اليوم التالي في قطاع غزة: السيناريوهات المحتملة ما بعد العملية البرية الإسرائيلية

قصف غزة

عقب عملية «طوفان الأقصى» التي شنّتها حركة حماس ضد «فرقة غزة» ومستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر 2023، كرر المسؤولون الإسرائيليون هدف القضاء على حركة حماس عسكرياً وإسقاط حكمها في قطاع غزة. ومع أن إسرائيل ردّت على الفور بقصف عنيف على قطاع غزة، إلا أنها تدرك أن تحقيق ذلك الهدف يتطلب عملاً عسكرياً بريّاً طويلاً. ولكن، بينما كان هناك وضوح في الأهداف العسكرية للحرب الإسرائيلية على «حماس» وقطاع غزة، إلا أنه يُلحظ غياب تصور واضح حتى الآن حول الأفق السياسي بعد انتهاء الحرب، وهذا ما دفع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى حث حكومة الإسرائيلية على تجسير الهوة بين الأهداف العسكرية والأهداف السياسية للحرب على حماس وقطاع غزة.

تتناول هذه الورقة الإشكاليات التي تواجها إسرائيل في قطاع غزة، والسيناريوهات الإسرائيلية المحتملة لمستقبل قطاع غزة في حال نجحت إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية.

المعضلة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة

انطلقت الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع حركة حماس، منذ سيطرتها على قطاع غزة عام 2007، من ركيزة الحفاظ على حكمها في قطاع غزة، بهدف تعميق الفصل بين الضفة الغربية وغزة، وإضعاف السلطة الفلسطينية لمنع حلّ الدولتين. وقاد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هذه الاستراتيجية من أجل تقويض أي فرص لتسوية سياسية مع الفلسطينيين. وفي جميع المواجهات السابقة بين “حماس” وإسرائيل (التي يبلغ عددها خمساً)، لم تضع الحكومة الإسرائيلية إسقاط حكم حماس هدفاً لها، بل كانت الأهداف تنحصر في ضرب القدرات العسكرية للحركة، وردع الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، وكسب فترة من الهدوء الأمني مع القطاع. لم تتبنَّ إسرائيل هدف إسقاط حكم “حماس” انسجاماً مع الاستراتيجية الإسرائيلية في الحفاظ على حكم “حماس” من جهة، وتكلفة تحقيق هذا الهدف، بشرياً واقتصادياً ودبلوماسياً من جهة أخرى.

اقرأ أيضاً: 10 سيناريوهات تنتظر غزة.. هل يقفز عدد الضحايا من 10000 الى 100.000؟!

بعد صدمة السابع من أكتوبر، لم يكن هناك خيار للقيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية إلا رفع سقف أهداف الحرب نحو إسقاط حكم حركة حماس، مدفوعةً بضغط شعبي لتنفيذ ذلك، وبخاصة أنه وُجهت في هذه الأزمة انتقادات شديدة إلى الاستراتيجية التي اتبعها نتنياهو في احتواء الحركة الفلسطينية. تدرك القيادة السياسية أن إسقاط حكم حماس لا يكون من خلال القصف الجوي فقط، بل تحتاج إسرائيل إلى تنفيذ عملية بريّة واسعة داخل القطاع، وهذا سيكلّف إسرائيل خسائر كبيرة، خصوصاً أن إسرائيل لا تعلم يقيناً طبيعة استعدادات الفصائل الفلسطينية، فضلاً عن أن قضية الأسرى والرهائن تتحول تدريجياً إلى عامل ضاغط على الحكومة الإسرائيلية، كما أن إسرائيل تتخوف من اندلاع الجبهة الشمالية مع حزب الله التي قد تغير أو تؤثر في أهداف الحرب وقدرة إسرائيل على تحقيقها.

