ميشال عون: دروس في الزعامة

لم ينته ميشال عون، ولن ينهيه تكرار المستقبل والقوات والأوركسترا المرافقة نبأ وفاته السياسية. هو نشط سياسياً إلى درجة زيارة قرى جزين التي لم يسبقه إليها سياسي من قبل، واحدة واحدة. سيبدأ نهاره في الجنوب عند السابعة صباحاً، ليختمه في البترون، قبيل منتصف الليل

يمكن قياديي 14 آذار الاستمرار بلعبة إقناع أنصارهم _ فقط _ بأن «ميشال عون بات مجرد جثة سياسية هامدة»، كما يدأب موقع القوات اللبنانية الإلكتروني على القول، أو بأن «ميشال عون انتهى»، كما يقول النائب أنطوان زهرا، معتبراً أن البترونيين الذين احتشدوا للترحيب بعون السبت الماضي جالية إيرانية واستخبارات سورية. يمكنهم ذلك وأكثر، فلا شيء أسهل من جلوس الرئيس أمين الجميّل في بكفيّاه، وسمير جعجع في معرابه، ووردة في إذاعتها، ليتحدثوا والأوركسترا عن تقلص قامة ميشال عون الشعبية وتقهقره.
أما فعلياً، فثمة رجل ليله نهار، لم يكد يضع لمساته الأخيرة على خطة تطوير كل من الإدارة الإعلامية والسياسية والتشريعية والخدماتية المحيطة به، حتى انطلق في الصباح الباكر صوب جزين ليعلم من يعنيهم الأمر ميدانياً كيف يكون الزعيم زعيماً.

الدرس الأول في كنيسة الجرمق، في بلدة هجرت قبل ولادة النائب سامي الجميّل. فبينما تُشغل القوات اللبنانية منذ سنتين بمؤامرة في رأسها عن تدنيس جبل الصليب وغيرها من نظريات القوات، كان النائب العوني زياد أسود يبحث وأهالي هذه القرية عمّا يمكن فعله لإعادتهم إليها، مسائلاً الحكومات الحريرية عن سبب إقصائها من مخطط إعادة الإعمار وملاحقاً مع تعاونيتها السكانية مطالبهم في الوزارات المعنية بالبنية التحتية. وما كاد جبران باسيل يعيّن وزيراً للطاقة حتى كانت الكهرباء تتهيّأ للعودة إلى الجرمق وكذلك الاعتمادات لاستصلاح الطريق إليها وتزفيته. يمكن القوات في المناسبة هنا زيارة وزارة الطاقة في أحد أيام الأسبوع للتعرف عن قرب إلى احتياجات المواطنين وسؤالهم عمن يعوضهم النقص اللاحق بحقهم منذ عشرين عاماً من الحكومات الحريرية الحليفة.

هذا ميشال عون. درسه الثاني في كفرحونة: يدخل الزعيم كنيسة سيدتها فيرى إمام مسجدها ومديحه في انتظاره، وسرعان ما يرافقه والجمع الكنسي إلى حسينيتها، سائلاً عون أهاليها عن عيشهم اليومي وأحوالهم.
الدرس الثالث في بلدة القطراني. بدل بيع العونيين أهاليها، الذين ينقلون مياه الشفة على أكتافهم من العين، شعارات فارغة عن السيادة والكرامة المسيحية وغيرها، استيقظ الأهالي يوماً على صوت عونيّ ينبئهم أن البئر الارتوازية استحدثت وشبكة المياه في طريقها إلى البلدة.
وتتوالى الدروس. أيريد فارس سعيد، مستمتعاً بقهوته الباردة في صالة فندق أشرفيّ، إقناع الناخبين بأنه أحرص على بقائهم في أرضهم من ميشال عون، الذي يتجه يوم الأحد إلى جنوب الجنوب، وتحديداً بلدة المكنونية، لوضع الحجر الأساس لمجمع سكني يضم ست عشرة بناية تتسع لنحو مئة عائلة؟ هنا السؤال: من يبقي المسيحيين في أرضهم؟ المواقف الطنانة أم حصول عون على ضمانة جزينية بتأسيس مشروع سكني آخر أكبر في بلدة بكاسين، فلا يضطر جزيني إلى النزوح صوب بيروت بحثاً عن مسكن.

