الحالة المصرية..هل هي الصراع بين الليبراليين والإسلاميين؟

استمعت على فضائية «المصرية» إلى مقابلة أجرتها إحدى الإعلاميات مع الدكتور أسامة الغزالي حرب رئيس جبهة العمل الديمقراطي، شخّص فيها الحالة المصرية بوصفها عودة إلى المجابهة بين الإسلاميين ممثَّلين بالإخوان والجماعات الأخرى الصغيرة من جهة، والليبراليين – الذين يعتبر د. الغزالي نفسَه واحدا منهم – وأحزابهم وجماعاتهم الجديدة من جهة ثانية. وأنا أعرف الدكتور أسامة منذ عقود، وكنت عندما التقيت به للمرة الأولى على أثر قراءتي لكتابه عن الأحزاب السياسية في سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية على ما أظن، سألته بعد إبداء إعجابي بالكتاب هل بينه وبين الغزالي حرب الأستاذ بالأزهر في الخمسينات والستينات قرابة، فقال إنه والده! وقد تابعت أعماله العلمية ونشاطه السياسي في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وكنت أزداد إعجابا به بصيرة ومعارف حديثة ومعاصرة، إلى أن صُدمت بدخوله في لجنة السياسات التي كان يرأسها جمال حسني مبارك في الحزب الوطني الحاكم سابقا. وقد قلت يومها للصديق نبيل عبد الفتاح: إن كنت أعرف الدكتور أسامة جيدا فهو لن يبقى طويلا في سياسات جمال مبارك، وسينتهي في المعارضة أو اعتزال العمل السياسي والعودة للأكاديمية. وقد صحّ تقديري وما صحّ في الوقت نفسه، فقد خرج الصديق أسامة من اللجنة والحزب الوطني، لكنه استطاع الحصول من نظام مبارك على شرعنة للحزب الذي أسسه وفي زمن قياسي في قِصره!

وعلى أي حال، ما توقّعت هذا التشخيص للحالة المصرية من جانب أسامة الغزالي حرب، لأنه عليم بحالة مصر وهو المصري العريق. ولأنه خبر الحياة السياسية المصرية أكاديميا وناشطا سياسيا. إنما يبدو أنه كان يعتبر الحزب الوطني الحاكم خارج التصنيف الليبرالي والإسلامي، وأنه عندما أخرج الحزب من الحياة السياسية استعادت تلك الثنائية الانقسامية قوتها: إسلاميون/ليبراليون. والحق أن مصر بالذات من بين الدول العربية فيها محافظون وليبراليون، وكلا المعسكرين المحافظ والليبرالي يحتوي على عشرات الأطياف القاتمة أو الفاتحة أو الباهتة، بحيث لا يكاد يخلو لون محافظ من قدر من الليبرالية، ولا يكاد يخلو لون ليبرالي من قدر من المحافظة. وتتضمن الأطياف المحافِظة مقادير مختلفة من الدين والتديّن، وكذلك الأطياف الليبرالية.

ذلك أن هذه الأمور في مصر ليست في الأغلب الأعم دينا أو لا دين، بل هي – كما في حالة أسامة الغزالي نفسه – رؤية شاسعة للعالم يقل فيها الأسود القاتم والأبيض الساطع، ويكثر فيها اللون الرمادي. وهذا المنزع كما يظهر في المواقف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يظهر أيضا في الموقف من دور الدين في الدولة هوية وإنماء وإدارة للشأن العام. وبعبارة أخرى فإن الخلاف بمصر ليس على الإسلام هل يكون في الدولة وإدارة الشأن العام أو لا يكون، بل أي إسلام يسع المصريين جميعا، كما وسِعهم ذاك الإسلام التاريخي. فالإسلام بمصر ومنذ آماد وآماد أدنى إلى ما يعرف في الولايات المتحدة بالدين المدني، أو الدين الحاضر في الثقافة العامة والأعراف العامة وفهم المصري لنفسه وعلائقه بالآخر وبالعالم. ولست أقصد من وراء ذلك أن الحالة المصرية فريدة من نوعها، ولا أنها باقية على ما كانت عليه قبل قرون أو عقود، بل الذي أقصده أن لمصر وبمصر رغم المتغيرات العنيفة أو بسببها – وعلى حد قول جمال حمدان – شخصية تكونت مزاجا وأخلاقا وتلوينات في الجغرافية والتاريخ والتنشئة، بحيث تحضر في أفرادها وفئاتها مشتركات كثيرة وغالبة، رغم بقاء الاختلاف في المواقف السياسية والاجتماعية، التي تميّز بين المحافظ والليبرالي، دون أن تؤدي إلى رؤية مختلفة للعالم.

