قراءة في كتاب «التأصيل العقدي للعنف الديني في الإسلام» للسيد جواد الخوئي

الدكتور باقر الكباسي

عن سلسلة دراسات فكرية تنشرها جامعة الكوفة- كرسي اليونسكو- صدر كتاب (التأصيل العقدي للعنف الديني في الإسلام ) لسماحة السيد جواد الخوئي بطبعته الأولى سنة 2020م بالقطع المتوسط وبـ439 صفحة, وهو في الأصل أطروحة دكتوراه في تخصص العقيدة والفلسفة نوقشت في جامعة العلوم الإسلامية العالمية في المملكة الأردنية الهاشمية سنة 2017م ,وأرى أن الموضوع مهم جدا سبر أغواره السيد جواد الخوئي وما اشتغاله بهذا الموضوع الا دليل على تفكير حداثي معاصر في قضية شغلت تفكيره منذ مدة من الزمن, إذ أراد من خلاله تحديث الفكر الديني بتحرير النص الديني المؤسس من إسلام التاريخ, وهو يؤمن بأن هذا التحديث ضرب من الحرية, ذلك أنه يمنح الإنسان والنص خلاصاً من تلك السجون, إنه ضوء يبوح بتحيين النص عبر قراءة تدمجه برهانات العصر وأسئلته بعد أن لبث طويلاً لا يقرؤه كثيرون إلا في الظلام, يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه المهم (الدين والظمأ الانطولوجي) :(الدين مثل ما يحكي لنا ما ينبغي أن ننشده في هذا العالم, يهتم أيضا برسم صورة ممتدة رحبة للحياة, تمديد الحياة وتخليدها, وإشباع توق البشر للتكامل والأبدية) ص15, ومن منطلق أن الدين الإسلامي دين المحبة لا دين القتال ولادين البغض دين الإنفتاح لادين الإنغلاق والتحجر, دين الإعتدال لا دين التطرف والغلو, جاء كتاب السيد جواد الخوئي بعد التقديم للكاردينال لويس ساكو والمقدمة التي قال فيها مؤلف الكتاب : (وبعده , فلقد شاءت الإرادة الإلهية أن يكون الناس مختلفين, ولا شك في أن ظاهرة العنف الديني والتشدد ومحاولة تبريره ليست قاصرة على بعض المسلمين, بل أنها موجودة كذلك لدى بعض أتباع الأديان السماوية والوضعية الأخرى, وصدق الله إذ يقول في حق طائفة من البشر بعدت قلوبهم عن الرحمة : (‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) البقرة 74, وطبيعة الإنسان أن لا يكف عن التفكير والتفكير مقتضى ذاته , وكما أنه من طبيعته تتابع الأفكار أيضا, وطبيعة التفكير هذه تختلف من شخص لآخر, لأنه إذا تغايرت الذوات تغايرت الصفات والإرادات والملكات, وفي الشخص الواحد والجماعة الواحدة والأمة الواحدة, فالإختلاف في الآراء والأفكار والمذاهب والمعتقدات والملل والنحل والأديان أمر ظاهر مسلم الثبوت بين بني البشر, وكذلك نجد بين الناس مثل هذا الإختلاف في المذاهب السياسية والآراء الإقتصادية والأساليب التجارية والعادات وطرق المعيشة ونحو ذلك, ويدفع الناس الى هذه الإختلافات وينميها فيهم ويقويها عوامل كثيرة من البيئة والوراثة والموقع الجغرافي والإختلاف الزمني ونوع الثقافة والحضارة.

