حازم صاغية: «المجد لكاتم الصوت» بوصفه طريقة حكم وحياة

حازم صاغية

استذكر الصحافي حازم صاغية جريمة اغتيال الصحافي لقمان سليم في منشور عبر “فايسبوك” قائلا :

“قبيل اغتيال الكاتب والناشط لقمان سليم، أُلصقت على جدران منزله شعارات يقول أحدها: “المجد لكاتم الصوت”.

والعبارة لا تخلو من غرابة. ذاك أنّ الجمع غير مألوف بين العظَمة المفترَضة التي تُسبَغ على “المجد” عادةً وما يوصف به كاتم الصوت. فـ”المجد” صوته هادر ومُدوٍّ يصعب كتمانه، فيما مظهره ساطع يستحيل حجبه عن الأعين، وهو بالطبع ممّا يتباهى به صانعوه، أو مدّعو صنعه، فلا يخجلون من نسبته إليهم أو نسبة ذواتهم إليه. أمّا كاتم الصوت فيُخِلّ بقيم كما بأعراف كثيرة، في عدادها ربطه الدارج بالجبن والاغتياب (الذي هو ابن عمّ لغويّ أصغر للاغتيال)، ووصمه الشائع بالخسّة والوضاعة والإجرام ممّا يلازم كلّ ذكر له أو تذكير به.

فوق هذا، كثيراً ما تُدرَج المهمّة التي يُناط تنفيذها بأداة كاتمة للصوت، والتي لا ينجزها أحد بعينه، في أفعال “التاريخ” و”الجماهير”، فيما يكون ضحيّة كاتم الصوت، في غالب الأحيان، فرداً يكرهه أولئك الناطقون بلسان التاريخ أو الشعب فيرسمونه مكروهاً منهما. ثمّ إنّ الصوت من أهمّ الوسائل التي توفّر لصاحبه حضوره في الفضاء العامّ، كما تعزّز ذاك الحضور. ولهذا يقال أنّ لفلان صوتاً بينما سواه لا صوت له، أو أنّ الخيار السياسيّ الأدقّ إنّما ينجم عن أصوات تمارس عمليّة التصويت. أمّا كتم الصوت طوعيّاً فلا يعلن إلاّ تواضعاً وتعفّفاً زائفين لا يُعرف كاتمه، ممثّل التاريخ والجماهير المزعوم، إلاّ بعكسه.

فبأكثر من معنى إذاً تبدو عبارة “المجد لكاتم الصوت” تناقضاً داخل الكلام ذاته، أو ما يُسمّى بالانكليزيّة oxymoron، كأنْ نقول مثلاً “ثلج ساخن”، أو “مجرم إنسانيّ”، أو ذاك التعبير الذي أتحفَنا به مؤخّراً القاموس الكوفيديّ: “تباعد اجتماعيّ”. وهذا إنّما يرقى إلى انقلاب في اللغة وعليها، أو إلى “كلام جديد” من صنف أورويليّ ما. ولربّما كانت “الديمقراطيّة الشعبيّة” التي سادت أوروبا الشرقيّة والوسطى بين نهاية الحرب العالميّة الثانية ونهاية الحرب الباردة، من ألمع المساهمات التي يُعتدّ بها في تاريخ هذا الانقلاب المتواصل على اللغة.
لكنْ لماذا ينشأ ذاك التنصّل الذي يقدم عليه من ينفّذ أعمالاً مجيدة وتاريخيّة وجماهيريّة، وربّما إلهيّة، بعد أن يتوسّل لتنفيذها أدواتٍ بلا صوت؟.

لقد عرف تاريخ لبنان الحديث ما لا حصر له من الخصومات السياسيّة، لكنّ إميل إدّه لم يلجأ إلى اغتيال بشارة الخوري، ولا لجأ الخوري إلى اغتيال إدّه، والأمر نفسه يصحّ في فؤاد شهاب وكميل شمعون، وفي صائب سلام ورشيد كرامي، أو في كميل شمعون وكمال جنبلاط.

