متى يبلغ لبنان..سن «الرشد السياسي»؟

ياسين شبلي

لطالما كانت الأحداث والتطورات في منطقة الشرق الأوسط مترابطة، بحيث يؤثر بعضها سواء سلباً أو إيجاباً على بعضها الآخر، ولبنان في مقدمة الدول التي تتأثر، نظراً لتشابك مشكلاته مع مشاكل المنطقة. وقد عوَّدتنا التطورات والأحداث، بأنه عند كل إنسداد سياسي في لبنان والمنطقة، لا بد من حدث أو تطور كبير يعيد خلط الأوراق، تمهيداً وتمريراً لحلول مؤقتة – أو ربما دائمة على قلتها – إلى حين ظهور تطورات واحداث جديدة.

في العام 1988 مثلاً، إنتهت الحرب العراقية – الإيرانية بهزيمة إيرانية، تجرَّع خلالها آية الله الخميني السُم بموافقته على إنهاءها، هو الذي كان قد رفض كل الوساطات والمبادرات الإقليمية والدولية لوقفها منذ بداياتها.

كان لبنان في تلك المرحلة، يتخبط بحرب ما بين مكوناته السياسية، التي كانت في معظمها صدىً لحروب المنطقة ما بين عربية – إيرانية ، وعربية – عربية ، وعربية – إسرائيلية، التي كانت بدورها صدىً لتطورات الحرب الباردة، ما بين الولايات المتحدة الأميركية بقيادة رونالد ريغان، التي كانت في أوج إندفاعتها، وبين الإتحاد السوفياتي الغارق يومها في رمال أفغانستان، والذي كان قد بدأ عهد الإصلاح والشفافية، مع بروز شخصية ميخائيل غورباتشوف، الذي أدى في النهاية إلى سقوط الإتحاد السوفياتي وتفكيكه، فكان سقوطه درساً يؤكد بأن الأنظمة الشمولية، عصية على الإصلاح الذي يمثِّل في الحقيقة مقتلها.

في العام 1988 مثلاً إنتهت الحرب العراقية – الإيرانية بهزيمة إيرانية تجرَّع خلالها آية الله الخميني السُم بموافقته على إنهاءها هو الذي كان قد رفض كل الوساطات والمبادرات الإقليمية والدولية لوقفها منذ بداياتها

يومها خرج العراق “منتصراً” من حربه مع إيران، حليفة النظام السوري المسيطر على لبنان، وإرتفعت أسهم الرئيس العراقي صدام حسين “العدو اللدود” لحافظ الأسد، تزامنت هذه التطورات مع موعد إنتخابات الرئاسة اللبنانية، التي لم تتم في موعدها لأول مرة بعد الإستقلال، وآلت السلطة إلى حكومة عسكرية برئاسة ميشال عون، الذي شن وبدعم عراقي مفتوح، حرباً ضد الوجود السوري، فكان أن تدخلت الدول العربية، وتم إقرار إتفاق الطائف، الذي قبلت به سوريا تحت ضغط التطورات – وكانت ضربة معلم من حافظ الأسد على أية حال – بينما رفضه ميشال عون، وشن حرب إلغاء ضد “القوات اللبنانية” لقبولها الإتفاق، وقاد تمرداً على سلطة الرئيس المنتخب إلياس الهراوي، بعد إغتيال الرئيس الأول بعد الطائف رينيه معوض بصورة دراماتيكية.

إقرأ أيضاً: إسرائيل تفتك بمدنيي الجنوب..و«إشارات» أميركية وأمنية بعدم تَوسّع الحرب!

دخل البلد في ستاتيكو، وسُدَّت كل منافذ الحلول إلى أن جاء الغزو العراقي للكويت، ليقلب الأوضاع في المنطقة رأساً على عقب، وكان ما كان من حرب الخليج الأولى، التي إستغلها حافظ الأسد أحسن إستغلال، ليطبق سيطرته على لبنان برضى عربي ودولي، وكان اللبنانيون هم الجلاَّد والضحية في نفس الوقت، بسبب من خلافاتهم وعجزهم عن التفاهم، على إستعادة الدولة من دون وصاية أجنبية.. للأسف.

ما أشبه اليوم بالبارحة، إذ أن البلد مشلول منذ ما يقارب ال 4 سنوات، عندما ثارت شريحة واسعة من الشعب اللبناني، بعد “أن بلغ سيل الفساد الزبى”، إنقضَّت العصابة الحاكمة على الثورة بعد أن صوَّرتها مؤامرة، وكانت يدها الحديدية في ذلك، هي مجموعات تدَّعي مقاومة الإحتلال للأرض، بينما تعادي التحرر لأصحاب الأرض، وكأن الأرض أغلى من ساكنيها، الذين نُهبت أموالهم ومدخراتهم في وضح النهار، وأمام أعين الجميع.

تم الإلتفاف على الثورة بكل السبل والأساليب، التي كان من بينها إستغلال جريمة تفجير مرفأ بيروت، وبطرق مشروعة وغير مشروعة، عبر تسويات سياسية داخلية مقنَّعة من جهة، وعبر صفقات “ترسيم” مع الخارج من ناحية أخرى، ليكون التنازل مرة أخرى، وعلى عادة السياسيين في لبنان للخارج، بدلاً من التنازل للناس في الداخل، وذلك في مقايضة رخيصة على السلطة ولو على حساب البلد والناس.