الإختلاف في الآراء والأفكار والمذاهب والمعتقدات والملل والنحل والأديان أمر ظاهر مسلم الثبوت بين بني البشر

وينتقل مؤلف الكتاب إلى نقاط مهمة في بحثه وهي مشكلة البحث و سبب اختيار البحث إذ توقفت عند قول المؤلف: (شيء بدهي أن يكون من أبرز النقاط لإختيار البحث هو ما تعانيه الأمة الإسلامية و نراه على أرض الواقع من تيارات متشددة ترتكب أفظع الجرائم وأبشعها تحت ستار الإسلام , زاعمين أن عندهم مبررات مجيزة لما يفعلون, وأن لأفعالهم أصولاً في الإسلام ,من هنا أردت من خلال أطروحتي بيان المسائل التي وقع فيها التشدد وما ترتب عليها من ظواهر العنف ,عارضاً دعاوى التأصيل المزعومة مبينا تفنيدها مع ذكر الإتجاه الوسطي الإسلامي في كل مسألة من المسائل المطروحة في البحث),ص20 ومن ثم ينتقل السيد الخوئي إلى أسئلة البحث و أهمية الموضوع , وفي المدخل يتحدث عن المصطلحات وهي مهمة يقوم بها المؤلف لتوضيح المصطلحات الواردة في كتابه, فيبدأ بمفهوم كلمة تأصيل ويعرفها لغة وإصطلاحاً وفي الإصطلاح يقول : (لقد وضح بيان أن التأصيل مرده إلى كلمة الأصل, إذن ما الأصل إصطلاحاً؟ في الإجابة عن هذا أقول: ذكر صاحب التعريفات أن الأصل في الشرع “عبارة عما يبنى عليه غيره ولا يبنى على غيره”, ويلاحظ الوثاقة بين هذا والمعنى اللغوي , والزركشي بعد أن تكلم في المعنى اللغوي لكلمة الأصل ذكر تعريفاً من الممكن أن يعتد به بقوة في المفهوم الإصطلاحي قال فيه: (الأصل كل ماثبت دليلاً في إيجاب حكم من الأحكام).

إقرأ ايضاً: هنيبعل القذافي يعلن إضرابه عن الطعام «القضاء يدخل في دهاليز السياسية»!

وهذا يساوي تماما أن الأصل هو الدليل ص24, وينتقل الى المصطلح الآخر وهو مفهوم كلمة عقدي ويوضحها لغة واصطلاحا أيضاً وفي الإصطلاح يقول: (إن كلمة العقيدة (علماً) مرادفة لعلم التوحيد وعلم أصول الدين وعلم الكلام وعلم الفقه الأكبر) ص 26 , ومن ثم ينتقل الى المصطلح الثالث وهو كلمة عنف ففي اللغة : ( يقول صاحب اللسان : (( العنف : الخرق بالأمر وقلة الرفق به, وهو ضد الرفق, عنف به وعليه عنفاً وعنافة, وأعنفه وعنفه تعنيفاً, وهو عنيف اذا لم يكن رفيقاً في أمره, واعتنف الأمر: أخذه بعنف وفي الحديث ((إن الله تعالى يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف )).

يمكن تعريف العنف مطلقاً بأنه: فكر يتبعه سلوك متشدد يتولد عن اعتداء معنوي أو حسي أو هما معا

وهو بالضم الشدة والمشقة وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله) ص27- 28, وإصطلاحا يقول مؤلف الكتاب : (لقد طفت في كثير من المصادر والمراجع, فلم أجد تعريفاً اصطلاحياً يشفي الغليل ويحقق المراد, وكانت السمة الغالبة على المعنفات الحديثة هي إعطاء فكرة عن العنف من دون بيان محدد لمعالم المفهوم يمكن أن يكون إصطلاحياً, ولكن الجامع بين الكل هو أن: العنف سلوك متشدد وهذا الإجماع جعلني أجتهد لأضع تعريفاً للعنف سواء أكان دينياً أم غيره, فأقول يمكن تعريف العنف مطلقاً بأنه: فكر يتبعه سلوك متشدد يتولد عن اعتداء معنوي أو حسي أو هما معا, ويمكن في ضوء هذا تعريف العنف الديني بأنه: فكر يتبعه سلوك متشدد يتولد عنه اعتداء معنوي أو حسي أوهما معا ناتج عن الفهم الخاطئ للنصوص الدينية) ص29-30, وفي هذا المضمون نؤكد أن الاله واحد, وهو الاله الحقيقي المنزوع السلاح ,لأن الله محبة والمحبة لا تجتمع مع العنف في قارب واحد, الله هو الخير والسلام والتسامح واللاعنف, الله هو الذي خلقة الإنسان ودوداً, عاقلا, مسالماً, وحيثما وجد الإنسان وجد الله ووجدت المحبة, وحيثما وجدت الطيبة حضر الله, وهدف جميع الأديان نشر الحب والرحمة والسلام, وليس العنف والغلظة والانتقام والقمع والإرهاب والحروب, ثم ينتقل الى النظرة في تاريخ العنف ويأتي بأدلة من القرآن الكريم حوله.