أمّا الاغتيالات السياسيّة القليلة التي حصلت في أزمنة السلم، كاغتيال محمّد العبّود في 1953 وعبد الله عسيران في 1972، فكانت ثارات عائليّة وعشائريّة لا تترك أثراً يُذكر على أحوال السلطة في المركز وعلى الصراع عليها أو تعديل توازناتها. بيد أنّ اغتيال القوميّين السوريّين رياض الصلح في 1951، واغتيال الأجهزة الناصريّة كامل مروّة في 1966، وهما عملان تأسيسيّان في الاغتيالات السياسيّة لأزمنة السلم، فيشيان بأنّ التقليد هذا وليد مصدرين تجمع بينهما أنساب كثيرة: التنظيمات شبه العسكريّة التي تزدري الديمقراطيّة والسياسة والقانون، والأنظمة الأمنيّة والعسكريّة العربيّة التي تشاركها ازدراءها ذاك.

ولأنّ “الحاجة أمّ الاختراع”، طوّر هذا النمط من الأنظمة والتنظيمات مبدأ القتل المصحوب بتجهيل الفاعل، مع ما ينطوي عليه التجهيل من رغبة في تعليق التاريخ وحجز المعنى وجعل السرّيّة تدير العالم وترسم وجهته. والحال أنّ من سمات السلوك هذا صدور خلفيّته الأبعد عن أعمال العصابات وجماعات الغزو والنهب الطافرة، ووفادة خلفيّته الأقرب من نزوع توتاليتاريّ يناهض السياسة والديمقراطيّة والشفافيّة القانون.

أمّا الحال مع السلطة “الرسميّة”، شريطة ألاّ تكون من صنف أمنيّ وعسكريّ، فتختلف. فهي حين تُعدِم، وكلّ إعدام عمل جائر، فإنّها لا تتكتّم عن صنيعها أي أنّها لا تغتال، سيّما وأنّها تسبّق القتل بمحاكمة قد تكون صوريّة وقد لا تكون. فمن أنطون سعادة في 1949 إلى ابراهيم طرّاف في 1983، نعرف كلّنا من هو القاتل بحيث تُخلي الأحاجي الطريق الموصلة إلى الوضوح. وهذا ما لا يصحّ في أعمال القتل التي استهدفت رياض الصلح وكامل مروّة وحسين مروّة ومهدي عامل ورفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجبران تويني وبيار الجميّل ومحمّد شطح وسواهم، حيث تغدو المطالبة بالتحقيق فيها جلاءً للحقيقة مسألةً صراعيّة مُلحّة. والشيء نفسه يمكن قوله في ضحايا غير إنسانيّين، وإن قضى بنتيجتها بشر أبرياء، كتفجير مرفأ بيروت، أو قبلذاك حرائق الرايخستاغ والقاهرة وسينما ركس في عبادان. فهي كلّها أحداث تتوافر فيها شروط الجريمة من دون مجرم أو عناصر القتل ذي المصدر المُجهَّل.

بديهيٌّ أنّ الاغتيال، في الغالبيّة العظمى من حالاته، تمارسه أطراف ناقمة لا ترى في السياسة وسيلة مُستحبّة لتعبيرها عن نقمتها. إلاّ أنّ تجربة اللبنانيّين تقترح، إلى ذاك الصنف “الكلاسيكيّ”، سبباً آخر مفاده أنّ الذين يمسكون بشطر من السلطة ومن صنع القرار لا يودّون الظهور بهذا المظهر. فالحكم، في بلد كبلدنا، يخالف ما تعرفه بلدان استولت الديكتاتوريّة أو التوتاليتاريّة عليها ولم تمنعها من ذلك انشقاقات مجتمعاتها الدينيّة أو المذهبيّة أو سواها. والراهن أنّ طول المسافة بين امتلاك القوّة الفعليّة وحجب مظهر القوّة هو ما يسهم في تفسير كثرة الاغتيالات في لبنان، إمّا بكاتم الصوت أو بالتفجيرات على أنواعها، أو أنّ هذا، على الأقلّ، يصحّ في ما شهده العام 2005، حين سجّل القتل المموّه ارتفاعاً نوعيّاً. فاللبنانيّون، بالتالي، وبهذا المعنى، غدوا محكومين بأن ينضمّوا إلى شعوب قليلة تعيش سلطة نهاريّة وسلطة ليليّة، ما ينطوي على وضاعة بنيويّة، إن صحّ التعبير، تلازم كلّ من يختبيء في النهار متهرّباً ممّا فعله في الليل.

