معضلة المقاومة في غزه

من المؤسفِ أن يصبح حالُ المقاومةِ الفلسطينية كحالِ رهين المحبسين ابو العلاء المعري. ابو العلاء المعري أُبتلي بأحدهما وهو العمى، أما الحبس الثاني فقد كان من اختياره.
المقاومةُ الفلسطينيةُ من ناحيتها اختارت طوعاً حبس نفسها في زنزانتين: زنزانة اتفاقية اوسلو وزنزانة جماعة الاخوان المسلمين.
زنزانة اوسلو حولت نضال فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من النضال المسلح الى النضال السلمي ومن النضال السلمي الى التنسيق الأمني مع كيان الاحتلال الصهيوني كما هو معروف وكما يعترف قادتها علانيةً.

زنزانةُ جماعة الاخوان المسلمين اختطفت حماس وحولت النضال الفلسطيني المشروع من نضال واضح الهدف والابعاد وهو استعادة الحقوق الفلسطينية من الاحتلال الاسرائيلي الى حركة نضال اسلامية مبهمة الاهداف مشتتة الابعاد مستحيلة التحقق.
ولمَّا كانَ العالمُ لم يعد معنيا بالحروب الدينية بل يرفضها ويمقتها، فإن آخر ما يحتاج اليه الشعب الفلسطيني هو تعميق الهوة بينه وبين دول وشعوب العالم التي يغلب عليها الطابع العلماني.

اقرأ أيضاً: مآرب النظام الإيراني في غزة

لم تنتبه حماسُ ومن خلفها جماعةُ الاخوان أنَّ شعوب العالم وحكوماته لا يمكن ان تسمح لجماعاتٍ ترفعُ شعارات دينية توسعية كما يشي تاريخها وبُعدُها التراثي وثقافتها أن تبقى وتنتصر وتزدهر لأن ذلك بمثابة الانتحار لتلك الدول. إضافةً لذلك، أنَّ شعوبَ وحكوماتِ العالمِ ليست معنيةً بتحقيق اهداف النضال الاسلامي على وجه الخصوص بعد أن ذاقت عينات منه في مدنها وشوارعها وبعد أن شاهدت عينات منه في سوريا والعراق وليبيا وسيناء وتشاهد نماذجه التي تطبقها القاعدةُ وبوكو حرام وداعش في افريقيا . ولا هي مستعدة لقبول نضالات دبنية تحمل لافتات هندوسية وسبخية وبوذية ويهودية ومسيحية انجيلية..الخ ليتحول العالم الى ساحة قتال وتقتيل “ارمجدون” يشرف عليها ويديرها اصحاب اللحى المتطرفين الذين لا يعطون للارواح البشرية اية قيمة، بل ان التضحية بالارواح البشرية مطلوب ومرغوب لِتُهرَقَ الدماءُ على مذابح ومحارق اديناهم ارضاءاً لالهتهم.

ولذلك فقد شاهدنا وعايشنا كيفَ أنَّ شعوب العالم قد استيقظت ضمائرها وتظاهرت تعبيرا عن رفضها للهمجية الاسرائيلية بعد ان رأت على شاشات التلفاز قتل النساء والاطفال والعائلات بأكملها وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها ومهاجمة المستشفيات والمدارس. العالمُ تعاطفَ مع ضحايا الشعب الفلسطيني ولم يتعاطف مع حماس. هذهِ حقيقةٌ يجب ان تُدركَ جيدا. العالم بدأ يتحدث عن اسباب النزاع بين الفلسطينيين والصهاينة ومشروعيته وخياراتِ حله حيث ان الحلول ممكنة تقومُ على تنازلات الطرفين ثم العيش المشترك الآمن. لكنْ لا حلولَ ممكنةً للصراعاتِ الدينيةِ غير استئصال احدهما للآخر.
أما على الصعيد العربي والاسلامي ففي الوقت الذي واجهت المقاومة في غزة العدو الصهيوني في اشرس معركة لها معه من حيث المستوى ومن حيث خلفيتها واهداف الطرفين فإن مواقف التأييد لها تراوحت ما بين الفتورِ العلني واللاباليةِ سراً على المستوى الرسمي العربي والاسلامي، بينما اشتعل التعاطف الشعبي العربي والاسلامي حيث خرج الالاف الى الشوارع يهتفون وينددون، أي المناصرة باللسان، أي اضعفَ الايمان.