وإلى جانب المعضلة العسكرية، والتي غير معروف نتائجها أو على الأقل ثمنها، فإن هناك انقساماً شديداً حول الهدف السياسي من العملية العسكرية ما بعد إسقاط حكم “حماس”، فليس هناك تصور إسرائيلي واضح حول ذلك، ويدور نقاش شديد في الساحة الإسرائيلية بين مراكز الأبحاث والتفكير وخبراء عسكريين وسياسيين. ويدخل في هذا الشأن الدور الأمريكي الضاغط على إسرائيل لوضع تصور سياسي واضح يتجاوز الهدف العسكري والأمني.

بناءً على ذلك، تعاني إسرائيل من معضلتين: عسكرية تتعلق بغياب الثقة في قدرتها على تحقيق هدفها من الحرب، ومعضلة سياسية تتعلق بوضع تصور سياسي لما بعد تحقيق الهدف العسكري من الحرب، وهي مسألة تتداخل فيها عوامل إقليمية ودولية ليس لإسرائيل بالضرورة سيطرة عليها.

التصورات الإسرائيلية لمستقبل غزة

على الرغم من عدم وضوح الأفق السياسي لدى إسرائيل بالنسبة لمستقبل قطاع غزة بعد الحرب، إلا أنه يمكن الإشارة إلى الاحتمالات السياسية المطروحة والإطار الذي يمكن أن يكون مفضلاً لدى إسرائيل. وقبل ذلك، من المهم التطرق إلى بعض النقاط أو القضايا المتصلة بالتصورات الإسرائيلية لمستقبل غزة:

أولاً، اجتياح قطاع غزة من دون احتلال

هناك شبه إجماع على ضرورة اجتياح قطاع غزة من أجل القضاء على حركة حماس، ولا يتضمن الاجتياح بالضرورة احتلال القطاع والبقاء فيه، بل القيام بعمليّة بريّة لإسقاط حماس، لذلك يُطلق الجيش عليها “مناورة برية”. وأغلب الذين ينادون باجتياح قطاع غزة يعتقدون أن على إسرائيل الانسحاب من القطاع بعد تحقيق الهدف من الحرب، وهو القضاء على البنية العسكرية لحركة حماس وإسقاط حكمها.

وفي المقابل، توجد أصوات قليلة فقط تنادي بعدم اجتياح القطاع والاكتفاء بضرب حركة حماس من الجو، ومن هذه الأصوات الجنرال المتقاعد دافيد عبري الذي يعتقد بأنه يجب على إسرائيل استمرار الحرب من الجو لأن التوغل في قطاع غزة سيُكلف إسرائيل ثمناً بشرياً باهظاً، ولن تستطيع القضاء على حكم حماس، لأن حماس هي فكرة وأيديولوجيا موجودة في صفوف ملايين الفلسطينيين، لذلك يرى أنه يتعين على إسرائيل تدفيع الحركة ثمناً باهظاً جداً من خلال القصف المستمر من الجو، والانتظار حتى يسقط حكمها وحده.

في كل الأحوال، تتفق أغلب المواقف الإسرائيلية على أنه يجب عدم احتلال القطاع والبقاء فيه، كما كان قبل اتفاق أوسلو، ولا إعادة بناء المستوطنات التي تم تفكيكها في خطة الانفصال عن القطاع عام 2005.

