الخليل: المستشفيات الحكومية الـ22… “ورقة التين” الساترة لعورات الدولة الطائفية

 المستشفيات الحكومية ليست في أحسن أحوالها. أمراض نظامنا السياسي معششة فيها منذ اللحظة الأولى لولادتها الميمونة. الفارق الوحيد ما بينها وبينه أنها موجودة، على علّات هذا الوجود العديدة ومشاكله، لخدمة الفقراء ومحدودي الدخل، فيما هو مولود في الأصل لخدمة زعماء الطوائف ومحاسيبهم وأزلامهم وكل من لفّ لفّهم ومشى في ركبهم. أي أن ولادتها جاءت من خارج السياق الطبيعي لأواليات عمل نظامنا الطائفي ولثقافة القيمين عليه أيضاً وأيضاً. لذا ثمة محاولات دائمة ودائبة من قبل أركان هذا النظام لـ"تصحيح" هذه الغلطة المكلفة التي لم تكن في الحسبان. فالدولة الطائفية لا صلة لها من قريب أو من بعيد بالتحدي الرعائي الاجتماعي، المصنف دائماً وأبداً في خانة الإنفاق غير المجدي. الرعية في عرف الطائفيين توالي الـ"حاكم" لأسباب أنضج وأعمق وأبعد مما تقدم! تواليه لأنه الأجدر بتمثيلها، وحمايتها من غدر الطائفيات الأخرى وحسدها وغيرتها مما لديها، وممّا تنشد الحصول عليه! هكذا تتحوّل المستشفيات الحكومية الـ22 في غالبية المناطق إلى أداة بيد "الفئة الحاكمة" في تلك الجغرافيا. أداة لشراء ولاءات الأفراد وأصواتهم في أزمنة الانتخابات من جهة، ولتنصيب الزعامات الجهوية، من جهة ثانية. الوظيفة المراد لها أن تؤديها لا تعود تقتصر على الخدمة الجيدة والنوعية للمواطن المغلوب على أمره، فضلاً عن القدرة على تغطية أوسع رقعة ممكنة في المركز والأطراف على حد سواء. بل على العكس يغلب المضمر في هذه الوظيفة على ما هو معلن ومشاع. ما يؤدي، بطبيعة الحال، إلى تردي الخدمة وانزوائها، واستطراداً إلى تسخيرها لأغراض ليست منها، ولا علاقة لها بوظيفتها الأصلية التي أنشئت من أجلها، والتي بها تستمر، حتى لا يكون مآلها الموات البطيء والتدريجي. والموت، هاهنا لن يقتصر على المستشفى، بل سيمتد ليشمل عشرات الألوف، ويمكن المبالغة بالقول مئات الألوف، من ذوي الدخلين المتوسط والمحدود، العاجزين عن دخول المستشفيات الخاصة. وليس مثار عجب حقيقة أن غالبية تلك المستشفيات تتسم بانتهاء ولاية مجالس إداراتها. كما تئن تحت وطأة عجوزات مالية كبيرة، لأسباب بعضها معروف ومعلن، وأكثرها لا يجرؤ أحد على التطرق إليه، كونها تعتبر بنظر العديدين شرط حياة دولتنا الهشة ونظام حياتها في آن: تفشي مظاهر الفساد والهدر من أعلى الهرم وصولاً حتى قاعدته! قصارى القول أن المستشفيات المذكورة استظلت، ولا تزال، بعباءة الدولة؛ ولكن ماذا عساها تفعل إذا كانت الدولة التي نتحدث عنها هنا تعرضت للتعرية المنهجية منذ زمن، بفعل النزاعات الأهلية التي لا تنتهي! عجز أم هدر أم كلاهما؟ مستشفى رفيق الحريري الجامعي يعد احد أهم وأكبر المستشفيات الحكومية العاملة في لبنان، ان من حيث حجمه، أو من حيث نوعية خدماته. إذ يشكل وحده ما يبلغ ثلث حجم قطاع المستشفيات العامة، حيث قدم خدمات الاستشفاء في عام 2010 لحوالى 21 ألف مريض، من أصل حوالى 69 الفاً دخلوا الى سائر المستشفيات الحكومية. وهو يعمل منذ 3 سنوات بكامل طاقته التشغيلية. لكن المستشفى منذ انطلاقته في 28 آذار 2005 ومجلس إدارته يتأفف من غياب أية مساهمة تشغيلية من قبل وزارة الصحة، عملاً بمبدأ الاستقلالية المالية والإدارية الناظمة لعلاقة