حملات المماليك على كسروان رسمت التوزّع الطائفي في لبنان

غلاف كتاب

تُعتبر “حملات كسروان” التي شنها المماليك بين العامين ١٢٩٢ و١٣٠٥ من أهم الأحداث التي رسمت لاحقاً التوزّع الطائفي في لبنان. فبعد انتهاء الحملة الثالثة والأخيرة بخراب كسروان وإجلاء الكسروانيين وإقطاع أراضيهم للأمراء التركمان، انتقل الكسروانيون بتركيبتهم الشيعية المركّبة إلى المجتمعات الشيعية المحلية في جزين وبلادها وفي البقاع وبلاد بعلبك والسفوح الشرقية للجبل المطلة على سهل البقاع، لا إلى مناطق أهل السنة والجماعة. بينما انتقل قسم آخر إلى جهات اللاذقية وأنطاكية واعتصموا في جبالهم. لكن يبدو أن جزين كانت المجتمع المحلي الأكثر جذباً للهجرة القسرية بسبب شيعيتها وتوافر مساحات قابلة للاستثمار فيها.

في هذا الكتاب “حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية”، يعالج الكاتب محمد جمال باروت مسألتين، المسألة الأولى هي محاولة البحث في طريقة تدوين تاريخ الحملات الكسروانية من قِبل المؤرخين اللبنانيين الإخباريين الكلاسيكيين والمعاصرين للحملات، بوصفها حجر زاوية في بناء التاريخ الطائفي المعاصر والحديث ومن ثم “تصور الدولة اللبنانية كما تبنتها التواريخ المارونية والدرزية والشيعية والنصيرية والسنية اللبنانية ثم العلوية، وهي التواريخ التي دار الصراع في ما بينها حول الاستملاك الطائفي لكسروان لخدمة مشروع الدولة اللبنانية على أساس طائفي”. والمسألة الثانية هي فهم والتدقيق في دور العالِم الإسلامي ابن تيمية في الحملات، خاصة الحملة الثالثة والتي إفضت إلى خراب كسروان وتهجير من بقي من أهلها.

اقرأ أيضاً: مُطلق النورسي.. «معلم القرآن» من فلسطين الى طيردبا!

بعيداً عن دور ابن تيمية في الحملات، والتي شكك الكاتب برواية استدعاء المماليك له لشرعنة الحملة أو تبريرها، “فهم لم يطلبوا أي فتوى في حملاتهم، ومنها الحملة الثالثة تلك التي يُنسب، زعما، إلى ابن تيمية الفتوى للمماليك بالقيام بها، بينما أقصى ما يمكن قبوله هو أنه ربما يكون أفتى بها في شكل كتابة أو رسالة إلى تلامذته، وهي على كل حال مفقودة”؛ وينتقد الكاتب المؤرخين الذين كرّسوا معلومة زائفة تفيد بأنّ المماليك قاموا بالحملة وإجلاء السكان ب”فتوى شرعية” هي فتوى ابن تيمية، وهو ما يعبّر عن خطأ شائع حوّله المؤرخون اللبنانيون إلى حقيقة. فالمسألة الأهم هي الجواب عن السؤال التالي: “من هم سكان كسروان وإلى أيّ طائفة ينتمون؟“.

للإجابة عن هذا السؤال المعقّد، ينقل الكاتب إهمال المصادر المارونية اللبنانية المتأخرة – وهي كلها متأخرة نظرًا إلى تاريخ وقوع حملات كسروان – للمدوّنات التاريخية في القرن الرابع عشر المتعلقة بحملات كسروان، والتي يشير بعضها إلى الهوية المذهبية الطائفية لأهل كسروان بينما يغفل بعض آخر ذلك وربما لا يعود هذا إلى جهل بعض المؤرخين – خصوصاً الدويهي – بتلك المصادر، بل لأن المصادر تلك تتباين في تحديد الهوية المذهبية الطائفية للكسروانيين بين النصيرية والدروز لكن أياً منها لا يشير إلى الموارنة، أو إلى وجود ماروني في كسروان في زمن الحملات.

ووفق أحدث الدراسات اللبنانية عن التركيبة المذهبية لكسروان إبان الحملات، سجل نائل أبو شقرا أنّ مؤرخا واحدًا فقط – من بين خمسة عشر مؤرحًا أحصاهم ممّن كتب عن حملات كسروان – يقول إن أهل كسروان كانوا موارنة. هذا المؤرخ – كما حدده أبو شقرا – هو تادرس، مطران حماة.

