كيد المرأة.. بين الذكورية والسهام الشيطانية

يُحكى أن هناك رجلاً اقترب من امرأة واقفة عند بئر ماء وسألها: ما هو كيد النساء؟ فما كان منها إلا أن رفعت صوتها بالبكاء والنحيب والصراخ حتى أسمعت أهل القرية، تعجّب الرجل مما قامت به ، وسألها خائفاً: لماذا فعلت هذا؟ انا لم آتي لإيذائك، إنما توسّمت فيك الذكاء فسألتك. عند ذلك قامت المرأة بملء دلو من البئر وسكبته على نفسها، فازداد الرجل تعجباً.. لحظات، ووصل أهل القرية مسرعين يستطلعون الخبر. فقالت لهم: هذا الرجل الطيب وأنقذني عندما سقطت في البئر، فشكره الناس وفرحوا به وحملوه على الأكتاف. فسألها عن الحكمة في ذلك فأجابته: هكذا هي المرأة إذا آذيتها قتلتك وإذا أرضيتها رفعتك إلى السماء.

يعتقد البعض أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، ويستدلون على ذلك بآيات قرآنية في محاولة منهم لإضفاء عقليتهم الذكورية على أكثر كتاب أنصف المرأة، ورفع من شأنها.. وهو القرآن الكريم. والمضحك المبكي أن بعض أهل العلم أيّدوا هذا الاعتقاد واستشهدوا على ذلك بالآية الثامنة والعشرين من سورة يوسف، والتي جاء فيها: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فنسبوا القول إلى الله، وعمّموه على جميع النساء، بل عابوهنّ عليه، فهم يخافون من النساء أكثر من الشيطان كما عبر بعضهم معلّلين: لأن الله يقول: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) بينما قال للنساء – بحسب زعمهم-: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ما جعل المرأة تجدّ في تفحّص الدليل الذي تدفع به هذه الشبهة وترفعها عن نفسها، خصوصاً بعدما خلّفه هذا التفسير السطحي، والتعميم الخاطئ للآية المباركة، ومحاولة تدعيم رأيهم ببعض الأحاديث التي يندرج أغلبها تحت مصطلح الموضوع والضعيف، من أثرٍ سلبي عليها لا سيّما المقارنة المغلوطة التي جعلت كيد النساء أعظم من كيد الشيطان “الضعيف”.

كيد الشيطان ضعيف أمام قوة الله وليس أمام كيد المرأة

وهذا قطعاً غير صحيح، وغير منطقي، لأن كيد الشيطان ضعيف أمام قوة الله وليس أمام كيد المرأة، التي قد يكون كيدها سهماً من سهامه كما كيد الرجل وهو ما أشار إليه يعقوب (ع) حيث أرفق تحذيره ليوسف من كيد إخوته بــ (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) ، فكيدهما (المرأة والرجل) فرع من كيد(الشيطان)، وكيد إبليس الأصل.. وليس الفرع كالأصل.

قبل أن نغوص في مدارك بحثنا لابدّ أن نقف عند المعنى اللّغوي والقرآني لكلمة كيد خصوصاً إنها وردت في 29 آية من آيات الكتال الحكيم (القرآن) ثمانٍ منها في سورة يوسف وحدها، حيث نُسبت تارة إلى الله، وأخرى إلى الرجال (إخوة يوسف)، وثالثة إلى النساء (امرأة العزيز). فالكيد في اللغة هو المكر، والخداع، والتخطيط الخفي لأمر ما، بهدف نفع أو مضرة. وهو كذلك في القرآن الكريم، إذا كان من المخلوقين، أما من الخالق، فهو تدبير خفي يهدف لإبطال الباطل، وإظهار الحق، نصرة لأنبيائه، ورسله، وعباده المخلصين.