المستشفى بالوزارة. ومذّاك راح المستشفى يراكم عجوزات سنوية، وصلت مؤخراً إلى أرقام مهولة. أرقام تتراوح، بحسب مصادر مطلعة على أوضاع المستشفى، ما بين 50 و90 مليار ليرة، عبارة عن سلفات خزينة تغطّي فائض إنفاق المستشفى. ولمن يسأل عن الأسباب الكامنة وراء ازدياد حجم العجز المالي في مستشفى رفيق الحريري إلى هذا الحد (وهي الأسباب عينها في غيره من المستشفيات)، تضع "السفير" الوقائع الموثقة التالية المستقاة من تقارير مرمية في جوارير المستشفى، برسم المواطن والمسؤول في آن. وقائع تثبت تبخّر مليارات الليرات في الهواء بلا حسيب ولا رقيب: ـ تزوير نقل اعتمادات عبر وزارة الصحة (اقتراح رقم 3/07). ـ تعديل شروط المناقصة لمصلحة المورد بعد القيام بالتلزيم (قرار رقم 112). ـ مخالفات في عقود العناية الصحية (عقد أشغال عامة بتاريخ 16/7/2010). ـ مخالفات ضخمة بالمحروقات. ـ هدر وفساد في قسم غسيل الكلى. ـ الاستنسابية في شراء المعدات والأجهزة حسب علاقة (ن.ر) مع المورد. ـ تعديل الشروط الفنية لتتناسب مع بطاريات إحدى الشركات. ـ تعديل شروط المناقصات بعد إطلاقها لتتناسب مع إحدى الشركات المفضلة. ـ تزييف المستشار القانوني لواقع بعض المعاملات لتبدو قانونية في حين أن العكس هو الصحيح. إذ هي غير قانونية وكل من كتب عن عدم قانونيتها نال جزاءه عقوبة ودعاوى من مجلس شورى الدولة. ـ طلب المدير العام السير ببعض المعاملات بعد صدور قرار مجلس الإدارة برفض تمرير الأدوية لإحدى شركات الأدوية (benta). (رفض رئيس مصلحة الشؤون الطبية تمرير الأدوية). منذ اللحظة الأولى لاستلامه منصبه همس له البعض أن تعزيز دور المستشفيات الحكومية سيشكل التحدي الأبرز له إبان ولايته. ذاك أن الناس في موضوع صحتها وصحة أطفالها لا تتهاون. كما أن التاريخ الوطني لن يرحم في موضوع نجاحه في إدارة الملفات الحيوية المرتبطة بموقعه الحكومي. وزير الصحة العامة علي حسن خليل يقول لـ"السفير" إن "المستشفيات الحكومية، لا تزال في حاجة إلى تطوير فعلي كي تغطي الجزء الأوسع من حالات الاستشفاء في كل لبنان". ويضيف أن أهمية هذه المستشفيات الإستراتيجية تتبدى من خلال الأرقام التي تتجلى لدى الحديث عنها. فـ"اجمالي عدد الحالات التي دخلت الى المستشفيات الحكومية على امتداد لبنان بأسره بلغ في العام 2010 حوالى 69 الفاً و16 حالة، بينهم حوالى 12 ألف حالة مرضى داخليين، و55 الف مرضى خارجيين". وحول السقف المالي المخصص للمستشفيات الحكومية، يقول خليل "ان السقف المالي الذي تخصصه الوزارة لمستشفى رفيق الحريري الجامعي وحده يبلغ 22 مليار ليرة من داخل السقف، فيما يتلقى المستشفى عينه ما يناهز الـ10 مليارات ليرة من خارج السقف". ويبلغ السقف المالي الأساسي المخصص للمستشفيات كافة (الخاصة والعامة) (2011) والمصنفة فئة أولى 542 ملياراً و427 مليوناً و874 الف ليرة، يضاف اليها مبلغ وقدرها 35 ملياراً و212 مليوناً من خارج السقف الأساسي. ويبلغ السقف المالي الأساسي للمؤسسات المصنفة فئة ثانية حوالى 30 ملياراً و585 مليوناً و273 ألفاً، يضاف اليها مبلغ 250 مليون ليرة من خارج السقف. كما يبلغ السقف المالي الأساسي لما يسمى في جداول وزارة الصحة الأطراف الاصطناعية (المعاهد والمراكز والجمعيات) 648 مليون ليرة. وعن خطة الوزير لدفع المستشفيات الحكومية في مسار تطويري