حجز مكان على الطاولة: محددات المقاربة الصينية للحرب في غزة وآفاقها

الصين واسرائيل

تتبنَّى الصين موقفاً غامضاً ومثيراً للجدل في الأوساط الغربية والإسرائيلية من الحرب في غزة. فبينما تنتقد بيجين باستمرار القصف الإسرائيلي الشامل على المدنيين في قطاع غزة، وتدين استهداف المدنيين على الجانبين وانتهاكات القانون الدولي، لا تدين حركة حماس مباشرة. وانتظر الرئيس شي جينبنغ انتهاء منتدى الحزام والطريق الثالث للإدلاء بأول تعليق علني له على الأزمة، مكرراً موقف الصين وداعياً إلى حل الدولتين وفتح ممر إنساني للسماح بدخول المساعدات إلى القطاع المحاصر. ووصف وزير الخارجية الصيني وانغ يي كذلك القصف الإسرائيلي للمدنيين في غزة بأنه “يتجاوز نطاق الدفاع عن النفس”، ويرقى إلى حد “العقاب الجماعي”.

«نقطة فارقة» في سياسة الصين الشرق أوسطية

على مستوى النظام الإقليمي، لأول مرة أظهرت الصين وروسيا تنسيقاً في المواقف بينهما إزاء الأزمة في غزة. ويمكن اعتبار هذا الموقف نقطة فارقة وبداية لمرحلة جديدة في سياسات الجانبين في المنطقة، حيث تحرص الصين على بناء جبهة موحدة مع روسيا عبر توحيد وجهات النظر مع موسكو بخصوص الحل المستقبلي للأزمة. لكنها أيضا قد تنتج معسكراً موازناً للنفوذ الأمريكي في الإقليم على المدى البعيد.

ولدى الصين من وراء تبني هذا الموقف، المشابه تماماً موقفها من الحرب الأوكرانية، أربعة أهداف:

أولاً، ترغب الصين في توحيد الموقف حول القضية الفلسطينية مع الدول العربية والإسلامية، وهو ما تُسمِّيه الحديث “بصوت واحد”. ينبع هذا التوجه من إدراك بيجين مركزية الدعم المتبادل مع العدد الكبير لهذه الدول على المسرح العالمي. وبالإضافة إلى ضمان مساندة هذه الدول لمصالح الصين الأساسية، وتحديداً في شينجيانغ وتايوان، فإن هذه الدول تؤدي دوراً أساسياً في نجاح رؤية شي للحوكمة العالمية، المنصوص عليها في مبادراته العالمية: مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمية، ومبادرة الحضارة العالمية، وبناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية.

اقرأ أيضاً: هل خسر «حزب الله» وإيران حرب غزة لحظة إندلاعها؟!

ثانياً، تعزيز الوحدة الإقليمية علناً، وخاصة بين إيران ودول الخليج (المكالمة الهاتفية الأولى بين ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي)، تأكيداً على شرعية مبادرتها للتوسط في اتفاق دبلوماسي بينهما في مارس الماضي. ويُنظر لهذا التقارب في الصين باعتباره انتصاراً للإطار الأمني الإقليمي الجديد الذي تقترحه الصين، والذي يشكل ركيزة أساسية في مبادرة الأمن العالمية.

ثالثاً، من خلال التأكيد على تبنيها موقفاً محايداً، تضع الصين ضغطاً على الموقف الأخلاقي للولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل، وإضفاء شرعية على اقتراحها لتدويل القضية من خلال الدعوة إلى عقد مؤتمر سلام عالمي تحت إشراف أممي قد يزيح واشنطن من موقع الوسيط الوحيد.

رابعاً، النظر بإيجابية إلى تعمق تورط الولايات المتحدة في الصراع وما ينتج عن ذلك من انشغال أمريكي بجبهتي أوكرانيا والشرق الأوسط، وتخفيف الضغط على تموضع الصين في شرق آسيا. لكن هذا الانخراط قد يعرقل، أو يسرع، وتيرة التصعيد الإقليمي وتحوُّل الحرب في غزة إلى مواجهة واسعة النطاق.

نقاط الاختلاف مع الولايات المتحدة

بتسليط الضوء على الموقف الأمريكي المعروف، والداعم دون شروط، لإسرائيل في الحرب، يمكن استخلاص نقاط الاختلاف المهمة بين بيجين وواشنطن، التي ستكون مفيدة لاحقاً في سياق استنتاج سلوك بيجين في المرحلة المقبلة.