كتاب السيد جواد الخوئي

وفي الفصل الأول من دراسته المكونة من أربعة فصول يتحدث السيد جواد الخوئي عن (عقيدة الجهاد وقتال المخالفين في الإسلام) وهو من مبحثين الأول: الإتجاه الوسطي في عقيدة الجهاد وقتال المخالفين قائلاً في التمهيد لهذا البحث : (كل من يطالع التاريخ البشري وتجارب الأمم والشعوب يجد أن الإنسان فرداً ومجتمعاً يدافع عن نفسه كلما هددته الأخطار, ويقدم نفسه وأمواله في سبيل دفع الظلم عنه وعن قومه وعشيرته بشتى أنواعه، فحق الدفاع عن النفس وما يملك أمر فطري لا يختلف عليه اثنان، ولذلك نجد أن القرآن الكريم والسنة المطهرة قد حثا كثيراً على الجهاد في سبيل الدفاع عن النفس والحرمات والمقدسات، و أمر الله تعالى المسلمين في الإستعداد للدفاع عن دينهم وقيمهم وكيانهم) ص٣٧ ، وفي الإتجاه الوسطي في فهم عقيدة الجهاد يشرح مؤلف الكتاب مفهوم الوسطية لغة و اصطلاحاً : فيقول:(الوسطية واحدة من أهم خصائص الدين الإسلامي، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في آيات عدة، ووسطية الأمة الإسلامية مستمدة من وسطية تعاليمها، فهي تعاليم توافق الطابع الإنساني السوي والفطرة البشرية في الإعتدال والتوازن, فلا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا تقصير) ص38, ومن ثم يذهب الى توضيح الوسطية لغة واصطلاحاً فيقول في الإصطلاح: (فاتضح أن المعنى الإصطلاحي للوسطية ومدركاته العقلية تحكم بأنه أفضل الطرق هي الوسطى وتعني الإعتدال وعدم الخروج عن الحد الطبيعي أي الوسط ) ص42,ومن ثم يأتي الى تطور مفهوم الجهاد في عصر النبي وأهدافه ويقف عند مفهوم الجهاد لغة واصطلاحاً وما المراد منه في القرآن الكريم والسنة الشريفة  وينتقل مؤلف الكتاب الى مراحل تطورالجهاد في عصرالنبي ص ويقسمه على أربعة أقسام: المرحلة الاولى : مرحلة الجهاد في العصر المكي والثانية مرحلة الجهاد في الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة والثالثة شرح فيها مرحلة العصر المدني بعد هجرة النبي ص وأتباعه إلى المدينة و تشكيل المجتمع الإسلامي و النواة الأولى للروابط القوية بين المسلمين, ويأتي إلى المرحلة الرابعة إذ أمر الله رسوله ص والمؤمنين بقتال الكفار كافة, ليكون الدين كله لله, ولتفتح الأبواب لكــل من رغب في الإسلام , ودليل ذلك الآية 36من سورة البقرة, ويقول السيد جواد الخوئي في أهداف الجهاد : (‏الجهاد في الإسلام له أهداف وغايات سامية, منها ما يتعلق بالدين وتعاليمه ورفــع مــوانع نشره, ومنها مــا يتعلق بالمحافظة على المجتمع والدفاع عنه وعن استقلاله وكرامته ومنافعه وقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة و الغاية من الجهاد في سورة الأنفال الآية 39) ص 52- 53, ويقول أيضاً: (كما لا حظت أن أهداف الجهاد في القرآن الكريم وضحتها الآيات القرآنية والسنة الشريفة بشكل جلي وتلك الأهداف منطقية وعقلانية وشرعية في الوقت نفسه) ص53, ومن ثم يسرد هذه الأهداف, والهدف الأول: نيل رضى الله تعالى والثاني: الجهاد من أجل إطفاء الفتن ونشر الحرية, أما الهدف الثالث فكان حفظ الدين والدفاع عنه , وجاء الى إحقاق الحق وهو الرابع وأخيراً إزالة الظلم والعدوان , ولأن مؤلف الكتاب يملك وعياً دينياً تنويرياً استطاع أن يشرح حكم الجهاد وحكمته وضوابطه شرحاً مفصلاً لا غبار عليه يفهمه القارئ المتخصص وغير المتخصص, ومن ثم ينتقل الى أنواع الجهاد فيضع الجهاد بالنفس في المرتبة الأولى والسامية وهي بذل النفس دفاعاً عن الإسلام, ‏وهو أعلى مراتب التضحية والجهاد, والجهاد بالمال هو النوع الثاني و الجهاد باللسان النوع الثالث وجهاد النفس كان الرابع من الأنواع يقول فيه: (إنّ أصعب امتحان كتبه الله تعالى على الإنسان في هذه الحياة هو ابتلاء الإنسان بنفسه, وعلى أساس نجاح الإنسان وتفوقه في هذا الإمتحان يحدد مصيره ومستقبله الأخروي, ومن هو كانت المعركة مع النفس أشق و أخطر معركة يخوضها الإنسان في حياته, وهي معركة حتمية لا خيار لأحد فيها ولا يستثنى أحد منها حتى الأنبياء و الأوصياء و الأولياء, وهي  معركة  دائمة تمتد لطول عمر الإنسان لهذا جعلها النبي (ص) حقيقة الجهاد) ص 74, وخامس الأنواع الجهاد السياسي والجهاد الإعلامي جعله سادس الأنواع و فيهما حديث ممتع بأسلوب شيق اعتاد عليه مؤلف الكتاب , وعن العلماء والفقهاء ينقل مؤلف الكتاب الإتجاه الوسطي في قتال المخالفين ,  والمخالفون هنا نوعان مسلمون وغير مسلمين ويثبت آراء العلماء والفقهاء ويعلّق عليها بنظرته الواعية لهذه القضية.