حقيقي ينتشلها من الدرك الذي تغرق فيه، يقول خليل "ثمة حاجة لرفع مستوى المستشفيات الحكومية ان على صعيد خريطة انتشارها أو على صعيد نوعية الخدمة والاختصاصات والتجهيزات الطبية، فضلاً عن الطاقم الطبي والجهاز التمريضي، وكل ما من شانه المساهمة في عملية بناء الثقة بين المواطن والمستشفيات". ويتابع "هناك تجارب ناجحة يبنى عليها لتجنب الخلل الموجود في بعض المناطق، حيث قامت بعض المستشفيات بتطوير حالها وتوسيع أقسامها وبطبيعة الحال زيادة طاقتها الاستيعابية". أما أبرز المشاكل التي تعترض سير عمل المستشفيات الحكومية فهي برأي خليل، "انتهاء صلاحية كل مجالس إدارات هذه المستشفيات، الأمر الذي يقتضي الشروع في ورشة عمل ضخمة لإعادة هيكلة إدارات هذه المستشفيات في اتجاه تزخيم نشاطاتها ودورها". وعن أبرز المشاريع المنوي تنفيذها قريباً يشير خليل الى أن هناك محاولة لربط المستشفيات الحكومية برمتها بشكل مركزي بوزارة الصحة. هذا فضلاً عن تأمين التغطية الصحية الشاملة والالزامية للناس، وتطوير نظام الاستشفاء العام من خلال مراكز الرعاية الصحية الاولية والمستشفيات الحكومية على قاعدة زيادة حجم الخدمات ونوعيتها وفتح الباب أمام ضبط الكلفة وتحسين الوضع الاداري، بشكل يجعل المستشفيات تدار باعلى المعايير العلمية، وبما يعني إعادة هيكلتها، وتالياً اعتماد نظام وظيفي جديد وتعزيز الرواتب في بعض الأحيان. علاوة على ذلك، يتبدى من الضروري، بغية تطوير النظام الطبي، الارتكاز الى الأنظمة ذاتها المستخدمة في المستشفيات الخاصة، والتي ثبتت فعاليتها ونجاعتها". كذلك، ثمة بحسب ما يقول خليل "مشاريع جديدة مطروحة امام مجلس الوزراء لانشاء مستشفيات حكومية جديدة، من ضمنها تطوير وتوسيع بعض تلك الموجودة، كما العمل على أن تكون المستشفيات واسعة الانتشار وقادرة على تغطية المرضى المتواجدين حيث هي موجودة". أما ابرز مشاريع الوزارة فهي بحسب خليل: 100 سرير جديد لمستشفى بعبدا الحكومي قريباً، افتتاح مستشفى تبنين المنشأ بالتعاون مع الحكومة البلجيكية في منتصف آب، تحويل مركز الكارنتينا إلى مركز تخصصى للاطفال، 100 سرير ايضاً لمستشفى صور، 100 سرير لمستشفى الصرفند (ممولة من البنك الاسلامي)، افتتاح قسم جديد متخصص في الحروق في مستشفى النبطية (هبة كويتية)، 5 أسرّة جدد لقسم القلب المفتوح في مستشفى النبطية، اتفاق مع دولة الإمارات العربية المتحدة على تشغيل مستشفى شبعا، افتتاح المستشفى التركي في صيدا الخ… وتقوم الوزارة بتقييم دوري ودائم لأداء هذه المستشفيات على ما يوضح خليل. كما توجد اتفاقية تعاون جديدة مع وزارة الصحة الفرنسية تتيح استكمال عملية التقييم والتدريب في المستشفيات، كما تفسح المجال للتعاون مع الهيئة العليا للصحة في فرنسا لتحسين نوعية الخدمات. الوزان: اهتزازنا يهز الدولة رئيس مجلس الإدارة المدير العام بالإنابة لمستشفى رفيق الحريري الجامعي د.