الاختلاف في النظر إلى البُعد السياسي للأزمة الإنسانية. فبينما ترغب الولايات المتحدة في فتح ممرات إنسانية وإدخال المساعدات للقطاع لتخفيف الضغط الدولي على إسرائيل وإظهار بعض الإلتزام بالقانون الدولي في ظل دعمها للعملية العسكرية البرية في غزة، تقرن الصين المساعدات الإنسانية بوقف فوري لإطلاق النار وبدء المفاوضات السياسية. أي أن ملف المساعدات في المنطق الأمريكي قاعدة للتغطية على استمرار الحرب، بينما بالنسبة للصين مقدمة لإنهائها.
بينما تشدد الولايات المتحدة والقوى الغربية على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وفقاً لمقتضيات القانون الدولي وقوانين الحرب، تمتنع بيجين عن إدانة هجوم 7 أكتوبر وتركز على حق تقرير المصير للفلسطينيين وعلى حل الدولتين. أي أن مقاربة الولايات المتحدة، أقله في هذه المرحلة، تتسم بطابع تكتيكي يخص التصعيد الحالي، بينما تسلط الصين الضوء على البعد التاريخي وعملية السلام باعتبارهما حلاً للأزمة.
بخصوص عملية السلام، تتفق إسرائيل وأوروبا على استمرار شرعية دور الولايات المتحدة كوسيط وحيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بينما تدفع الصين وروسيا لعقد مؤتمر سلام عالمي “لخلق توافق دولي” حول حل القضية، واكتساب الدولتين شرعية دولية، وتقليل دور واشنطن.
لا يُتوقع أن تمانع الصين حلاً مستقبلياً في غزة قائماً على منح السلطة الفلسطينية الدور المركزي في إدارة شؤون القطاع بدعم من قوى عربية، لكنها قد تفضل أن يتم ذلك عبر توافق إقليمي واسع.
بينما يتفق الجانبان على ضرورة عدم توسع المعركة واتخاذ بعد إقليمي، تُعارض الصين منظومة الردع الأمريكية لتطبيق ذلك، متمثلة في إرسال حاملتي طائرات لشرق المتوسط وجنود إلى إسرائيل. تعتقد بيجين (وموسكو أيضاً) أن هذه السياسات الأمريكية قد تسهم في زعزعة الاستقرار الإقليمي بدلاً من ضمانه.

الصين واحتمالات توسع الصراع

حدد وزير الدفاع الإسرائيلي ثلاثة أهداف استراتيجية من الغزو البري لقطاع غزة: القضاء على حركة حماس من خلال تدمير قدراتها العسكرية وأذرعها الحكومية، وإنهاء مسؤولية إسرائيل عن القطاع، وإنشاء “نظام أمني” جديد فيه. لكن تحقيق هذه الأهداف سيصاحبه سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين في غزة، وتدمير شامل للبنية التحتية الأمنية والمدنية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وهو ما قد يدفع إيران وحزب الله اللبناني لفتح جبهات إضافية مع إسرائيل. سيكون الهدف من هذه الخطوة تقليل الضغط على حماس والجهاد، وقد يشمل حزب الله، وميليشيات متمركزة في العراق وسوريا، والحوثيين في اليمن (أطلقوا عدة دفعات من الصواريخ والطائرات المسيرة بالفعل باتجاه إسرائيل)، وقد يشمل أهدافاً أمريكية في المنطقة.

وبالتوازي، ثمة دوافع، على الجانبين الإسرائيلي والإيراني، لضبط المواجهة ومنعها من التوسع. أهم هذه الدوافع الأزمة الاقتصادية الكبيرة في لبنان، ورغبة إيران في الحفاظ على سياسة الانفتاح مع دول الخليج والتهدئة مع واشنطن، ورغبة إسرائيل في التركيز على معالجة معضلة حماس، وسعي الولايات المتحدة لمنع حرب واسعة النطاق تلفت الانتباه بعيداً عن حرب أوكرانيا وتزيد العبء على مواردها الاستراتيجية، وقد تدفعها للتدخل العسكري المباشر. على الجانب الآخر، تهدد الأردن بأن محاولة تهجير الفلسطينيين قسرياً ستكون بمثابة “إعلان حرب”، فيما هددت مصر بـ”الرد” في حالة التصعيد.