١ – كيد الرجال (إخوة يوسف):
لقد حذّر نبي الله يعقوب ابنه يوسف من خطورة أن يقصص رؤياه على إخوته خوفاً من كيدهم قَالَ يَٰبُنَىَّ لَا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَىٰٓ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فكان هذا التحذير خشية من أن يثير هذا الأمر غيرة إخوته وحسدهم، فيصبّوا وبال حقدهم عليه، وهو ما قاموا به لاحقاً من خلال إلقائه في الجب، بعد أن كانوا قد عزموا على قتله، رغم التزامه بوصية أبيه بعدم اخبارهم برؤياه، ولعل السبب كرههم له وهو الأخ غير الشقيق وقد ثبّت ذلك خوف يعقوب وقلقه وعدم ائتمانه لابنائه على أخيهم قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَ۫نَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُۥ لَنَٰصِحُونَ وفي المحصّلة، ألقوا بـ “يوسف الغلام” في غياهب الجبّ، في جريمة موصوفة نكراء بحق الإنسانية قلّ نظيرها في التاريخ، مع ما خلف كيدهم من أذى ليوسف وأبيه وعائلته.
٢ – كيد النساء (امراه العزيز) :
بعد أن بلغ يوسف أشدّه أُعجبت زليخا بحُسنه وجماله، ودبّرت الحيل للإيقاع به، فاستعصم وأبى أن يذعن لإغرائها.
تبيّن للعزيز خيانة زوجته له فقال لها: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فالقائل هنا هو العزيز وليس الله، وكلام العزيز ليس بحُجَّةٍ ولو ذُكر في الآية الكريمة. فلعلّه ذُكر من باب الإخبار لا التوكيد، فلم يذكر القرآن ما يشير إلى تبنّي هذا القول.
٣ – كيد الله:
وهو الأمر الذي دبّره يوسف لإخوته بوحيٍ وإلهامٍ إلهي، (فَبَدَأ بِأوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِن وِعاءِ أخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) من أجل لمّ شمل العائلة، وبالتالي إدخال السرور على قلب يعقوب النبي، ولقائه بولديه جزاءً لصبره، فها هو يرى بأم عينيه تحقق رؤية يوسف.. عزيز مصر..

المجتمعات المتخلفة عبر العصور ساهمت في تعزيز مكانة الرجل على حساب المرأة

عطفاً على ما سبق، فإن الكيد لم يكن يوماً مختصاً بالمرأة دون الرجل، ولا العكس. ولعلّ كيد الرجل قد يكون أشدّ خطراً وبطشاً، إلا أنه واقعاً، لابدّ حتى نستطيع أن نكون منصفين في قراءتنا للمرأة، أن نفهم السبب وراء سعي المرأة نحو الكيد. فمن الواضح والمعلوم أن بنية المرأة أضعف من بنية الرجل، وأن المجتمعات المتخلفة عبر العصور، ساهمت في تعزيز مكانة الرجل على حساب المرأة، ما أدّى إلى حرمانها من أبسط الحقوق، ولذلك كان لا بدّ لها من السعي وراء أي طريق يمكّنها من استحصال ما تريد تارة، ولدفع الأذى واللوم عن نفسها تارة أخرى. وقد امتازت في ذلك، لأن من طباع المرأة أنها إذا قامت بشيء أتقنته، وهو ما نراه عند تبوؤها لأي منصب، أو قيامها بأي مهمة، فإنها غالباً تتقنها، لأن عطاءها ينبع من وجدانها.

لجأت المرأة إلى الكيد بسبب سياسة التعنيف والتهميش

اذاً لجأت المرأة إلى الكيد بسبب سياسة التعنيف والتهميش التي انتهجتها المجتمعات الذكورية المتعاقبة، والتي ما زالت أفكارها متجذرة في عادات البعض وعقله، حيث تشير التقديرات إلى أن 736 مليون امراة في العالم، (أي واحدة من كل ثلاث نساء تقريباً) وقعن ضحايا العنف (الجسدي والجنسي) مرة واحدة على الأقل في حياتهن. وعليه فمن المعيب جداً أن نتهم المرأة – عامة – بالكيد العظيم، ونغفل عن كيدنا. وأي كيد أعظم من أن نحول المجني عليه إلى جانٍ والجاني – الحقيقي- إلى قاضي.

السابق
129 يوما وجبهة الجنوب «على حالها» على وقع خطاب نصرالله
التالي
خطوات مرتقبة لنواب المعارضة!