موقف لبنان من «الاجتياح الروسي لأوكرانيا» يكشف.. «عورته» الدبلوماسية

لبنان

كشف موقف بيروت «المثير» من الحرب الروسية على أوكرانيا ملامح التخبّط في السياسة الخارجية اللبنانية منذ أن تولى رئيس الجمهورية ميشال عون مهماته، إذ لا تكاد «بلاد الأرز» تفلت من كبوة ديبلوماسية فادحة، حتى تقع في حفرة جديدة يصعب أن تخرج منها من دون آثار سلبية.

خمسة ورزاء خارجية حتى الآن، جبران باسيل، ناصيف حتي، شربل وهبه والوزيرة بالوكالة زينة عكر، وعبدالله بو حبيب. ومع كلٍّ من هؤلاء، خطا لبنان خطوات ديبلوماسية متعثرة، ولعل استقالة حتي من الخارجية (اغسطس 2020) كانت أكثر الخطوات تعبيراً في رمزيّتها عن غياب سياسة خارجية واضحة ينتهجها لبنان.

منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الحربَ اللبنانية في 1990، كانت السياسة الخارجية في خدمة عنوان رئيسي يحكمها وهو تَلازُم المسارين بين لبنان وسورية في المؤتمرات الدولية والتعامل مع الشرعية الدولية. وكان موقف وزير الخارجية يعبّر تماماً عن السياسة التي اعتمدها عهدا الرئيسين الياس الهرواي واميل لحود تماهياً مع ما كانت ترسمه سياسة النظام السوري.

وكان الوزراء المتعاقبون، فارس بويز والرئيس سليم الحص، محمود حمود وجان عبيد، يعكسون هذا الموقف الأقرب الى ما يرسمه وزراء خارجية سورية، من عبد الحليم خدام، الى فاروق الشرع ووليد المعلم.

بعد العام 2005، وخروج الجيش السوري من لبنان على وهج «ثورة 14 مارس»، أصرّ الثنائي حزب الله وحركة أمل على تولي الوزارة محدّديْن سياسةً أقرب ما تكون استمراراً لِما سبق الانسحاب السوري، مع بعض الروتوشات التي تجمّل شكلاً الموقف من بعض القضايا الحساسة. فتولى الوزارة كل من فوزي صلوخ وعلي الشامي وعدنان منصور الذي وخلال ولايته في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي (بين 2011 و 2013) عارَضَ لبنان قرار وزراء الخارجية العرب بتعليق مشاركة سورية في اجتماعات الجامعة العربية.

ومع حكومة الرئيس تمام سلام (فبراير 2014) التي سبقت الفراغ الرئاسي، أصر «التيار الوطني الحر» (حزب عون) على الحصول على حقيبة الخارجية، فتولاها الوزير جبران باسيل منذ 2014 وحتى 2020.

ست سنوات بدت لباسيل وكأنها ولاية رئاسية، تمكّن خلالها من فرض إيقاعه على الوزارة، في التشكيلات الديبلوماسية وفي التعيينات الداخلية، وفي خلافه مع الرئيس نبيه بري حول بعض مهمات مديرياتٍ فيها.

عون وباسيل نفضا اليد من بيان «وزيرهما» في الخارجية وحكومة ميقاتي لم تعدّله

وباستمراره في موقعه بعد انتخاب الرئيس عون (31 اكتوبر 2016)، حفر باسيل لنفسه موقعاً في الاغتراب اللبناني وجولات عابرة للقارات وصل فيها إلى أقصى ما يمكن ان يصله وزير للخارجية، ونَسَجَ علاقاتٍ مع الديبلوماسية الغربية من دون أن ينجح تماماً في كسر الحلقة العربية تجاهه، ولاحقاً تجاه العهد.

عام 2016، كان باسيل يمثّل لبنان في مؤتمر وزراء الخارجية العرب بعد تعرض السفارة والقنصلية السعودية لهجمات في طهران ومشهد. ورغم أن الحكومة اللبنانية بلسان الرئيس تمام سلام حينها دانت الهجمات، إلا أن باسيل لم يسِر بالإدانة وتحفّظ عن تصنيف الجامعة العربية «حزب الله» منظمة إرهابية وذلك بعد أسبوع من قرار مماثل اتخذه مجلس التعاون الخليجي.

وقال باسيل حينها إن لبنان «يتحفظ عن ذكر حزب الله ووصفه بالإرهابي لأن هذا الأمر غير متوافق مع المعاهدة العربية لمكافحة الإرهاب. وحزب الله هو حزب لبناني لديه تمثيل واسع ومكوّن أساسي في لبنان». وأضاف: «ندين الاعتداءات على بعثات السعودية في ايران، ونرفض وندين ونستنكر أي تدخل في الشؤون الداخلية لدول عربية، وكل ما هو مناقض له نرفضه، أما تصنيف حزب الله بالارهابي فهذا أمر آخَر».

