤامرة أحد أهدافها تحديداً الفرار من وجه العدالة» سبباً لصدور مذكرات توقيف بحقهم، بل قد تكون تبريراً منطقياً لاستمرار توقيفهم بعد القبض عليهم لا قبل ذلك. فإذا كانت «المؤامرة» المذكورة قائمة فعلاً، يتوقع أن تكون العقبات التي قد تحول دون توقيفهم متعددة وصعبة التجاوز، وبالتالي يفترض السعي الى إزالتها إذا كانت المحكمة تعمل وفقاً لمعايير العدالة. ولا شكّ أن إصدار مذكرات توقيف دولية ونشر أسمائهم وصورهم في وسائل الإعلام، فيما بدا تشهيراً بهم وبعائلاتهم وبأقاربهم وبالحزب الذي ينتمون إليه، أقلّ ما يقال فيه إنه لا يشجّع على التعاون مع المحكمة الدولية على أنها أداة صادقة لإحقاق الحقّ، بل يعطي انطباعاً بأن دانيال بلمار أصدر حكمه النهائي بحقهم وأقنع القاضيين فرانسين وكاسيزي بأمر التشهير العلني بهم والإساءة إليهم بدل أن يحرصا كلّ الحرص على قرينة البراءة. إن قواعد الإجراءات والإثبات تتيح للقاضي فرانسين رفض طلب بلمار إصدار مذكرات توقيف واستبدالها بدعوات للحضور، لكن قاضي الإجراءات التمهيدية ضيّع هذه الفرصة التي كان من شأنها التشديد على قرينة البراءة وتحسين صورة المحكمة أمام الرأي العام اللبناني المنقسم.

السابق
الانباء: بري لا مصلحة لأحد في أي تدهور أمني
التالي
الحالة المصرية..هل هي الصراع بين الليبراليين والإسلاميين؟