ليست طبيعية أفكار سعيد وفرقته؛ حبذا فقط لو يتعب نفسه مرة، يقول أحد النواب الجبيليين، ويسأل أهالي بلدته قرطبا أن يشرحوا له علاقة سلاح حزب الله والنظام السوري وغيرهما من القضايا التي يشغل حاله بها، بحياتهم اليومية ونزوحهم من أرضهم. سيعلمه بعض الأهالي دون شك أن الطرقات إلى قرطبا التي يسهر النواب العونيون على توفيرها للبلدة «المعادية» لهم، تطعمهم خبزاً وتسهم في «صمودهم في أرضهم» أكثر بألف مرة ومرة من بياناته. لعل القوات ومن معها لا يعلمون، أما أهالي جزين فيسجلون على الورقة بالقلم أن حكومات حلفاء القوات المتعاقبة والنواب السابقين الذين دعمتهم القوات في الانتخابات الأخيرة، صرفوا لإنماء جزين 20 ملياراً خلال عشرين عاماً، فيما أمّن نواب جزين العونيون 28 ملياراً لمنطقتهم في ثلاث سنوات فقط. وتطول القائمة: المتن 30 ملياراً، بعبدا 30 ملياراً (…).
بين خصوم ميشال عون أشخاص لا يمكن أحداً تصديق تصديقهم أنفسهم. ثمة من يتخيّل أن ناخباً متنياً مستقلاً سيشطب النائب إدغار معلوف الذي نفي من بلده خمسة عشر عاماً لتمسكه بحرية بلده وسيادته واستقلاله، لينتخب شخصاً لا يعرف عنه أكثر من أنه «صديق سامي» الجميّل. ثمة آخر يتخيّل أن ناخباً كسروانياً سيشطب النائب فريد الياس الخازن، وعلى مكتبه أكثر من مئة ملف لمشاريع كبيرة يلاحقها في وزارة الطاقة المياه والأشغال العامة، لانتخاب تقدميّ ثوريّ ربيعيّ همه مع الأسف تأكيد أنه هو لا النائب نعمة الله أبي نصر زعيم آل ضو.

بعيداً عن هؤلاء، في الاستطلاعات التي يمكن تصديقها، يؤكد غالبية المستطلعين في جبل لبنان ومتفرعاته تمييزهم بين زعيم يتيح له وزنه السياسي والشعبي إعادة مؤسسات الدولة غصباً عنها إلى مناطقهم، و«حرتقجية» لا يفعلون شيئاً غير التنقير على عون والتذاكي على الرأي العام.

بين من ومن يُخيّر المسيحيون؟ في بعبدا، بين زعامة ميشال عون ورئيس بلدية! في كسروان، بين زعامة ميشال عون ورئيس جمعية! في المتن الشمالي، بين زعامة ميشال عون وجميعات تعنى بحماية المهددين بالانقراض! ها هم يخيّرون في جبيل بين رئيس جمهورية يصرّ على الظهور بمظهر رئيس بلدية، ورئيس تكتل نيابي لا تكفيه الجمهورية. المطّلعون على واقع التوازنات في ما يعرف بالمجتمع المسيحي يجزمون: ميشال عون أو العودة عقدين إلى الوراء. فمقابل رجل الثلاثين نائباً والعشر وزراء، الذي نظم تكتله ليكون للمسيحيين لأول مرة كتلة متجانسة توازن بين حضورها السياسي والتشريعي الاستثنائي والخدماتي الواسع، ثمة دكاكين: أحدها يبيع عمليات تجميل في كسروان، الآخر يبيع دروعاً تكريمية في جبيل، والثالث المتني يبيع ميكروفونات، في حين يقفل الشباب دكانهم البعبداوي أربع سنوات يعودوا بعدها عشية الانتخابات مطالبين المقترعين بانتخابهم. من جزين إلى البترون، مروراً بالشوف والأشرفية وعاليه وبعبدا والمتن وكسروان وجبيل، تريد قوى 14 آذار من الناخبين الاقتراع لزعران الأحياء ورؤساء العشائر ومنتحلي صفات النضال وغيرها. تصدق هذه القوى أحلامها بأن يسقط الناخبون مكانة ميشال عون السياسية التي لم يسبق للمسيحيين أن عرفوا مثيلاً لها لمصلحة مشاريع استزلامهم لهذا الأمير السعودي أو تلك السفارة، وأن يوقفوا الآليات التي تعيد تأهيل البنية التحتية التي تجاهلتها حكوماتهم لمصلحة «ترلات» زفت أبو الياس وجرافات فريد هيكل الخازن. وفي غمرة انتشائهم بأفكارهم، ينسون أن هذا الرأي العام ليس بغلاً كما يفترضون، وأنه جرّب شعاراتهم: اكتشف أنهم، خلافاً للعونيين في بعبدا مثلاً، لم يمونوا على حلفائهم للكف عن قضم الأراضي المصنفة في تعابيرهم هم مسيحية رغم إثارتهم هم هذا الملف. واكتشف أن اقتراح القانون الذي قدمه زياد أسود العونيّ، لا مزايدات أنطوان زهرا ومن معه، هو الذي وضع حداً لعمليات نقل النفوس من دائرة انتخابية إلى أخرى داخل القضاء الواحد لتغيير الواقع الديموغرافي _ الطائفي في هذه الدوائر بحيث يغدو الناخب المستقبلي طاغياً فيها كلها، على غرار زحلة.

