وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان من الصراع داخل النظام إلى الصراع على النظام!

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

أحداث لبنان الداخلية، لا تدفع باتجاه ترسيخ ميزان قوى جديد فحسب، وإنما تدفع ضمناً وتصريحاً، باتجاه تغيير قواعد اللعبة السياسية كلها، أي المبادىء والمسلمات التي تنظم التنافس، أو الصراع بين القوى السياسية الفاعلة. ورغم أن الجدل الداخلي، ما يزال يستند في حجج وتصريحات الجميع إلى الدستور، إلا أن الأداء والممارسات والاصطفافات، باتت خارج أية قاعدة مشتركة أو مبادىء يتسالم عليها ويتقيد بها الجميع. ما يعني أن لبنان دخل مرحلة الانتقال، من الخلاف والصراع داخل النظام، إلى الخلاف والصراع  على النظام. الفرق بين الوضعيتين، أن الصراع داخل النظام، مسعى كل طرف للظفر بالسلطة، مع الاحتفاظ بالمؤسسات القائمة والقواعد الراهنة المتفق عليها اتفاقا عاما. أما الصراع على النظام، فيمثل مسعى طرف أو أكثر، إلى تغيير القواعد المتفق عليها، ليحل محلها قواعد أخرى، أي الصراع لأجل تأسيس نظام جديد. 

ورغم تجنب الجميع التصريح المباشر بالدعوة إلى تغيير النظام، إلا أن امتناع أكثر القوى عن الإلتزام بمؤسسات الدولة، والاحتكام إلى مرجعياتها الدستورية والقانونية، ومع عجز الدولة عن ضبط القوى المتعددة، بأن تكون صاحبة اليد العليا والنهائية في مجرى الحياة العامة، فإن هذا كله يخلق معضلة المشروعية، التي يجب أن يتمتع بها النظام ليكون محل اتفاق، وليضمن طاعة المواطنين بطريقة طوعية للقوانين وقرارات السلطة، لا إكراهية وعنفية. 

صحيح أن فكرة النظام البديل لم تتبلور بوضوح عند جميع القوى، إلا أن الممارسات والتصريحات تشي بمسعى ورغبة، لتأسيس قواعد توزيع جديد ومبادىء انتظام مختلف، عن المعمول بهما حالياً. أي إن معطيات الأمر الواقع، تدفع باتجاه فكرة النظام البديل، في حين أن الفكرة لم تأخذ حظها الكافي من التفكير والتدبر. أي هي مستحقة عملياً لكنها غير متحققة أو واضحة نظرياً.نستطيع استنادا إلى مطالب الفاعليات ومقترحات القوى المتعددة، استخلاص ثلاثة تصورات حول شكل النظام الجديد: نظام المؤتمر التأسيسي الذي دعا إليه حزب الله، نظام المؤتمر الدولي الذي دعا إليه البطريرك الماروني، ونظام الفيدرالية التي تتم الإشارة إليه تلميحاً لا تصريحاً.

إقرأ ايضاً: وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: النظام اللبناني في أعطابه التأسيسية

 بخصوص نظام المؤتمر التأسيسي الذي دعا إليه حزب الله، صحيح أن الحزب لم يصرح أو يقترح شكل نظام محدد، لكن منطق خطابه ومجمل الثوابت والأهداف التي يروج لها، والمنطلقات الأيديولوجية التي يقوم عليها، تساعد على رسم ملامح النظام الذي يطمح إليه الحزب. فالمصرح  دليل إلى اللامصرح والمعلن كاشف عن المضمر. قد لا تكون غاية حزب الله تغيير مبادىء توزيع الموارد والصلاحيات بين الطوائف، أي المثالثة أو تدوير المناسب الرئاسية بين الطوائف الكبرى، فهذا محل للمساومة والمفاوضة عنده، مقابل مكاسب واهتمامات أكثر استراتيجية. غاية حزب الله، إنطلاقاً من فائض القوة الذي لديه، والذي يوظفه ويعتمده،  هو ترسيخ مبادئ ومسلمات، تحكم مفهوم الدولة نفسها وحقيقة النظام السياسي، تتناسبان مع تكوينه العسكري ومهامه ونشاطاته العابرة للحدود اللبنانية. 

الحزب لم يصرح أو يقترح شكل نظام محدد لكن منطق خطابه ومجمل الثوابت والأهداف التي يروج لها والمنطلقات الأيديولوجية التي يقوم عليها تساعد على رسم ملامح النظام الذي يطمح إليه

 أمران لن يتنازل عنهما حزب الله، بل لن يساوم عليهما. أولهما سيادته الكاملة على سلاحه، وعدم اندراجه ضمن أي قيد أو رقابة أو مرجعية خارجه.  ثانيهما احتكاره ملف السيادة الخارجية، بخاصة المتعلق بالمواجهة مع إسرائيل، وكامل الترتيبات السياسية والأمنية المتعلقة بالمنطقة المحيطة بلبنان.  هذان الملفان يعبران عن ثنائية متجاورة بين الحزب والدولة، تجعل حزب الله لا شريكاً في اللعبة السياسية، ولا يعود معها لاعباً أو فاعلاً سياسياً مثل باقي الفاعليات، بل هو في وضع الشريك للدولة، يتقاسم معها جزءً أساسياً من مهامها، مثل السلاح والسيادة، وفي وضع النظام الموازي أو المجاور للنظام، بمؤسساته وتراتبيته الداخلية، وبنيته المالية المستقلة جميعها عن النظام اللبناني. هذا الترتيب بات فعلياً وبمثابة الأمر الواقع، يسعى حزب الله إلى أن يصبح شرعياً، أي محل اعتراف وإجماع من الجميع، من خلال صياغة نظام جديد، وتأسيس مبادئ شرعية جديدة، تضمن للحزب إقفال ملف سلاحه، أي وضعه فوق الشك والجدل والاختلاف.  وتحويله إلى ثابتة وبديهة من بديهيات الشرعية الجديدة.