وفي الأحوال جميعاً، يستحيل اشتغال المنظّمات والأنظمة، الديكتاتوريّة والتوتاليتاريّة، من دون الكذب الشامل الذي يكاد يرقى إلى ديانة تتعدّى عمليّات القتل.

ذاك أنّ بيئة الاغتيال هي البيئة التي يولد فيها “أهالٍ”، لا يعرف أحدٌ مَن هم، يعتدون على القوّات الدوليّة، أو تنطلق منها صواريخ نادراً ما يقول مُطلقها أنّه مُطلقها، أو يظهر من يحمل جوازات سفر مزوّرة، أو من توفّر له أنظمة أمنيّة جوازات ديبلوماسيّة كي يهرّب السلاح أو المخدّرات. وقد تكتسب ديانة الكذب هذه القدرة التي للأديان، كأنْ يُرَدّ إلى “الأحداث”، وهي بالطبع “مؤلمة” و”مؤسفة”، كما يقول “الحياديّون” و”الموضوعيّون”، مقتل مئات آلاف السوريّين وتهجير ملايينهم. ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنّ أخلاق أجهزة المخابرات وسلوكها هي مصدر استيحاء بيئة الكذب والتجهيل هذه، إذ العمل في المخابرات أكثر المهن تقيّداً بالغفليّة، لا ينافسها على امتيازها إلاّ نسيبها ممثّلاً في الأسماء السرّيّة أو “الحركيّة” التي تعتمدها الأحزاب غير الديمقراطيّة. وفي حالة التنظيمات التي تمكّنت من الاستحواذ على السلطة وصارت هي نفسها أنظمة، توفّر تجربة الاسم الحركيّ خبرة مفيدة تؤهّل صاحبها العمل في المخابرات.

والحقّ أنّ الاسم كالوجه ليس تفصيلاً هنا. ذاك أنّ ارتكاب جريمة يستدعي، بطبيعة الحال، كتم الاسم تماماً مثلما يستدعي تقنيعَ الوجه، فيما تذليل مشكلة ما أو إجراء مصالحة بين متخاصمين يستدعيان مَن هو حريص على اسمه وعلى “ماء وجهه”، فإذا نجح في مسعاه ذاع اسمه وانتشرت صوره في الصحف ووسائل الإعلام.

وهناك على هذا الكذب، الحديث والمُديّن في آن معاً، أمثلة تأسيسيّة لا حصر لها صنعها كبار أساتذة النهج هذا. فمثلاً، بعد شهر على ما عُرف بالانقلاب للاستيلاء الكامل على السلطة التشيكوسلوفاكيّة، رُمي وزير الخارجيّة جان ماساريك من نافذة الوزارة وقيل أنّه انتحر. فالتخلّص من ماساريك، السياسيّ الشعبيّ وغير الشيوعيّ الذي قاوم الاحتلال النازيّ، والذي هو أيضاً نجل توماس ماساريك، مؤسّس دولة تشيكوسلوفاكيا وأوّل رؤسائها، كان شرطاً لاستقرار حكم الحزب الواحد ولشرعيّته لكنّه، للأسباب ذاتها، كان يتطلّب الكتمان والتنصّل.

وسبق لتشيكوسلوفاكيا نفسها أن شكّلت مسرحاً لمَثَلٍ أفدح وأشدّ مأسويّة. حصل ذلك حين قرّر النازيّون غزوها متذرّعين باضطهاد تتعرّض له الأقلّيّة الألمانيّة في السودِتنلاند الحدوديّة. وهم ذهبوا بعيداً جدّاً، فاختاروا بعض مساجين المعسكرات وألبسوهم بزّات الجيش الألمانيّ ثمّ صفّوهم على الحدود، متّهمين التشيكوسلوفاكيّين “الطامعين بألمانيا” بقتل جنود ألمان.