ثمة في قوى 14 آذار من يفقدهم ميشال عون عقولهم فيفترضون أن الرأي العام يفضّل «فليحكم الإخوان» المبهمة خاصتهم، والمتصالحة مع الديكتاتوريات السعودية والقطرية والبحريينية والأردنية على وجهة عون السياسية الواضحة. أو يفضّل لامشروعهم الاقتصادي والاجتماعي على مشروع عون الإنمائي الذي بدأت المناطق ترى تباشيره. أو يفضّل انتقاداتهم الغوغائية لجبران باسيل على بذل وزارة الطاقة جهداً استثنائياً على تطوير شبكات المياه والكهرباء في مناطقهم. يصل جنون قوى 14 آذار حدّ الاعتقاد أن سركيس سركيس أحلى من إبراهيم كنعان ليختاره الناخب نائباً عنه؛ لمَ يفضّل الناخب سركيس على كنعان؟ لأن موقفه السياسي واضح أم لأن ملفاته التشريعية «تقتل بعضها»، أم لأن خدماته تغرق المتن بمن فيه!؟ أم أن شبوبية سليم الصايغ الذي لم يكد ينقل نفوسه إلى كسروان حتى بات يتصرف كمرشح تطغى على خدمات النائب يوسف الخليل الطبية في كسروان منذ 30 عاماً؟ كأن هذا الناخب لا يلتزم معايير ليسأل عمّا يجمع القوات التي لا تنفك تتحدث عن الثورة ووجوب الانتفاض على الإقطاع والوراثة السياسية وغيرها، مع ممثل البترون في «مجلس الوصاية السورية» دورتين انتخابيتين متتاليتين عام 1996 وألفين، الشيخ بطرس جوزف الخوري حرب وكل الآخرين.

إلى جزين مجدداً، حين يسمع زائرها نمائم القوات والكتائب والإقطاع العائلي والفساد الإداري ويراهم يذهبون ويجيئون «متسمسمين» قبالة منزل زياد أسود، يفهم قوة ميشال عون. هؤلاء أنفسهم اجتمعوا في الطائف وقبله وبعده. وما كاد استحقاق الـ2005 الانتخابي يصل وبعده الـ2009، حتى ظهروا بمظهر الزوبعة الصغيرة في التسونامي البرتقالي. يمكن قوى 14 آذار التنظير على هواها في ما يخص النهاية العونية، لكن لا استطلاع رأي موثوقاً واحداً يؤكد نظرياتها، ولا واحداً من سياسييها الذين يعرفون الأرض يؤكد ذلك. فليختلِ سمير جعجع أو غيره قليلاً بآل حواط الجبيليين، البون الكسرواني، سيبوه الأشرفيّ، وأبو الياس المتني، لسؤالهم عن العونيين. وليدخل معه إلى الاجتماع، نصيحة، أقراصاً لتهدئة الأعصاب والكثير من الزهور.  

السابق
هل يتخطى الإبراهيمي الوقت الضائع؟
التالي
أيُّ سرّ في هذا كلّه؟