ثانياً، بناء منطقة أمنية عازلة

تتفق أغلب التقديرات والآراء الإسرائيلية على أنه بعد صدمة السابع من أكتوبر فإن على إسرائيل الاحتفاظ بمنطقة عازلة داخل القطاع بعمق 2-3 كيلومترات، وتكون هذه المنطقة فارغة من السكان وتقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وهو نموذج جنوب لبنان بعد انسحاب إسرائيل من لبنان والبقاء في المنطقة الأمنية في الجنوب. فعلى سبيل المثال، يشير عاموس يادلين، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، إلى أن القضاء على حكم حماس هدف صعب التحقيق، لذلك يقترح دخول قطاع غزة وتدمير 40%-70% من قدرات الحركة العسكرية، وهو برأيه -إن تم- إنجاز عسكري كبير، ثم الانسحاب وبناء منطقة أمنية بعمق 1-2 كيلومتر داخل القطاع، وربما السيطرة على “محور فيلادلفيا” (الخط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر)، لمنع تهريب السلاح للقطاع. في حين يعتقد معلقون إسرائيليون آخرون أن المنطقة العازلة ضرورة أمنية حتى بعد القضاء على حكم حماس، لمنع تكرار سيناريو السابع من أكتوبر.

ثالثاً، السلطة السياسية في قطاع غزة

تختلف التقديرات الإسرائيلية حول ماهية السلطة السياسية التي ستُقام في القطاع بعد القضاء على حركة حماس، والاختلاف في هذه المسألة تحديداً هو أكبر من الخلاف على النقطتين السابقتين. فهناك مَن يطرح إعادة قطاع غزة إلى الحكم المصري، بحيث تتولى مصر شؤون قطاع غزة كما كان الأمر قبل احتلالها في يونيو 1967. ويتجاهل دعاة هذا الرأي، كما هو واضح، الموقف المصري الرافض لذلك. في حين يقترح أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب “إسرائيل بيتنا”، قطع أي علاقة بين قطاع غزة وإسرائيل، وتسليم القطاع إلى جامعة الدول العربية بحيث تدير شؤون القطاع وتختار سلطة فيها أو تجري انتخابات في القطاع لاختيار سلطة جديدة فيها، وإذا فازت حماس في الانتخابات فإن على إسرائيل ضرب القطاع مجدداً.

وهناك من يطرح فكرة تأسيس نظام سياسي يرتكز على البُنى الحمائلية/العشائرية أو السلطات المحلية في قطاع غزة، وهو نموذج حاولت إسرائيل تطبيقه في الضفة الغربية في أواخر سنوات سبعينيات القرن الماضي وفشل. وثمة أيضاً اقتراح بوضع غزة تحت وصاية إقليمية ودولية، ودخول قوات أجنبية للمنطقة لحفظ الأمن.

في حين أن هناك من يعتقد أن إنشاء نظام حكم في القطاع ليس شأناً إسرائيلياً، إذ إنه يجب على إسرائيل تحقيق أهداف الحرب والانسحاب من القطاع من دون ملء الفراغ السلطوي الذي سوف ينشأ في غزة، وفي هذا الصدد يقول عاموس يدلين: “من ناحيتنا لتكنْ غزة دولة مع فراغ سلطة، مثل الصومال، فلن يكون هناك أسوأ مما كان في 7 أكتوبر”.

رابعاً، دور السلطة الفلسطينية

بالنسبة لعامل السلطة الفلسطينية في مستقبل غزة، فليس هناك اتفاق على دورها حتى الآن. لم تصرّح الحكومة الإسرائيلية عن رؤيتها لمكانة السلطة الفلسطينية ودورها في مستقبل قطاع غزة، بالرغم من أن الولايات المتحدة تريد عودة السلطة كجزء من رؤيتها لحل الدولتين، كما أن بعض المعلقين في إسرائيل يؤيدون أن تكون السلطة الفلسطينية العنوان المقبل لقطاع غزة.

في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، في 20 أكتوبر، قال وزير الدفاع يوآف غالانت أنه بعد القضاء على حماس سوف تُخلي إسرائيل مسؤوليتها عن قطاع غزة، وتخلق “نظاماً أمنياً جديداً” في القطاع (هآرتس، 22/10/2023). يمكن تفسير كلام غالانت بأن إسرائيل ستنسحب من القطاع بعد اجتياحه، ولكنه لم يوضح طبيعة النظام الأمني الجديد، ومن المحتمل أن المقصود بمنظومة أمنية جديدة متعلقة بإسرائيل، والتي بعدها، كما صرَّح لاحقاً، ستكون هذه العملية هي آخر عملية بريّة في القطاع، ولكنه لم يأتِ على ذكر السلطة الفلسطينية في حديثه، مما يؤكد تجنُّب الحكومة الإسرائيلية التطرق لهذه المسألة في الوقت الراهن، أو غياب اتفاق إسرائيلي حولها.