 أمران لن يتنازل عنهما حزب الله بل لن يساوم عليهما أولهما سيادته الكاملة على سلاحه ثانيهما احتكاره ملف السيادة الخارجية بخاصة المتعلق بالمواجهة مع إسرائيل

بالتالي فإن المؤتمر التأسيسي هو للبناء على المتغيرات الموضوعية والفعلية للواقع اللبناني، والانطلاق منها بل استثمارها أساساً للشرعية الجديدة، التي لا يعنيها فلسفة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو سبل النهوض بالضائقة الإقتصادية، بقدر ما تقوم على تحويل موازين القوى، والمجريات الفعلية للواقع الحالي، أرضية لأي انتظام سياسي، ومنطلقاً لأية مشروعية سياسية جديدة.  معطيان أساسيان، يستند إليهما حزب الله في مسعاه لشرعنة الواقع الفعلي.

اولهما فائض القوة الذي يتمتع به، ويتجاوز قدرة وطاقة القوى المنافسة أو المناهضة للحزب، على مواجهته أو تعديله، بل يتجاوز قدرة الدولة اللبنانية نفسها، بمؤسساتها السياسية وأجهزتها الأمنية، على استيعابه أو ضبطه أو حتى الحد من تضخمه.  ثانيهما قدرة الحزب على احتكار التمثيل السياسي الشيعي، وبناء ملازمة بين مشروعه وخيارات الطائفة الشيعية.  أي حيازته على العمق المجتمعي المطلوب لدعم مشروعه وأهدافه، الذي يجعل مطلب الحزب ليس مجرد تصريحات سياسية وتطلعات حزبية، بل تعبير عن تموضع طائفة بأكملها، الأمر الذي يحول مطلب حزب الله من مطلب سياسي، ليكون جزءً من العقد الاجتماعي الذي يتأسس عليه، أيّ انتظام سياسي وتقوم عليه أيّة رابطة وتضامن اجتماعيين. بالمقابل، هنالك عطبان خطيران في فكرة المؤتمر التأسيسي:أولهما أن ما يسعى إليه حزب الله، يناقض مفهوم الدولة وحقيقتها.  فالدولة وفق الفهم الحديث، وهو فهم قائم على مبادىء عقلية كليّة، ولا يقتصر على ثقافة خاصة، هي صاحبة السيادة المطلقة غير القابلة للتقسيم أو المشاركة أو الانتزاع، وتمتلك الحقّ الحصريّ في الإكراه المشروع.  بالتالي تملك الدولة سلطة مطلقة ومرجعية نهائية، على جميع مكونات المجتمع ومؤسساته وتكويناته، في كل ما يتعلق بإدارة الشأن العام.  هذا التناقض لا يزيد الدولة إلا تفككاً وانهياراً.  فإذا كانت الدولة عاجزة عن ممارسة كامل سيادتها، فإن مشاركتها السيادة، أو السلاح مع مكون اجتماعي جزئي لا يحل المشكلة، ولن يؤسس لانتظام جديد، بل هو علامة على اعتراف الدولة بما ينفيها، وإقرارها بما يتسبب بتشظيها  ودفعها باتجاه موتها المحتوم. 

فكرة النظام البديل لم تتبلور بوضوح عند جميع القوى إلا أن الممارسات والتصريحات تشي بمسعى ورغبة لتأسيس قواعد توزيع جديد ومبادىء انتظام مختلف، عن المعمول بهما حالياً

 ثانيهما، إن منطلقات المؤتمر التأسيسي، تتضمن مبدأ الغلبة للمكونات الإجتماعية الأخرى في لبنان. بحكم أنه ينقض مبدأ المساواة والشراكة المنصفة بين اللبنانيين، ويعطي أرجحية ويدّ عليا لمكون على باقي المكونات.  فحصر السلاح بيد مكون طائفي خاص، واحتكاره جزء من مهام الدولة، لا يؤسس لشراكة فعلية، ولا يُولد شرعية حقيقية، ولا يمكنه انتزاع إعتراف وإقرار طوعيين من باقي اللبنانيين بالواقع القائم. هذان العطبان يقوضا أي رغبة، ويبطلا أي مسعى لتأسيس شرعية سياسية، انطلاقاً من ترتيبات واقعية وميزان قوى فعليين، بحكم افتقادهما (أي المسعى والرغبة) شرطين أساسيين في معقولية واستمرار أي نظام سياسي: أولهما المستلزمات المنطقية لبنية النظام والضرورات العقلية لمفهوم الدولة، وثانيهما الشرعية السياسية القائمة على الإجماع الوطني العام.  مع غياب هذين الشرطين، بل استحالة توفرهما،  فإن فكرة المؤتمر التأسيسي ليست سوى كسب للوقت، وإطالة للمسببات العميقة للأزمة اللبنانية، ومسعى لتأبيد واقع تفرضه معطيات فائض القوة, لا المستلزمات المجتمعية والمقتضيات المنطقية للمشروعية السياسية. ماذا عن مقترحي المؤتمر الدولي والفيدرالية؟  للكلام صلة.

السابق
7 أطعمة ومشروبات مُرّة لكنها مفيدة للجهاز الهضمي.. تعرّفوا عليها!
التالي
فاقد الحرية.. لا يعطيها!