ويمكنُ تفسيرُ هذا التباينِ الواضحِ والذي ربما لم تتنبأ به المقاومةُ وحلفائها المقربين الى مرجعية حماس الاخوانية.
فبعدَ أنْ تعرضت جماعةُ الاخوان المسلمين الى التصفية في كل من مصر وتونس والجزائر والمغرب ودول الخليج باستثناء قطر ، كردةِ فعلٍ على محاولة جماعة الاخوان غير الواقعية الوصول الى سدة الحكم في جميع او معظم الدول العربية، فمن غير المتوقع بعث الروح فيها من جديد لأي سبب وتحت أي ذريعة مباشرة او غير مباشرة.
طموحُ جماعة الاخوان للسيطرة على برلمانات وحكومات الدول العربية مستغلةً قدرتها على توجيه العوام بعواطفهم العمياء الساذجة التي تتحكم فيها منابر المساجد الى صناديق الانتخابات والتصويت لها على اعتبار أن هذا التصويتَ واجبٌ ديني وتقربٌ الى الله وليسَ عملا سياسيا، لم يعي ولم يدرك قدرة وحنكة وحكمة القوى الرافضة للاخوان كتنظيم وأيديولوجيا واهداف. كما أنه لم يعي أنهُ عندما يذوبُ الثلج سَيبانُ ما تحته، حيثُ أنَّ حصد الاصوات والجلوس على كرسي الحكم يختلف عن الوقوف على المنابر. فإدارة عواطف الناس بالصراخ لا تصلح لادارة الدول. لذلكَ تخلت الجماهير عن الاخوان بعد انتهاء فترة التجربة كما حدث في الجزائر وتونس والمغرب ومصر .

هذا يعني أن الانتماء الاخواني لحماس اصبحَ عبئا ثقيلا عليها، بل ربما انه قدرها الى الافول وانطفاء شعلتها. وأنهُ اخطرُ عليها من اسرائيل. فقد اصبحت غزةَ كلها وليسَ فقط حماس محاصرةً من الجانب الرسمي العربي المُتَوجِفِ من الاخوان والمطبعِ بعضه مع اسرائيل والساعي بقيتهُ للتطبيع معها ، لأن المرغوبَ هو التخلصُ من حماس وليس انتصار حماس.
ولا بد هنا من الاشارة الى أن مواقفَ الحكوماتِ الاسلامية لم يكن افضلَ من مواقفِ الحكومات العربية. فقد تخلت تركيا التي لبست عباءة الاخوان خلال السنوات الماضية عن حماس كما تخلت عن الاخوان منذ سنتين. أمَّا ايران حليف الاخوان فقد وضعت حماس على طاولة القمار وادخلتها في لعبة المفاوضات على تقاسم النفوذ والمصالح مع امريكا وحلفائها.
تُدركُ الحكومات العربية والقوى السياسية المنافسة للاخوان أنَّ أيَّ انتصارٍ لحماس اذا تحقق سَتُجيرهُ جماعةُ الاخوان المسلمين لمصلحتها وبالتالي ستسعى الجماعةُ لترجمته في صناديق الانتخابات من جديد ابتداءاً من اتحادات الطلبة والنقابات ثم البلديات والبرلمانات وحتى رئاسات الدول.

إنَّ من افدح الاخطاء الكثيرة التي ارتكبتها جماعةُ الاخوانِ المسلمين هو ربطُ مصيرِ المقاومةِ الفلسطينية بمصير الجماعة القلق المهدد بالاجتثاث باستمرار. ونظراً لتخلي جماعة فتح وباقي المنظمات الفلسطينية المتحالفة معها في اطار منظمة التحرير الفلسطينية عن النضال بكافة اشكاله ومظاهرهِ فإنَّ القضاءَ على حماس والجهاد الاسلامي وسائر التنظيمات الاسلامية المسلحة سيفرغُ الساحة الفلسطينية من أيِّ إزعاجاتٍ للاحتلال.
لقد بدت سيطرة جماعة الاخوان المسلمين وفكر الاخوان وبرنامج الاخوان على حركة حماس واضحة من خلال عنوان غزوة غلاف غزة في السابع من اكتوبر وهو “طوفان الاقصى” الذي أُختير عن قصد. فالعنوانُ حددَ هدف َ الحرب، واختصرهُ بالبعد الديني ولم يكن هدفا وطنيا. أي أن الهدف من الغزوة ليس وقف الاستيطان وليس تحرير فلسطين وليس تطبيق قرارات الامم المتحدة ومجلس الامن، وليس عودة اللاجئين. شعارُ طوفان الاقصى هو ذاتُ الهدف والشعار والعنوان والبرنامج الذي اختارته جماعة الاخوان لنفسها في الانتخابات “الاسلام هو الحل” دون ايضاح “حل ماذا” و “كيف” “وأين”.