يخلق هذا الواقع المعقد والخطير عدة مخاوف لدى القيادة الصينية، يمكن إجمالها في النقاط الآتية:

أن استمرار التصعيد في القطاع سيُقوِّض الشروط، في المستقبل، لبدء عملية سلام “شامل وعادل ودائم”. يوضح هذا القلق رغبة المبعوث الخاص لشؤون الشرق الأوسط جاي جون، خلال جولته الإقليمية الأخيرة، بالعمل على تسهيل اتفاق سريع لوقف إطلاق النار.
أن يؤدي اتساع نطاق الحرب إلى استهداف خطوط الملاحة وتعطل حركة التجارة العالمية، خصوصاً ناقلات النفط المتجهة لآسيا، أو التسبب في ارتفاع حاد في أسعار النفط.
أن يتحول سيناريو الحرب الإقليمية إلى تهديد مباشر للمصالح الاقتصادية والمواطنين الصينيين في المنطقة.
أن يؤدي التصعيد الإقليمي إلى انهيار الاتفاق السعودي-الإيراني، أو اشتعال حرب إقليمية واسعة، ومن ثم انهيار المبادرات الصينية حول نظام أمني جديد في منطقة الخليج.
صعود موجة إرهاب جديدة على المستوى الإقليمي قد تجذب مقاتلين صينيين مرة أخرى وتشكل تهديداً مباشراً على الأمن والاستقرار في الداخل، خصوصاً في إقليم شينجيانغ.

وستشهد المنطقة في الأشهر المقبلة تشكُّل جبهة صينية موحدة مع روسيا. هذا التحوُّل الجوهري قد يكون له تبعات استراتيجية بعيدة المدى على النظام الإقليمي. ويمكن اعتبار هذا المستجد المهم أحد النتائج الأولى والدائمة للتصعيد الحالي، والذي يتوقع أن تتبعه تحولات أخرى كلما طال أمد الحرب.

أولاً، على صعيد الحرب في غزة

أحد الملفات الأولى التي قد تؤدي الدولتان فيه دوراً مهماً مع مصر وقطر هو المساعدة في الإفراج عن الأسرى من الجانبين. وكشف السفير الروسي في إسرائيل بالفعل محادثات مع حماس لإطلاقهم. وقد يحدث ذلك عبر جهود صينية-روسية مشتركة، أو بدعم صيني للخطوات الروسية المنفردة. وسيكون مهماً مراقبة النسق التصويتي للجانبين أيضاً في مجلس الأمن الدولي. على سبيل المثال، كان مثيراً للإهتمام امتناع روسيا عن التصويت على مشروع القرار البرازيلي في مجلس الأمن، في 18 أكتوبر، الداعي لهدنة إنسانية وإدخال المساعدات للقطاع، في الوقت الذي صوتت الصين لصالحه. ورغم الاختلافات، وأحياناً التعارض في بعض مصالح الجانبين، يساعد التوافق العام وتقاطع المصالح الأكبر بينهما على صلابة الجبهة الجديدة واستدامتها، خصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

إضافة إلى الجبهة الموحدة مع روسيا، يُتوقع أن تسعى الصين لاستغلال الضغط الإقليمي والدولي على إسرائيل والولايات المتحدة الذي قد ينتج عن العدد الكبير من الضحايا الفلسطينيين، للضغط على الموقف الاخلاقي الأمريكي وعزلها وإسرائيل دولياً. سيكون ذلك مفيداً بالنسبة لحركة حماس والمعسكر الإيراني الأشمل، إذ يُتوقع أن يخلق ضغوطاً على الولايات المتحدة والقوى الغربية لتبني شيء من الاعتدال في خطابهما إزاء الأزمة خشية ترك الساحة العربية والإسلامية للصين وروسيا.

ويُتوقع أيضاً أن تراقب بيجين أي اختلافات قد تنشأ بين واشنطن وتل أبيب، خلال سير المعركة، حول قضايا من قبيل مدى المعركة، والالتزام بالقانونين الدولي والإنساني، وإطار الحل النهائي لمعضلة غزة، ومحددات توسيع المعركة إلى ضربات انتقامية أو حرب إقليمية، وطبيعة تدخُّل القوى الدولية في المشاورات السياسية من بينها الصين وروسيا.

وفي كل الأحوال، ستحاول الصين، قدر الإمكان، توسيع الهوة بين الجانبين والضغط عليها وإظهارها للعلن. وكل الإجراءات الصينية المشار إليها تهدف، كما في الحرب الأوكرانية أيضاً، إلى ضمان مكان على طاولة التفاوض النهائي وإنهاء عزل الولايات المتحدة لبيجين وموسكو عن هذه القضية.