وفي المبحث الثاني وعنوانه ( الإتجاهات المتشددة في فهم عقيدة الجهاد وقتال المخالفين) ويقسمه على مطلبين يدرس فيهما مؤلف الكتاب مواضيع هامة تخص ظاهرة العنف والتشدد وأسباب ذلك مع الإختلافات التاريخية بين المسلمين والجهل والتقليد الأعمى وعدم قبول النصح والمشورة والحوار مع الآخر , و أرى أن هذه الفقرة مهمة جداً خاض بها السيد جواد شرحاً مميزاً يدل على إطلاعه الواسع لحيثيات الموضوع, فيقول: (أيضاً مما ساهم في ظهور التشدد والعنف الديني هو عدم قبول نصائح العلماء الحقيقيين وتجاهل النقد والحوار البنّاء, فالإنسان في حياته الإيمانية والفكرية بحاجة إلى مشورة العلماء قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “من استبد برأيهِ هَلَكَ ومن شاوَرَ الَّرجال شاركها في عقولها”, ولهذا تعد المشورة سجية  العقلاء والحكماء, ولا غنى لأي إنسان للمشورة وقبول النصح, وهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وأهل بيته والعلماء من بعدهم, فقد كانوا يحرصون على المشورة لتعليم الناس والتأسي بسيرتهم العطرة) ص 103, ويضيف السيد جواد أيضاً في الموضوع نفسه: (كذلك من أسباب هذا التشدد هو عدم إعطاء أهمية للحوار البنّاء الذي يعتمد البحث العلمي منهجاً للوصول إلى الحق, وتحريك العقول واستنارتها, وهذه العلة هي التي أسهمت في انتشار ظاهرة التحجر العقلي والتشدد في مجتمعاتنا  الإسلامية) ص104.