يطرح الجنرال غيورا إيلاند، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية سابقاً، فكرة نقل نموذج الضفة الغربية إلى قطاع غزة، أي تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، وبناء منطقة أمنية فارغة من المستوطنين داخل القطاع، وإبقاء حرية العمل للجيش الإسرائيلي في القطاع. في حين يقترح عوفر شيلح، عضو الكنيست السابق والباحث في معهد دراسات الأمن القومي، الدمج بين إعادة السلطة الفلسطينية وحضور مؤثّر للدول العربية في قطاع غزة، إذ يشير إلى أنه على إسرائيل تحويل الحرب على قطاع غزة من ساحة لتفعيل القوة العسكرية فقط إلى ساحة لبناء شراكة استراتيجية جديدة في المنطقة، لذلك يرى أنه يجب على إسرائيل القضاء على حماس في قطاع غزة عسكرياً وسياسياً، في حين تقوم الولايات المتحدة بردع المحور الإيراني، في الوقت الذي تعمل الدول العربية، على تعزيز الاستقرار في غزة بعد الحرب من خلال منح المساعدات الإنسانية بمشاركة السلطة الفلسطينية، وفي هذا الإطار يرى أن إسرائيل ستحافظ على حرية العمل الأمني والعسكري في القطاع لمنع ظهور تنظيمات عسكرية أخرى.

خامساً، تهجير سكان قطاع غزة

هناك في إسرائيل مَنْ يعتقد أن الحل يتمثَّل في إعادة توطين سكان قطاع غزة في سيناء، لذلك يطالبون بتعظيم الأزمة الإنسانية للضغط على مصر لفتح معبر رفح لدخول الغزيين إلى سيناء وتوطينهم هناك مقابل مساعدات اقتصادية كبيرة لمصر. يدرك أصحاب هذا التوجه أن الأمر مَنوط بالموقف المصري الرافض كليّاً لهذا الخيار، وقد صرّح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مراراً أن هذا الأمر خط أحمر ويمثل تهديداً للأمن القومي لبلاده، لذلك يرى هؤلاء أن المزيد من المعاناة الإنسانية وإغراء مصر بمساعدات اقتصادية هائلة سوف يكسران الرفض المصري.

ينطلق أصحاب هذا الموقف من أن عدم تهجير الفلسطينيين في غزة سيُبقي الوضع في غزة هادئاً لفترة محددة فقط، فإيران لن تتوقف عن إعادة بناء “حماس” بعد خروج القوات الإسرائيلية، أو ظهور تنظيمات أخرى أكثر تشدداً مكانها، لذلك فالحل في تصورهم هو تهجير أهل القطاع إلى مصر، والسيطرة الإسرائيلية الكاملة عليه.

ويمكن القول، إن الخيارات الإسرائيلية بخصوص مستقبل قطاع غزة ترتبط بعدد من العوامل أو المحددات، من أبرزها ما يأتي:

  1. سير الحرب: فالحرب البريّة لها قواعد مختلفة، فهي تعني الحرب داخل مناطق سكنية، وغير معروف ما تحضّر الفصائل الفلسطينية لهذا الهجوم، وقد تخسر إسرائيل الكثير من جنودها في الحرب البريّة، مما قد يُؤثر في الأهداف العسكرية والسياسية لدى إسرائيل، أو يطيل تحقيق هذه الأهداف لفترة أطول مما توقع الجانب الإسرائيلي، مما يؤدي إلى خفض سقف الأهداف خلال الحرب. كما أن إطالة الحرب تحمل تكلفة مادية كبيرة، فالجيش مكون من الاحتياط الذين تركوا أعمالهم للمشاركة في القتال، كما أن 2% من مواطني إسرائيل أُخلوا من بيوتهم وأُسكِنوا في فنادق ودور ضيافة على حساب الدولة، فضلاً عن التداعيات الاجتماعية من العيش في حالة حرب وطوارئ مستمرة وتعطيل مرافق عديدة في الدولة لمدة طويلة، وأخيراً التكلفة الاقتصادية للحرب التي تصل إلى نحو 250 مليون دولار يومياً.
  2. الشرعية الدولية للحرب: يُشكل هذا العامل تحديّاً لإسرائيل، والذي يتعلق بتآكل الشرعية الدولية لاستمرار الحرب إذا ازدادت الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، أو إذا طالت المعارك دون أن تنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها بسرعة، مما قد يزيد الضغط الدولي على إسرائيل لوقفها.
  3. الموقف الإقليمي: فالدول العربية أظهرت موقفاً موحداً من الحرب والمطالبة بوقفها، في حين أكدت مصر معارضتها لتهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، مما يزيد العبء على إسرائيل، إنسانياً وسياسياً، كما أن استمرار الحرب طويلاً قد يسهم في تراجع سياسة التطبيع مع الدول العربية، وتوتر العلاقات مع الدول التي لها علاقات مع إسرائيل. كما يتعلق هذا العامل بمدى قبول الدول العربية أن تكون جزءاً من المعادلة التي ستحدد مستقبل القطاع بعد احتلاله، من الناحية الأمنية والسياسية، وشروطها لقبول ذلك، والذي قد يتمثل في ضمان الذهاب إلى تسوية لحل الدولتين. ولا شك أن الموقف العربي قد يؤثر في مواقف الدول التي تُظهِر دعماً غير محدود لإسرائيل.
  4. موقف السلطة الفلسطينية: يمثل هذا الموقف عاملاً مهماً في تحديد مصير قطاع غزة، فهل تستطيع السلطة الفلسطينية -في حال دفعت إسرائيل إلى ذلك- الدخول إلى غزة وأخذ زمام السلطة في القطاع أمنياً ومدنياً، مع تراجع شرعيتها وسلطتها في الضفة الغربية. وقد ترفض السلطة أن تكون طرفاً في المعادلة الإسرائيلية دون ضمانات دولية واضحة وصريحة نحو تسوية الصراع والدفع بحل الدولتين، ورفع الحصار عن قطاع غزة، وهو مطلب نقلته السلطة الفلسطينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
  5. قضية الأسرى والرهائن: فهذه القضية تتصاعد داخل المجتمع الإسرائيلي، وتحولت إلى قضية مركزية بعد أن حاولت حكومة نتنياهو تحييدها كواحدة من أهداف الحرب، وقد زاد الضغط على الحكومة الإسرائيلية لتحرير الأسرى والرهائن، وتحدث خبراء أمنيون بأن هذه القضية لن تكون قابلة للحل بعد الاجتياح البري، وأن على إسرائيل التفكير مُجدداً في حل هذه المسألة. وفي هذا الصدد، يشير دافيد ميدان، ضابط الموساد السابق الذي كان مسؤولاً عن صفقة إطلاق سراح شاليط، أن فرص إطلاق سراح الأسرى والرهائن ستنتهي مع الحرب البريّة، وأن إسرائيل لم تتعامل سابقاً مع حالة يوجد فيها نحو 200 أسير ورهينة لدى الفصائل الفلسطينية، وتثير هذه الحقيقة غضب عائلات الأسرى والرهائن، ويزيد الضغط على الحكومة لوضع تحرير الأسرى والرهائن هدفاً للحرب، وهو أمر يقيّد سير العمليات العسكرية.
  6. توسع الحرب: إذ تخشى إسرائيل، والولايات المتحدة أيضاً، من تمدد الحرب في غزة إلى حرب إقليمية واسعة، تشمل فتح الجبهة الشمالية مع حزب الله اللبناني، وربما جبهات مثل سورية واليمن. وتشير تقديرات إسرائيلية إلى أن إيران، وفي أعقاب التدخل الأمريكي المباشر، لن تزج بنفسها أو حزب الله في الحرب لأنها لا تريد أن تخسر حليفين لها مرة واحدة، الفصائل الفلسطينية في القطاع وحزب الله في لبنان، لذلك تتوقع هذه التقديرات ألا تضحي إيران بحزب الله من أجل قطاع غزة، ولكنها ستحاول أن تحافظ على الصراع القائم بين حزب الله وإسرائيل ضمن قواعد الاشتباك بينهما. ومع ذلك، وبالرغم من حرص الطرفين على الحفاظ على مواجهات محدودة، إلا أنهما قد ينزلقا إلى مواجهة شاملة. وفي المقابل هناك من يرى، مثل تمير هايمن، مدير معهد دراسات الأمن القومي ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، أن إيران لن تسمح بخسارة حليفها في قطاع غزة، وسوف تتدخل من أجل إنقاذ حركة حماس، فالاستراتيجية الإيرانية مبنية على الإحاطة بإسرائيل بجبهات موالية لإيران وسقوط غزة في هذه الحرب لن يؤدي فقط إلى سقوط حلقة من حلقات الحصار على إسرائيل، بل سوف تكون له تداعيات على باقي الجبهات وبخاصة في الشمال، وهي الجبهة الأهم بالنسبة لإيران والتي قد تؤدي إلى استفراد إسرائيل بها وتركيز قوتها على هذه الجبهة.