ورغم أن نتيجة هذا السلوك في أداء الديبلوماسية اللبنانية كان وقف السعودية العمل بالهبة العسكرية للبنان بقيمة 3 مليارات دولار، فقد ظلت سياسة بيروت الخارجية «باب رياح ساخنة» على «بلاد الأرز». وفي عام 2017 تحفّظ باسيل أيضاً عن بيانٍ للجامعة العربية اعتبر أنه لم يكن على المستوى المطلوب حول فلسطين ومبادرة السلام.

إقرأ ايضاً: خاص جنوبية: «إعتبارات غربية» وراء موقف «الخارجية» ضد روسيا.. وبمعرفة السراي وبعبدا!

وأمسك باسيل واقعياً بالسياسة الخارجية للعهد منذ ان انتُخب عون رئيساً، بالتنسيق مع الرئيس سعد الحريري. وبعد استقالة حكومة الحريري إثر تظاهرات 17 اكتوبر (2019)، وتأليف الرئيس حسان دياب الحكومة، أُسندت الخارجية الى الوزير ناصيف حتي، الآتي من تجربة ديبلوماسية خارجية وعربية ويتمتع بصدقية. وهو اختير لهذا المنصب في مرحلةٍ كانت عيون العالم منصبّة على لبنان للقيام بالإصلاحات ومحاربة الفساد. لكن سرعان ما اصطدم بحسابات العهد والتيار الوطني داخل الوزارة التي بقي الجهازُ الإداري والديبلوماسي فيها موالياً لباسيل.

ولم يَمْضِ على تَسَلُّم حتي مهمته ستة أشهر حتى أعلن استقالته في 3 اغسطس 2020. وقال في بيان استقالته إنه قام بهذه الخطوة «لتعذُّر أداء مهامه في غياب إرادة فاعلة في تحقيق الاصلاح الهيكلي الشامل المطلوب»، لافتاً إلى أنه وجد في لبنان «أرباب عمل ومصالح متناقضة»، محذراً من انزلاق لبنان نحو دولة فاشلة.

اختار الرئيس عون أحد المقرّبين من باسيل السفير شربل وهبه وزيراً للخارجية. وفي مايو 2021 أدلى وهبه بتصريحات (عبر قناة «الحرة») مسيئة للسعودية وأثارت ردّ فعل خليجياً غاضباً، بعدما بلغ رئيس الديبلوماسية اللبنانية ذروة التهوّر مستخدماً مصطلح البدو وكأنه إهانة للضيف السعودي ومتهماً دول الخليج بإرسال الدواعش إلى البلدان العربية.

وتسببت عاصفة الغضب الخليجي – العربي بحملةٍ على العهد، فاضطر وهبه الى تقديم استقالته، بعدما حاول التيار الوطني التضحية به لمصلحة فتْح قنوات اتصال مع الدول العربية والتبروء منه. فسارع عون الى تعيين وزيرة الدفاع المحسوبة على العهد والحزب السوري القومي الاجتماعي وزيرةً للخارجية بالوكالة.

وبعد شهر من تعيينها زارت زينة عكر دمشق على رأس وفد وزاري، وكانت الخطوة الفضيحة حين عقدت اجتماعاً مع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد من دون وجود عَلَمٍ لبناني. وجرت تبريرات سورية ولبنانية تذرّعتْ بأخطاء بروتوكولية، لكن الواقعة حصلت أمام عدسات الكاميرات.

ومع تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي (سبتمبر الماضي)، عُيِّن الإعلامي جورج قرداحي وزيراً للاعلام. ورغم أنه جاء من حصة تيار المردة، إلا أن كلامه حول حرب اليمن ودفاعه عن الحوثيين في وجه السعودية، أثار زوبعة سياسية كونه وزير في الحكومة، ولو أنه أدلى بكلامه قبل تعيينه. وحاول عون دفع قرداحي للاستقالة، لكن حزب الله والمردة لم يوافقا، فكانت لطخة جديدة في مسار الديبلوماسية اللبنانية انتهت بتدخلات فرنسية أسفرت عن استقالة قرداحي.