أمّا الفصل الثاني (أسس التفكير في الإسلام) فقد قسمه مؤلف الكتاب على مبحثين: درس في الأول الإتجاه الوسطي في تكفير المخالفين في الإسلام فيقول في التمهيد إِليه: (أرى من الضروري في بداية البحث التأكيد على أنّ التكفير حكم شرعي ثابت بالنص والإجماع , لا يصح إنكاره أو التقليل من شأنه, وهو أصل شرعي تترتب عليه أحكام كثيرة في الدنيا و الآخرة, وإذا كان الأمر كذلك فإنّه يجب الإهتمام بشكل خاص لحساسيته المفرطة وأهميته وتبعاته الشرعية من هدر النفس والمال وغيرها, وكما أن الحقائق الشرعية الأخرى قد يقع فيها الخطأ و الإنحراف عند كثير من الباحثين, بل و العلماء والفقهاء, فكذلك قضية التكفير قد يحصل فيها فهم  خاطئ وباطل ومتطرف ينتهي بها المطاف إلى تكفير شريحة واسعة وعريضة من المسلمين و إخراجهم من الملّة) ص 135, ويوضح بعد ذلك التكفير لغة وإصطلاحاً ومن ثم ينتقل إلى أقسام الكفر, وتاريخ التكفير في الإسلام و يدرسه حسب التسلسل التاريخي إذ يرجع هذا التاريخ إلى ما بعد الرسول الكريم حتى القرن الماضي, ‏ويأتي إلى مفهوم المخالفة و مَن يجب تكفيره من أهل القبلة فيوضح مفهوم المخالفة لغة واصطلاحاً ومن ثم يشرح موقف المذاهب في من يجب تكفيره من المخالفين من أهل القبلة, فيعطيه إهتماماً بالغاً في إختلاف الفقهاء والعلماء من المذاهب الإسلامية فيمن يجب تكفيره و إخراجه من الدين والملّة وما يترتب على ذلك من أحكام شرعية ترتبط بالنفس والمال وغيرها, ويستعرض موقف أهل السنّة من تكفير المخالف ويستشهد بأقوال علمائهم منهم أبو الحسن الأشعري وإبن حزم والآمدي وتقي الدين السبكي و التفتازاني وابن تميمة والمحقق كمال الدين الحنفي والطحاوي, بعدها ينتقل إلى موقف الإمامية من التكفير ويستشهد أيضاً بعلمائهم منهم الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء والشيخ المفيد, وفي المبحث الثاني يدرس سيد جواد الخوئي الإتجاهات المتشددة في مسألة تكفير المخالفين في الإسلام, ويعرض في المطلب الأول من هذا المبحث ظاهرة التشدد والعنف في تكفير المخالفين في الإسلام فيقول: (لو أردنا عرض ظاهرة التشدد و العنف في تكفير المخالفين في الإسلام فمن الضروري الإشارة إلى المعايير الواضحة للإيمان والكفر في القرآن الكريم والسنّة الشريفة, فهي لم تفوض في إبتداع معايير من بعض المتطفلين على العلم و الفقاهة لتكفير من يشاؤون, وإنما يتبع كون الرجل مؤمناً أو كافراً تلك المعايير التي وردت في الكتاب والسنة, وأدعياء العلم والإجتهاد يكفرون أمة كبيرة من المسلمين بلا دليل ولا برهان وأنما يتبعون الهوى, فالتكفير حكم شرعي لا يقال فيه بالرأي والهوى إنما مرده إلى الله ورسوله) ص 183, وفي المطلب الثاني يدرس المؤلف دعاوى تأصيل ظاهرة التشدد والعنف في تكفير المخالفين في الإسلام وهي مجموعة دعاوى يحاول المتشددون الإستدلال على آرائهم وعقائدهم لتأصيل أفكارهم المنحرفة في تكفيرالمخالفين لهم.