لقد مرت على مصر منذ عام 1952 حقبة هائلة المتغيرات والاستقطابات، من بينها أو في طليعتها الدخول في سياق الحرب الباردة بين الجبّارين، وفي إلزامات القضية الفلسطينية بمقتضى فهم مصر لذاتها ودورها ومصالحها الاستراتيجية، وفي الحرب الباردة العربية (تقدمي/رجعي). ثم كانت صدمة التحول من معسكر إلى معسكر، والدخول في فلسفة اقتصادية واجتماعية جديدة، فإلى انكفاء وهدوء سلبي ظاهر أفضى إلى متغيرات عميقة وواسعة في المزاج وفي الأفعال وردود الأفعال. وقد أدى ذاك الانكفاء الذي تطور إلى عجز وشلل، إلى إعادة النظر من جانب فئات عريضة من الشباب بدور النظام والسلطة وطبيعتهما، بما يزعزع أو يثير التساؤل بشأن مسلَّمات الدولة النهرية السلطوية، ودولة الرعاية الأبوية.

وعلى أي حال فإن الثنائية كفكرة وواقع أوشكت أن تظهر بالفعل في مصر وبلدان عربية وإسلامية أخرى في عقود القحط والمحل المنقضية. وهي ما كانت ثنائية بين الإسلاميين والليبراليين (كما زعمت بعض الأنظمة العربية)، بل كانت ثنائية بين السلطات الجمهورية الوراثية الخالدة، والإسلاميين الاحتجاجيين المتمردين على تلك السلطات ثم على العالم على اختلاف في راديكالية النظرة والتصرّف. لقد أنتج استبداديو العالم العربي خصومهم ونقيضهم. وكلما ازدادوا عسفا متشجعين بالحماية والوظائف التي عهدت بها إليهم الترتيبات الإقليمية للنظام الدولي القديم والجديد، ازداد الإسلاميون الاحتجاجيون راديكالية، بحيث صار الاستقطاب الحاد على مشارف القرن الواحد والعشرين يشبه صراعا أسطوريا بين نزعتين عدميتين أو قرمطيتين. لقد احتكر الاستبداديون مشروعية الإرغام الفيبري والماضي والمستقبل. وواجههم الإسلاميون على اختلاف أصنافهم وفي طليعتهم الإخوان، معتبرين أنهم يمثلون المشروعية الدينية بكاملها والتي هجرتها أو فقدتها الأنظمة بسبب تغربها وفسادها.

وقد تفاقمت راديكالية السلطات وخصومها كما ظهر في انتخابات عام 2010. وقد أصدر حسام تمّام قبل شهور على ثورة 25 يناير دراسته التي صارت معروفة عن «تسلّف الإخوان»، أي سيطرة النزوع العقدي الضيّق للسلفيين بمصر على المزاج العام لدى قسم كبير من شبان الإخوان. فالراديكالية السلطوية أسهمت في توليد أو استثارة الراديكاليات الدينية، في الوقت الذي كان فيه الطرفان يزدادان غربة وغرابة عن نبض الجمهور ودفئه.

لقد جاءت ثورتا تونس ومصر، ومن ورائهما سائر الثورات العربية، لتعيد الجمهور الحي إلى الشارع بدلا من أصنام وتماثيل الأنظمة. وهكذا انهارت تلك الثنائية بانهيار أحد طرفيها. وإذا نجح الشبان الذين يسميهم الصديق أسامة الغزالي في تكوين سلطة جديدة بسرعة نسبية، فلن يذهب المتشددون الدينيون فقط، بل وسيتضاءل تماسك وتأثير الإسلام السياسي الإخواني أيضا. والذي أحسبه – بسبب صعوبة الاستقطاب من طريق ادعاء التفرد بنصرة الإسلام – أن الإخوان المسلمين سوف يتطورون إلى قوة أو قوى محافظة، تضم بين جنباتها فئات واسعة من الطبقة الوسطى الصغيرة، ومن أهل مصر العليا، وتحمل بالطبع قيم الإيمان والمظاهر الشعائرية والدفاع عن الإسلام بصوت عالٍ. إنما الذي سوف يجتذب الناس إليها، كما في السابق، ليس الدعاية الدينية بحد ذاتها، بل الخدمات التي تقدمها للناس في معيشتهم، والحرص على الاستقرار وعلى أخلاق الأمانة والطهورية والبعد عن الفساد ورفع شعارات القضايا الرمزية الكبرى التي ما كان النظام السابق أمينا لها من وجهة نظرهم! لهذا كله لا أرى أن تشخيص أسامة الغزالي للمشهد المصري إلى إسلاميين وليبراليين هو أمر دقيق، كما أنني لا أرى مبررا لرعب نجيب ساويرس، وإرادته الانكفاء يائسا والتحول إلى راعٍ للأغنام إذا فاز الإخوان بالأكثرية في الانتخابات! إذ الذي أحسبه أنه إن ظل المتسلّفون على هياجهم وإيذائهم للناس فإن رعي الغنم سيكون من نصيبهم ونصيب متسلّفي الإخوان، بل وهذا هو ما يفعلونه الآن!

السابق
القرار..تجاوزات وفرضيّات من دون دليل
التالي
المعوقون والأطفال يمثّلون خطراً على أمن اسرائيل !!