تَهَوُّر السياسية الخارجية للبنان أحد أسباب تَدَهْوُر علاقاته مع الخليج

ومع الحرب التي شنّها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، ساد التريث الداخلي، إلى أن جاء الموقف الرسمي الذي أصدرتْه وزارة الخارجية. فالوزير عبدالله بو حبيب السفير اللبناني السابق في واشنطن والمرتبط بعون، أعلن أنه يتحمل مسؤولية البيان المعارض لما وصفه بـ «اجتياح الأراضي الأوكرانية»، داعياً روسيا «إلى وقف العمليات العسكرية فوراً وسحب قواتها والعودة إلى منطق الحوار والتفاوض كوسيلة أمثل لحلّ النزاع القائم بما يحفظ سيادة وأمن وهواجس الطرفين»، وعازياً هذا الموقف إلى «إيمان لبنان بوجوب حلّ كافة النزاعات التي قد تنشأ بين الدول بالوسائل السلمية، ومن خلال آليات الوساطة التي يلحظها القانون الدولي».

لكن ما أن صدر البيان حتى بدأت ردود الفعل والأجواء تتسرّب حول خلفيات هذا الموقف المفاجىء. فبو حبيب لم يكن ليُصْدِر بياناً مماثلاً من دون موافقة القصر الجمهوري وباسيل عليه، رغم محاولة الطرفين التنصل ورمي موقف الإدانة على الرئيس ميقاتي.

ورغم أن باسيل سعى لنفي أي صلة له بالبيان موضحاً للسفارة الروسية عدم علاقته وعون به، لكن النفي لم يمنع الأجواء المتداولة عن أن رئيس التيار الوطني «غطى» هذا البيان في سياق تقديم أوراق اعتماد لأوروبا وواشنطن، علماً أن أحد ممولي ومستشاري باسيل وعون، أي النائب السابق أمل ابو زيد هو موفد رئيس الجمهورية لدى روسيا، التي أغضبتْها المواقف اللبنانية الرسمية، بذريعة أن موسكو وقفت دائماً الى جانب لبنان ولم تتدخل في شؤونه.

وجاء بيان السفارة الروسية في بيروت مدجَّجاً بالمعاني البارزة في معرض الإعراب عن «الدهشة» من بيان الخارجية اللبنانية، معتبرةً أن الأخيرة خالفت «سياسة النأي بالنفس» واتّخذت «طرفاً ضدّ طرف آخر»، ما عكس أن موسكو فوجئت بالموقف اللبناني الذي وللمفارقة لم يَصدر عن مجلس الوزراء (في جلسته الجمعة)، أي موقف معاكِس أو بالحدّ الأدنى يتبنى أو يعدل بيان بو حبيب الذي أعلن «أنا لابِس درع، قوّصوا عليي وحدي بموضوع البيان» وذلك رداً على اعتبار أحد وزراء الثنائي الشيعي ما قام به الأخير مخالفاً «لمبدأ الحياد الذي أعلنته الحكومة اللبنانية، فضلاً عن عدم التشاور في ذلك وتحميل لبنان تبعات الدخول في مثل هذا النزاع ذي الأبعاد الخطيرة».

وإذ حاولت الرئاسة اللبنانية إعطاء تفسيرات لموقف الخارجية الذي تحدث باسم «لبنان» ونفي علاقتها به، إلا أن «بلاد الأرز» ستكون أمام مسؤولية اتخاذ موقف رسمي موحد في الجمعية العمومية للأمم المتحدة حيال أي قرار يتخذه مجلس الأمن ضد روسيا، وخصوصاً بعد طلب فرنسا وألمانيا ذلك من وزير الخارجية، إذ حينها لن يكون للزواريب الداخلية وحسابات الرئاسة مكان.

ويُذكر أن سفارة اوكرانيا في بيروت استضافت (الجمعة) «اجتماعاً مع سفراء مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي في لبنان، الذين حضروا للتعبير عن تضامنهم ودعمهم للشعب الأوكراني في قتاله ضد العدوان الروسي».

وبحسب بيان السفارة فقد أعرب المجتمعون «عن استعداد قيادات بلادهم لمد يد المساعدة المالية والإنسانية لأوكرانيا التي تحمي القيم الأوروبية حالياً من العدو الشرقي. وأشادوا ببيان الخارجية اللبنانية الصادر في 24 فبراير 2022 في شأن العدوان الروسي على أوكرانيا، والذي يدين غزو الأراضي الأوكرانية ويدعو روسيا إلى الوقف الفوري للأعمال العدائية وسحب قواتها والعودة إلى منطق الحوار».

السابق
أسبوع حاسم لجلاء الترشيحات والتحالفات..وأزمة اوكرانيا تُكبّل الحكومة المنقسمة!
التالي
أوكرانيا.. بوتين يبحث عن انقلاب عسكري