السيناريوهات المحتملة لمستقبل غزة

بناء على ما سبق، تمكن الإشارة إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل قطاع غزة:

السيناريو الأول، القضاء على حكم حماس وإحلال نظام حكم بديل

يفترض هذا السيناريو سعي إسرائيل لتحقيق الأهداف التي وضعتها، وهي القضاء على حركة حماس عسكرياً وسياسياً في قطاع غزة، دون احتلال القطاع بشكل دائم، مع السعي إلى بناء نظام سياسي-أمني في القطاع بديل من حكم “حماس”. وينطلق هذا السيناريو من الاعتبارات الآتية:

يُحقق هذا السيناريو الأهداف التي وضعتها إسرائيل، ويُلبي المطلب الشعبي للقضاء على حركة حماس، من دون الغرق في “مستنقع” غزة بما قد يؤدي إلى تكلفة بشرية كبيرة على الجيش الإسرائيلي.
ينسجم هذا السيناريو مع الموقف الأمريكي الرافض لاحتلال القطاع بشكل دائم، والمؤكد أيضاً على أن الوضع في غزة لن يعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر، كما عبّر عن ذلك الرئيس بايدن غير مرة.
يحرر هذا السيناريو إسرائيل من مسؤوليتها المدنية والتكلفة الاقتصادية كدولة احتلال.
يحقق هذا السيناريو مصلحة نتنياهو بتحسين مكانته في المجتمع الإسرائيلي، والتعويض عن إخفاقه في السابع من أكتوبر، من خلال القضاء على حماس دون المجازفة باحتلال القطاع.