وسيم الوزان الذي انتهت ولايته بتاريخ 7/2/2008، يميل إلى لغة التشاؤم لدى تناول وضع المؤسسة. ويقول لـ"السفير"، محاولاً تعيين العلاقة ما بين المستشفى والدولة، "أن أي اهتزاز يتعرض له المستشفى سيؤدي الى اهتزاز بنيان الدولة برمته". ويضيف "من شأن أي دعم تقدمه الحكومة لتعزيز خدمات هذه المستشفيات أن يشكل أحد نجاحات الحكومة على المستوى الاستراتيجي، كما انه يوجه إشارة ايجابية إلى الدور الذي تلعبه هذه المستشفيات على الصعيد الوطني". ويحدد الوزان أبرز مطالب المستشفى من الحكومة الجديدة ووزير الصحة الجديد بما يلي: معالجة العجز المالي المتراكم على امتداد 6 سنوات من التشغيل، بفعل حقيقة أن المستشفى لم يتلقَ مساهمة تشغيلية لحظة ولادته من خارج فواتير المستشفى، فيما دعم الوزارة سجل دوماً على أساس سلفات خزينة". فـ"أوضاع المستشفى وارتفاع كلفة الخدمات التي يقدمها مقارنة بالفواتير الموازية التي يتلقاها من الوزارة، تدفع المستشفى الى طلب اعتمادات تفوق السقف المالي المقر للمستشفى بمبالغ طائلة، وهو ما اضطرنا الى اقامة عقود مصالحة أكثر من مرة. والمستشفى اليوم مدين (سلفات خزينة) للوزارة بحوالى 50 مليار ليرة". وعما إذا كان بمقدور وزارة الصحة إلغاء هذه الديون على أساس أنها مقابل المساهمة التشغيلية التي لم تدفعها الوزارة للمستشفى، يوضح الوزان بنبرة متمنية "لا دخل للمستشفى بهذا وانه أمر يعود بته إلى وزارة الصحة وحدها". وعن أداء المستشفى يقول الوزان "خلال ست سنوات من عمله دخل الى المستشفى ما مجموعه مئة ألف مريض، بينهم 21 ألف حالة في 2010 وحدها، 72 في المئة منهم على حساب وزارة الصحة". لكن المستشفى برغم تطور أدائه ونمو تشغيله الدائم "عانى ككل مؤسسات الدولة من غياب الموازنات السنوية والعمل على أساس القاعدة الاثني عشرية، ما اضطر وزارة الصحة الى اقتطاع مبالغ له من حصص المؤسسات الأخرى التابعة لها". ومرد ارتفاع كلفة المريض في المستشفى "الى كون غالبية مرضى المستشفى من محدودي الدخل. اذ 34،8 في المئة منهم مصابون بأكثر من 3 أمراض، و22،5 في المئة فوق عمر الـ66، في حين ان 11 في المئة من هؤلاء دخلوا الى وحدات العناية الفائقة". وبرغم ذلك، يوضح الوزان "لا تزال كلفة التطبب في المستشفى أدنى من الكلفة ذاتها المسجلة في المستشفيات الخاصة المماثلة إمكانياتها لإمكانياتنا". وتبلغ الكلفة الإجمالية للإنفاق على الرواتب والأجور وتوابعها حوالى 35 في المئة من ميزانية المستشفى البالغة حوالى 70 مليار ليرة، وفق الوزان. وبما يثبت مرجعية المستشفى في بيروت وجوارها وعلى مستوى كل لبنان، يشير الوزان الى ان 55 في المئة من مرضى المستشفى من بيروت والضاحية، فيما الـ45 في المئة من جميع المناطق الأخرى. ولدى المستشفى 350 طبيباً مسجلاً على لوائحه، بينهم حوالى 150 طبيباً فاعلاً، بينهم 30 طبيباً يشغلون مناصب رؤساء دوائر، بحسب الوزان. اما الممرضون فعددهم 500 ممرض وممرضة، الا انهم معرضون للتناقص على الدوام بفعل ظاهرة الهجرة، التي يردها الوزان الى شعور الممرضين والممرضات بأن المسؤوليات المطلوبة منهم أكبر بكثير من معاشاتهم. أما أبرز المعدات الناقصة والمتقادمة فأهمها: ماكينة CT scan للتصوير (هناك 2 تقادما)، وماكينة MRI للرنين المغناطيسي، وآلة تمييل شرايين القلب (هناك الة شغالة، وثمة حاجة لأخرى). * (تجدر الإشارة إلى أن "السفير" ستنشر تباعاً تقارير لمراسليها تتناول واقع المستشفيات الحكومية في مختلف المناطق اللبنانية، في محاولة منها لتسليط الضوء على أهمية تلك المستشفيات من ناحية، وعلى حاجاتها ومواطن ضعفها وقصورها من جهة ثانية).
 

السابق
وداع «صاحب المقالب»: الفنان محمود مبسوط (فهمان) إلى مثواه الأخير
التالي
“سنة” سوريا و”شيعة” العراق