أما الفصل الثالث من الكتاب فكان بعنوان (عقيدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام), وفيه مبحثان الأول الإتجاه الوسطي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام, والثاني: الإتجاهات المتشددة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام, وفيه يعرض السيد جواد الخوئي ظاهرة العنف الديني في تاريخ الإسلام القديم والحديث وفي موضوع المطلب الأول, يقول فيه: (من خلال مطالعة دقيقة لظاهرة العنف الديني في تاريخ الإسلام القديم والحديث يمكن القول أن جميع الذين مارسوا التطرف والعنف بإسم الإسلام في الماضي والحاضر, قد فعلوا ذلك تحت شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وقد أشرت أيضا إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكم شرعي ومبدأ إسلامي لا اختلاف في أصله بين كل المذاهب الإسلامية بل والأديان السماوية, ولكن حملوه ما لا يحتمل, فخرجوا به عن نطاقه ومقصده, ورفعوه في وجه كل من لم يخرج معهم, فالمعروف عندهم هو رأيهم والمنكر هو رأي مخالفيهم) ص278, ويضيف مؤلف الكتاب قائلاً: (وللأسف ما نشاهده اليوم من انحراف سلوكي عن فهم خاطئ لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف وظهور العنف الديني في أشكاله وصوره المختلفة, فتكونت حركات مسلمة ذات أهداف ومعتقدات التي تراها في سبيل نشر أفكارها, وعشعش في عقول من لم يكن لهم خط وافر من العلم الشرعي والمعرفة, أو في عقول من استطاع المنحرفون اقتناصهم والتغرير بهم وغسل أدمغتهم حتى غدوا أداة في يد أولئك المتطرفين المنحرفين يوجهونهم  كيفما شاؤوا) ص282.

   ‏وفي فقرة أخرى يتحدث عما المؤلف تعيشه بلادنا الإسلامية هذه الأيام قائلاً: (وما نعيشه اليوم في بلادنا الإسلامية من تنامي ظاهرة العنف الديني وظهور تنظيمات إرهابية متطرفة تدعي زوراً وبهتاناً إنتماءها إلى الإسلام وهي تمارس شتى أنواع القتل والتعذيب الوحشي بحق أبناء الوطن والدين الواحد, يمثل أعلى درجات الجهل والفساد)ص283, ويوجد مطلبان آخران يدرس فيهما المؤلف دعاوى التأصيل  في القرآن الكريم والسنة الشريفة و آراء العلماء والتي يقف عليها السيد جواد معلقاً عليها تعليق العارف الواعي لمختلف الآراء, والمطلب الثالث تفنيد دعاوى التأصيل وفيه ما يراه مؤلف الكتاب من تفنيد تلك الدعاوى وغيرها مما استدل به المتشددون من القرآن الكريم والسنة الشريفة و آراء العلماء, وفي نهاية المبحث يقول المؤلف: (وأخالف بشدة السلوكيات البشعة لجماعات العنف في حمل السلاح والخروج على الحكام بالقوة, بدعوى أن هذا واجب ديني وفريضة شرعية وتطبيقاً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والآثار المخربة والسيئة على استقرار المجتمع الإسلامي وسلامة الأرواح والأموال والأعراض, وفتح أبواب فتن وفتوق يصعب رتقها, إن لم نقل باستحالتها) ص315 .