هكذا دخل لبنان ثلاجة الإنتظار والإنسداد السياسي، مع عجز الطبقة السياسية عن إنتخاب رئيس للجمهورية، بعد إنتهاء ولاية الرئيس السابق، الذي عرقل تشكيل حكومة قبل رحيله، ما أوجد فراغاً في غالبية المؤسسات، درجة أن الدولة باتت تدار بالوكالة.

اليوم بعد إندلاع عملية “طوفان الأقصى”، التي خلطت الأوراق وقلبت الأوضاع في المنطقة – سواء عن قصد أم عن غير قصد – هناك شعور لدى البعض، بأن التاريخ قد يعيد نفسه بعد 33 عاماً، خاصة مع إنخراط “حزب الله” في المعركة بطريقة مضبوطة، وبمغامرة محسوبة، تسمح له بالضغط على إسرائيل من جهة و “مساندة” المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى، تأكيداً منه على “وحدة الساحات”، وعلى طريقة اللعب على حافة الهاوية، في ظل خطورة الأوضاع في المنطقة، وحاجة واشنطن والغرب لعدم توسيع رقعة الصراع، ما أدى لظهور طروحات ومقاربات، يمكن أن تشكِّل أساساً صالحاً لتسوية في جنوب لبنان، تقضي بتطبيق القرار 1701 تطبيقاً أميناً، عبر تراجع قوات “حزب الله” إلى شمال الليطاني، مقابل إنسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة، وتثبيت الحدود البرية، بعد نجاح الترسيم البحري وبضمانات دولية للجانبين.

هذه الطروحات إن صحَّت، ولم تكن مجرد مناورات سياسية و بالونات إختبار، سيكون لها بالتأكيد ثمن، وما دام هناك ثمن، فهناك من سيقبض على غرار ما فعله السوري في العام 1990، عندما تولى الوصاية على لبنان، كثمن لإنخراطه في التحالف الدولي لتحرير الكويت بقيادة أميركا، التي كانت معنية كما اليوم، بعدم توسيع الحرب لتشمل إسرائيل، وهو ما دفعها يومها للضغط على حكومتها، كي لا ترد على صواريخ العراق ضدها وهذا ما كان.

لا يوجد في “الميدان إلا حديدان” كما يقول المثل العامي وحديدان اليوم هو “حزب الله” الذي وحده – ومَن وراءه – يمكن أن يعطي ضمانات لأي حلول مطروحة!

في هذا المجال يرى البعض – وهذا واقع الحال – بأنه لا يوجد في “الميدان إلا حديدان” كما يقول المثل العامي، وحديدان اليوم هو “حزب الله” الذي وحده – ومَن وراءه – يمكن أن يعطي ضمانات لأي حلول مطروحة، والترسيم البحري خير شاهد، لأنه الأقوى على الأرض خاصة في ظل “حروب الإلغاء” السياسية هذه المرة، الدائرة بين الأطراف المارونية بخلاف العسكرية، كما في العام 1990، وكذلك في ظل ضعف المكونات اللبنانية الأخرى، فهل سيكون الثمن إعطاء “حزب الله، دور ضابط إيقاع الحياة السياسية اللبنانية – وهو دور يؤديه اليوم الحزب من وراء حجاب – هذه المرة برضىً وقبول إقليمي ودولي، عبر تسوية تنطلق من الإتفاق الإيراني – السعودي، الذي يبدو أنه يسير في الإتجاه الصحيح، وهذا ما أكده قبل أيام إجتماع لجنة المتابعة بين البلدين بحضور الراعي الصيني، وتأكيدها على الإستمرار في تطبيقه ؟ وقد يكون من المؤشرات كذلك، ما برز محلياً من التوافق على التمديد لقادة الأجهزة العسكرية والأمنية، الذي مرَّ بسلاسة في مجلس النواب. هذه التسوية ستسعى بالتأكيد لحفظ ما تبقى من ماء وجه الأطراف اللبنانية الأخرى، وقد تكون عبر تركيب “ترويكا” جديدة كما في العام 1992، قوامها جوزاف عون لطمأنة المسيحيين، وسعد الحريري لطمأنة السُنّة، بالإضافة لنبيه بري، وبعده ربما في إنتخابات العام 2026 عباس إبراهيم؟

هي سيناريوهات قد يصح بعضها وقد لا يصح بعضها الآخر، خاصة في منطقة متقلبة ودائمة التغير، يحكمها ويتلاعب بها بعض “مجانين” الدين والسياسة، بحيث تكون العناوين جيدة وملائكية، لكن في تفاصيلها تكمن كل شياطين الجن والأنس، وقد يأتي الخبر اليقين من تطورات ما بعد حرب غزة، وترتيباتها على صعيد الوضع الفلسطيني، فالأمور متشابكة ومترابطة كما سبق وأشرنا في البداية، على أمل أن يبلغ لبنان يوماً ما سن “الرشد السياسي”.

السابق
حماوة جنوبية..قصف وغارات إسرائيلية و«حزب الله» يَستهدف المواقع بالمُسيّرات الإنقضاضية!
التالي
دور الإتحاد الأوروبي في الحرب على غزة؟!