الاسلامُ هو الحل ظل شعارا فضفاضا ومبهما. كما أنَّ اطاره الجيوسياسي ايضا بقي مفتوحا. فهل هو الحل في الاقطار العربية والاسلامية أم أن الحل يشمل الساحة الدولية من خلال العودة للغزو والفتوحات.
لقد اصبح معروفا لدى القوى السياسية غير الاسلامية أنَّ الاخوان لا يملكون ايَّ برامج وطنية لأنهم لا يعترفون بمفهوم الوطن ولا بمفهوم المواطنة كما تعبر عنه الحدود السياسية للدول العربية والاسلامية. فالعالم كلهُ هو وطن الاخوان. ونظراً لأنهُ ليسَ لديهم برامجَ اقتصادية واداريه وخدماتية وتعليميه ولمكافحة البطالة والفقر واختلال العدالة الاجتماعية.. فإنَّ غيابَ هذهِ البرامج قد يُفسرُ بأن هذه البرامج لا تقعُ ضمن اولويات الاخوان وإنما تقتصر اولويتهم على غزو الدول وتطبيق الشريعة الاسلامية، وأنه من خلال تطبيق الشريعة الاسلامية سَتُحلُ كافةُ مشاكلِ المجتمعات الانسانية. وهي بذلك تتجاهلُ فشلَ هذا الشعار في السودان الذي خسر نصف اراضيه بعد ان رفع انقلاب عمر البشير الاخواني شعار تطبيق الشريعة الاسلامية. كما لم تتعظ من فشل هذا الشعار في تونس والمغرب والصومال وافغانستان وليبيا ومصر.
الخلاصة، ان على الشعب الفلسطيني أن يُطلِقَ من بينِ صفوفهِ مقاومةً وطنيةً جامعةً لها اهدافٌ واضحة تترجم هموم وطموحات وحقوق الشعب الفلسطيني. مقاومة فلسطينية لا قبل ولا بعد. مقاومة تلتزم بالمعايير الانسانية والقانون الدولي لتستطيعَ ان تكسبَ الرأي العام العالمي وتعري الكيان الصهيوني من ادعاءاته الزائفة وتظهر الطبيعة الاجرامية التوسعية العدوانية العنصرية الاستعلائية لهذا الكيان ولايدولوجيته العفنة. إن كسب الرأي العام العالمي او على الاقل تحييده هو ثلاثة ارباع النصر، لأن همجية اسرائيل ستتقزم بتقزم قدرتها العسكرية والسياسية المستمدة ليس من ذاتية الكيان وإنما من التأييد والانحياز الدولي له. وقد اثبتت وقائعُ هذه المعركةِ أن الرأي العام العالمي قابلٌ للتغيير وأنه مفعم بالانسانية اذا اطلع على الحقائق بدون تزييف وتزوير. كما اظهرت رفض الشعوب للجرائم ضد المدنيين والاهداف غير العسكرية.

المقاومةُ تحتاج الى العقل وتحتاج الى العواطف حتى تحقق اغراضها، والنبلُ سيدُ الاخلاقِ وسيدُ القيم. فلتكن مقاومةَ الفلسطينيين مقاومةً نبيلةً تعبرُ عن نبل الشعب الفلسطيني الذي يجب أن يخترعه إن لم يكن موجودا. ولا بأسَ ان تستعيرَ المقاومةُ من الاسلام المبادئ التاليةَ : “الدين المعاملة” ، “وإنك لعلى خلق عظيم”، “أُذن للذين ظلموا”، “ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”، “لكم دينكم ولي دين”.

السابق
مآرب النظام الإيراني في غزة
التالي
«حزب الله» يمسح الأضرار لإمتصاص نقمة الجنوبيين..وهذه أولوياته في التعويض من المال الإيراني!