يُعد هذا السيناريو التطبيق العملي للهدف الذي وضعته إسرائيل للحرب، وهو القضاء على حركة حماس وإسقاط حكمها في قطاع غزة. ومن الصعوبة على الحكومة الإسرائيلية، وخاصة نتنياهو وكذلك الجيش الإسرائيلي، التراجع عن هذا الهدف بعد التأكيد عليه مراراً، كما أن المجتمع الإسرائيلي لن يقبل حالياً غير تحقيق هذا الهدف. وفي الوقت نفسه يخلق هذا الواقع سؤالاً سياسياً بعد إسقاط حكم حماس، يتمثل فيمن سيمسك زمام السلطة في القطاع، فإسرائيل لا تريد البقاء في القطاع والغرق مرة أخرى في مستنقع غزة أمنياً، وتحمّل تكلفة السكان مدنياً، لذلك فإن من مصلحة إسرائيل الترتيب لنظام أمني جديد في قطاع غزة، كما صرّح وزير الدفاع غالانت، والأغلب هو وضع القطاع تحت سيطرة السلطة الفلسطينية بدعم إقليمي ودولي.

ولا شك في أن هذا السيناريو يُواجه ثلاثة تحديات رئيسة: الأول، المقاومة الشرسة من حركة حماس وبقية الفصائل في غزة، الأمر الذي قد يُفشل خطط إسرائيل في القضاء على حكم حماس؛ والثاني، احتمال تدخل إيران وحزب الله لمنع إسرائيل من تحقيق هدفها بإسقاط حكم حماس. أما التحدي الثالث فيتعلق بالتشكيك في قدرة السلطة الفلسطينية على فرض سيطرتها على القطاع، بالنظر إلى المعطيات التي تطرقنا إليها أعلاه. ومن أجل ذلك، فإن هذا السيناريو ضعيف الاحتمال.

السيناريو الثاني، احتلال قطاع غزة والبقاء فيه بعد تهجير الفلسطينيين

ينطلق هذا السيناريو من أن الحل الشامل لمشكلة قطاع غزة بالنسبة لإسرائيل هو دفع السكان الفلسطينيين أو أغلبهم نحو مصر، واحتلال القطاع وبقاء القطاع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة. ويعتمد هذا السيناريو على الاعتبارات الآتية:

يضمن هذا السيناريو إنهاء مشكلة غزة بالنسبة لإسرائيل بشكل كامل.
التهجير سيتحول إلى حالة مُكرَّسة كما حدث مع اللاجئين الفلسطينيين عام 1948، على الرغم من القرارات الدولية التي تنص على عودتهم.
يمنع هذا السيناريو عودة حركة حماس أو تنظيمات أخرى إلى إعادة بناء نفسها من جديد، ويشكل حالة ردع عميقة للجبهات الأخرى.
لن تضطر إسرائيل إلى تحمل تكلفة السكان الاقتصادية والمدنية بعد تهجير أغلب السكان.
يسهم في إنهاء القضية الفلسطينية وحصرها في الضفة الغربية، حيث توجد السلطة الفلسطينية، التي يسهل إدارة الصراع معها كما هو الحال الآن.
يستجيب مع خطاب اليمين المتطرف في إسرائيل الذي يَعتبر قطاع غزة جزءاً من “أرض إسرائيل”، ويمكنهم من إعادة بناء المستوطنات في غزة من جديد.

وهذا السيناريو صعب التحقق، بسبب الموقف المصري الحازم برفض تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، فضلاً عن أن خيار إعادة احتلال القطاع لا يحظى بشعبية داخل إسرائيل.

السيناريو الثالث، تقويض قدرات حماس العسكرية دون إسقاط حكمها مع بناء منطقة أمنية حدودية

ينطلق هذا السيناريو من أن احتلال قطاع غزة يمثل عملية طويلة ومكلّفة بشرياً، كما أن القضاء على حركة حماس نهائياً أمر صعب، بحيث ستتوقف العملية عند ضرب قدرات حماس عسكرياً قدر الإمكان، دون القضاء على حكمها، والخروج من القطاع ولكن مع بناء منطقة أمنية عازلة على الشريط الحدودي مع القطاع، بما يشبه الوضع الذي كان في جنوب لبنان قبل انسحاب إسرائيل منه عام 2000. يعتمد هذا السيناريو على الاعتبارات الآتية:

القضاء على حركة حماس نهائياً يحتاج إلى احتلال قطاع غزة بشكل كامل، وهو أمر طويل ومكلّف بشرياً للجيش الإسرائيلي.
محدودية قدرة المجتمع الإسرائيلي على تحمُّل حرب طويلة وخسائر كبيرة، الأمر الذي سوف يشكل عاملاً ضاغطاً على الحكومة لوقف الحرب بعد فترة معينة.
الخوف من اندلاع جبهات قتال أخرى، مثل المنطقة الشمالية، سوف يحد من قدرة إسرائيل على إطالة الحرب أو توسعها.
الشرعية الدولية للحرب قد تتآكل مع إطالة الحرب وتفاقم المشكلة الإنسانية وقتل المدنيين، مما يضطر إسرائيل لوقف عملياتها وعدم تحقيق هدفها العسكري.
التعويل على الحراك الإقليمي والدولي لتغيير حكم حماس بعد ضربها وإضعافها وتشديد الحصار عليها.
الإجماع داخل المؤسسة الإسرائيلية على أن بناء منطقة عازلة كفيل بعدم تكرار هجمات السابع من أكتوبر، كما أن هذه الخطوة تُعيد شعور الأمن للمستوطنين في غلاف غزة.

ومع أن هذا السيناريو لن يكون مقبولاً للإسرائيليين الذين يطالبون بإسقاط حركة حماس، وهذا مطلب تؤكده إسرائيل كل يوم، وتحظى بدعم دولي لتحقيقه، وبالذات مع شيطنة “حماس” وتصويرها مثل “داعش”، إلا أن إسرائيل تُدرك تكاليف إسقاط حماس، كما أن هناك عوامل لا تستطيع إسرائيل التحكم بها قد تضطرها لتغيير هدف إسقاط حماس، وأهمها عجزها العسكري عن تحقيق ذلك مع إطالة الحرب لمدة لا تستطيع تحملها، وبخاصة إذا باتت تكلفها خسائر بشرية كبيرة، بما سيُحدث تصدعات في الإجماع الإسرائيلي على إكمال الحرب وتحقيق الهدف المتمثل بالقضاء نهائياً على حكم حماس. وعليه، فإن هذا السيناريو هو الراجح حتى الآن.

استنتاجات

فرضت صدمة السابع من أكتوبر على إسرائيل رفع سقف أهداف الحرب، وهو إسقاط حكم حركة حماس في قطاع غزة، وهو هدف لطالما تجنَّبته إسرائيل، انسجاماً مع سعيها لفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، ولكن أيضاً بسبب صعوبة تحقيق ذلك، والكُلفة العالية التي قد ترافق هذا الهدف، لاسيّما الخسائر البشرية في صفوف الجيش.

لن يكون إسقاط حكم حماس سهلاً، وليس مضموناً أن يبقى الإجماع الإسرائيلي قائماً إذا ازدادت الخسائر في صفوف الجيش بعد اجتياح القطاع. ولكنّ إسرائيل سوف تعمل بداية على تحقيق هذا الهدف بدعم أمريكي والتفاف شعبي حوله. ولا تملك إسرائيل حتى الآن تصوراً واضحاً لما بعد تحقيق هذا الهدف، ولكن نتوقع أنه في حالة تحققه فإن إسرائيل لن تبقى في غزة لتتحول إلى دولة محتلة، بل ستنسحب من القطاع وستبني منطقة أمنية عازلة، وستترك للولايات المتحدة قيادة ترتيب الفراغ السياسي بعد تحقيق الهدف العسكري بالتنسيق مع أطراف إقليمية.

السابق
حجز مكان على الطاولة: محددات المقاربة الصينية للحرب في غزة وآفاقها
التالي
حماوة لافتة بعد الظهر جنوباً..«حزب الله يَزُجّ بـ«المُسيّرات الإنتحارية» لأول مرة وصواريخ وهجومات متزامنة!