وفي الفصل الرابع والأخير يدرس المؤلف (عقيدة الخلافة في الفكر الإسلامي) بثلاثة مباحث, ففي الأول يشرح الخلافة بالمنظور الوسطي الإسلامي, والتي أثارت بسببها خلافات ونزاعات وحروب كثيرة على طول تاريخ الأمة الإسلامية, هي نظام الحكم في الشريعة الإسلامية الذي يقوم على استخلاف قائد على الدولة الإسلامية ليحكمها بالشريعة الإسلامية, وسميت بالخلافة, ‏لأن الخليفة هو من يخلف النبي (ص)  في الإسلام لتولي قيادة الدولة الإسلامية, وعليه فإن غاية الخلافة هي تطبيق أحكام الإسلام وتنفيذها) ص 319, وللفصل الرابع هذا ثلاثة مباحث, في الأول: يشرح مفهوم الخلافة وعلاقتها بالإمامة, فيبدأ بالخلافة لغة ومن ثم اصطلاحاً, ففي الإصطلاح يعرفها ويقول: (ومنهم من قال في تعريفها أن كلمة خليفة ليست إصطلاحا اصطلح عليه المسلمون بعد رسول الله (ص) كما ذكر بعضهم, وقد ورد هذا المصطلح في الشرع للدلالة على من  يتبوأ منصب القيادة والرئاسة في النظام السياسي في الإسلام, فهو إسم لمتولى أمر الدولة الإسلامية لكونه يخلف النبي (ص) في أمته, ولهذا قال بعضهم في تعريفها: هو الإمام القائم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا) ص321–322, ينتقل بعدها مؤلف الكتاب إلى شرح الخلافة في القرآن وعلاقة الخلافة بالإمامة وحكم الخلافة وشروطها فيدرس حكم الخلافة عند السنّة ومن ثم عند الشيعة الإمامية موضحاً بأسلوب وسطي سلس هذه القضية المهمة, وفي المبحث الثاني يأتي إلى الاتجاهات المتشددة في عقيدة الخلافة في الفكر الإسلامي قائلاً: (وكنت أود عدم الخوض في بعض التفاصيل والمصاديق العملية لهذا الفكر المنحرف, ولكن ما حصل في بلدي العراق من فجائع وأهوال ومأس يشيب لها الرضيع دفعتني إلى الحديث عن الفكر المنحرف والممارسات البشعة التي باشرتها ما يسمى بجند الخلافة على منهج النبوة تحت إمرة قائدهم وخلفيتهم أبو بكر البغدادي, هذه الخلافة التي قطعت من بعض أوصال العراق مدناً لإقامة الخلافة المزعومة إرتكبت أبشع الجرائم وأقسى ما يمكن أن نتصوره من عنف دموي, وفي أغلب الأحيان يكون الضحية فيه هو الإنسان المسلم الذي يُتهم بالكفر أو الردة) ص364.

      ويستمر السيد جواد الخوئي في شرح وجوب إقامة الخلافة و جواز استعمال جميع الوسائل لإقامة الخلافة ومن ثم تنفيذ دعاوى التأصيل بعدها ينتقل إلى المبحث الثالث وهو التشدد في وجوب خليفة واحد للأمة كلها, فيعرض لهذه الظاهرة وتأصيلها ومن ثم تنفيذ دعاوى التأصيل أيضاً, وفي الخاتمة كتب المؤلف نقطتين أولهما نتائج البحث ولخصها  بعشر نقاط منها: (إنّ مسألة التكفير من المسائل الخطيرة التي ابتليت فيها الأمة الإسلامية, بل هي من أخطر البدع التي ظهرت, فكانت عاملاً مؤثراً في تأكيد الفرقة والإختلاف بين المسلمين, ومن خلال إلقاء التهم, فأعانت على إيجاد العداوة بينهم, بل والإقتتال وتكفيرهم بعضهم لبعض باسم الإسلام ومنهج السلف الصالح, والأفكار التكفيرية, بل هي منتشرة في كثير من الجماعات والمذاهب الدينية المعاصرة التي مازالت تتبنى المنهج والفكر التكفيري, وأن ممارستها اليوم أكثر وأشد عنفاً في منطقتنا العربية الإسلامية, وهذا ما يدمي القلوب ويؤلم الأنفس) ص403, وفي النقطة الثانية كانت ثلاث توصيات يؤكد فيها السيد الخوئي بضرورة تنبيه الأمة على أن المنهج الإسلامي هو الوسطية.

        كتاب سماحة السيد جواد الخوئي كتاب مهم في ظروف تعيش فيها الأمة الفرقة والإختلاف, فيأتي هذا الكتاب بفكر وسطي يحمله مؤلفه و منذ سنين يعمل عليه ويتوق أن يرى مجتمعاً مزدهراً يحمل صفات التسامح والسلام والتعايش السلمي .

السابق
هنيبعل القذافي يعلن إضرابه عن الطعام «القضاء يدخل في دهاليز السياسية»!
التالي
قراءة في منجز عبد الجبار الرفاعي الفكري