ثانياً، فيما يتعلق بالنظام الإقليمي

عكست المشاورات بين وزيري الخارجية الأمريكي والصيني، في بداية الأزمة، استعداد الجانبين لتبادل وجهات النظر، وفي أفضل الظروف التوصل في المستقبل لترتيبات توافقية قد تشمل ملفات إقليمية أخرى مرتبطة بالصراع الحالي، كالملف السوري ونفوذ إيران الإقليمي. وبرغم أنه من المبكر تحديد أو التنبؤ بمدى عمق هذه التفاهمات واتساع نطاقها، يمكن البناء على ما سبق للتكهن بطبيعتها.

على سبيل المثال، فيما يتعلق بالتصعيد الإقليمي، فإن الصين لا تملك نفوذاً قسرياً على إيران أو حلفائها يمكنها من عرقلته. لكنها قد تؤدي دوراً محورياً في عملية التهدئة في مرحلة لاحقة من التصعيد. قد تشمل هذه العملية مقايضة مع الولايات المتحدة لمنع توسع نطاق الحرب الإقليمية (لتشمل منطقة الخليج وصادرات النفط) والتأثير على أجندة إيران الأوسع، وكبح جماح روسيا الإقليمي إذا أرادت توسيع الصراع. لكن، في هذه الحالة، يُتوقع أن تطلب مقابلاً مرتفع الكلفة بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل، قد يشمل كل، أو بعض، النقاط الآتية:

فرض واشنطن درجة من الانضباط على العملية الإسرائيلية في قطاع غزة، وتقليص مداها الزمني والعملياتي.
إعادة مسار المفاوضات في الملف السوري مع روسيا من أجل التوصل لتفاهمات حول مستقبل الحل السياسي وإعادة الإعمار.
ضمان مكان للصين وروسيا على طاولة المفاوضات المستقبلية المحتملة الهادفة لإطلاق عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
تخفيف بعض القيود التجارية الأمريكية، خصوصاً في مجال التكنولوجيا الفائقة، على الشركات الصينية، رغم صعوبة تصور تحقق ذلك.

ستُمثل هذه التفاعلات، إن تحققت، فرصة بالنسبة لدول الخليج العربية التي استثمرت في المبادرة الصينية لخفض التصعيد في الخليج والتقارب مع إيران. ويُرجح أن تتوافق خيارات الدول الخليجية مع الصين خلال مباحثات الحل النهائي في غزة أيضاً. على سبيل المثال، قد تفرض الولايات المتحدة وإسرائيل ربط القبول بالضغوط العربية لبدء عملية سياسية بهدف تقديم تنازلات للفلسطينيين، مقابل استمرار مسار التطبيع مع إسرائيل. ومن غير المرجح أن تُعارض بيجين هذا المسار أو تسعى لعرقلته، رغم التحديات التي قد تنشأ من رد فعل إيران على مثل هذه الأفكار.

استنتاجات

على رغم معارضتها الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة، تُفضِّل الصين الانتظار وعدم التدخل بشكل عميق في الأزمة. لكنها في الوقت نفسه ترغب في حجز مكان على طاولة الحل النهائي عبر تبنّي مواقف مغايرة للموقف الأمريكي، وعبر بناء جبهة مع روسيا في محاولة لموازنة الجبهة الإسرائيلية-الغربية، والضغط على واشنطن على المستويين السياسي والأخلاقي. لكن الصين لا ترغب مع ذلك في دفع كلفة هذه السياسة.

وعلى الصعيد الإقليمي، تتخوَّف بيجين من اتساع نطاق الحرب على المستوى الإقليمي، وقد تشعر أن بإمكانها القيام بدور لعرقلة هذا السيناريو، وهو ما يمثل فرصة بالنسبة لدول الخليج والولايات المتحدة. لكن نظراً لعدم امتلاكها النفوذ الكافي على إيران، تظل فاعلية الجهود الصينية محل شك. ويُمثل الموقفان الصيني والروسي الداعيان لوقف إطلاق النار ثقلاً دولياً بالنسبة لدول المنطقة يمكن الاستناد إليه، رغم عدم انخراط القوتين بشكل مباشر في الصراع.

السابق
أوّل دولة عربية تُعلن توقف تبادل السفراء مع إسرائيل
التالي
اليوم التالي في قطاع غزة: السيناريوهات المحتملة ما بعد العملية البرية الإسرائيلية