ينتقد الكاتب باروت معظم المدونات التي تستند إلى “يقظة الذات المذهبية”، “في مرحلة ما يمكن تسميته بيقظة الذات الشيعية، ظهرت دراسة محمد على مكي التي خلصت إلى أن حملات كسروان لم تكن قد استهدفت غير الشيعة، بينما كانت الدراسات المعاصرة السابقة، قبل اكتشاف رسالة ابن تيمية تركز على أن حملات كسروان استهدفت الموارنة والدروز، أما الذات الثانية التي استيقظت فهي الذات الدرزية، وأنهض ذلك كتابات تاريخية درزية، تعتمد الأسلوب العلمي بطريقة تحترم المعايير الأكاديمية، تمثل أبرزها في تاريخ مكارم الذي حمل عنوان لبنان في عهد الأمراء التنوخيين، فكان تاريخ التنوخيين بوابة عودته التخيلية المعاصرة إلى تاريخ كسروان التنوخي الدرزي. وتتضح في بعض فقرات كتاب مكارم، حين يناقش الحملات الكسروانية، ردّة فعله على ما كتبه مكي من أن كسروان كانت أرضًا شيعية بأنها أرض درزية تنوخية. نعم، كان فيها شيعة ودروز، لكن الشيعة والدروز كانوا تنوخيين وهكذا، نفى مكارم الموارنة عن كسروان”.

ينقل الكاتب رأي الأب البلجيكي اليسوعي هنري لامنس (١٨٦٢ – ١٩٣٧) عن هوية الكسروانيين، وفيه أن كسروان ليست من المقاطعات التي آوى إليها الموارنة قبل القرن الخامس عشر وإن سأل القارئ: ومن كان يسكن إذن كسروان قبل هذا العهد؟ أجبنا أن معظم أهل هذه الناحية كانوا من المتاولة أو النصيريين. وكان النصيريون قاطنين أيضًا في بعض جهات لبنان الشمالية كجهات البترون، ونواحي المنيطرة والعاقورة. ويستنتج لامنس أن الموارنة بدأوا منذ أوائل القرن الخامس عشر يتجاوزون نهر إبراهيم ويصعدون إلى كسروان وكان انتشارهم فيها سريعًا حتى صارت هذه المقاطعة في القرن السابع عشر كلها لهم وامتد الموارنة، إثر ذلك، إلى مقاطعتي المتن والشوف.

وانتقد الكاتب تأريخ يوسف الدبس الذي حاول من خلال مدوناته تأمين “التحالف الطائفي الماروني الدرزي في أساس تاريخ الجبل الذي تمثّلت عقدته الجغرافية التاريخية المذهبية في كسروان”. وحسب الكاتب باروت فإن يوسف الدبس تميز باستناده إلى التواريخ المارونية اللبنانية المتأخرة غير الموثوقة علميًا، ومنها زجليات ابن القلاعي، لما فيها من “خيالية” ومفارقات ومغالطات في إعادة بناء سردية الحملات الكسروانية. بينما لا تذكر المدونات التاريخية الإسلامية في القرن الرابع عشر أن الحملات الكسروانية استهدفت المسيحيين، وليس هناك من شبهة في عدم ذكرها لذلك، بل السبب في عدم ذكر أنها لم تحدث.

أما الرواية التي انتقدها باروت بشكل لاذع هي رواية تدمري السنية. بحسب رأي الكاتب فإنه يتضح تدخل تمثلات تدمري المعاصرة في إعادة ترتيب الحبكة السردية التاريخية التي أنتجها بنفسه في تاريخ ١٩٧٨ ل “إرضاء الشيعة الإمامية في لبنان ومجلسهم الشيعي الأعلى، بتأكيده أن من استهدفتهم حملة المماليك السنة لم يكونوا الشيعة الإمامية بل النصيرية، فيجهد تدمري ١٩٨١ في البرهان المضطرب جدا، أو التلفيقي، على أن السنّة (المماليك السنة) لم يستهدفوا الشيعة الإمامية بل النصيرية، وأن لا مشكلات بين السنة والإمامية تتعدى حدود المشكلات الفقهية الفرعية بعكس الطائفة النصيرية التي تختلف مع الشيعة الإمامية اختلافا أساسيا في العقيدة. وهكذا يتلاعب تدمري بالتاريخ إرضاء لتسويات سياسية بين المؤرخ والطوائف (أبان الحرب الأهلية التي تتطلب مواجهة المارونية السياسية)، ويجهد في تقديم هذا التلاعب إلى الأجيال اللبنانية على أنه التاريخ الصحيح.

الكتاب مهم جداً، وطرح الكاتب مميز، وتاريخ لبنان يحتاج إلى مثل هذه الدراسات المبنية على مفهوم الإيستوريوغرافيا (خطاب المؤرخين) حتى تُثبت حيادية تامة بعيدة عن التعصب الطائفي والمذهبي في التأريخ.

السابق
جنبلاط يستقيل.. ومؤتمر انتخابي للتقدمي في 25 حزيران
التالي
فيديو مرعب في صور.. مطاردة ومحاولة إغتيال على مسمع الاجهزة اللبنانية!