أمّا تلامذة هذا النهج عندنا فأكاذيبهم سريعاً ما تُفتضح تبعاً لتلميذيّتهم الكسولة. هكذا مثلاً، وهو المَثَل الذي صار كليشيهاً عن حرب 67، كانت القاهرة الناصريّة تعلن إسقاط الطائرات الإسرائيليّة بالعشرات في اللحظة التي تُدمّر فيها الطائرات المصريّة على أرض مطاراتها وتُحتَلّ الأراضي السوريّة والفلسطينيّة، فضلاً عن المصريّة.
وما من شكّ في أنّ الأنظمة والتنظيمات الديمقراطيّة تكذب هي الأخرى، غير أنّها ليست مؤسّسة بنيويّاً على الكذب كما حال الأنظمة والتنظيمات غير الديمقراطيّة.

يعود هذا إلى أنّ ما تفعله الأخيرة يفتقر، بادىء بدء، إلى الشرعيّة التي تفتقر هي نفسها إليها. فالأنظمة لم تصل إلى السلطة بالانتخاب، والتنظيمات غالباً ما تدعو إلى التغيير بالعنف، من غير أن تتقيّد بالديمقراطيّة في حياتها الداخليّة. وإلى هذا، فإنّها تتوسّل الحالة الشعبيّة في لحظات الأزمة العامّة وتتذرّع بها، فإذا استحوذت على السلطة وأسّست نفسها في أنظمة، أنهت السياسة وأنهت معها كلّ عمل شعبيّ، منظَّماً كان أم غير منظّم. وفي هذه الغضون فإنّها، أنظمةً وتنظيمات، تسبغ على نفسها شرعيّة أخرى تستمدّ منها مهمّاتها المفترضة (إنشاء وحدة عربيّة أو إسلاميّة، تحرير فلسطين، إقامة الجنّة الاشتراكيّة على الأرض)، إلاّ أنّ استحالة تحقيق تلك المهمّات، وهي تعرف أنّها مستحيلة، ومعها الخوف من مصارحة الشعوب بذلك يجعلان الكذب استراتيجيّة لا مهرب منها.

فوق هذا، تفتقر الأنظمة والتنظيمات المذكورة إلى سائر أنواع القيم، القديم منها والجديد. فالنوع الأوّل خادم لمصالح تناوىء الشعب وهو رجعيّ سليل زمن بائد أو جاهليّةٍ ما، والنوع الثاني هو ممّا صنعه الغرب الإمبرياليّ والمستكبِر أو الاستشراق أو باقي شياطين الحداثة. بيد أنّ افتقارها إلى القيم لا يعني استعدادها للدخول في مواجهة رأسيّة وصريحة مع تلك القيم. فهي، في مكان عميق من نفسها، تدرك أنّها أوهن من أن تخوض مواجهة كهذه، تماماً كما تدرك أنّ قيمها الحزبيّة والسلكيّة لن تصير قيم المجتمع أو تيّاره العريض، وهذا سبب وجيه لشعور صاحبه بالوضاعة. فالمواطن يعرف، بالتجربة الحيّة وبذكاء حدسيّ، أنّ ما يُبشَّر به مصطنع وكاذب، فضلاً عن قيامه على حساب حياته أو حرّيّاته. أمّا اضطراره للتواطوء أو للتظاهر بالعكس، لأسباب يتصدّرها الخوف، فلا يعني تصديقه لها وإقراره بها، على ما يشي بذلك، وهذا مَثَل من أمثلة كثيرة، انهيار القيم الشيوعيّة بعد سقوط بلدان الكتلة الشرقيّة.

هكذا نجد تلك الأنظمة والتنظيمات تقدّم، في المنعطفات الكبرى، تنازلات للقيم التي يُفترض أنّها ثارت عليها، بالقديم منها والجديد، مستفيدةً من خبرة تواريخها الحزبيّة التي درّجت “مراعاة الجماهير” والظهور بمظهر يُرضيها. فمن غزَل ميشيل عفلق بـ”الرسول العربيّ”، إلى مواظبة عبد الخالق محجوب على صلاة الجمعة، إلى مطالبة “المناضل” بأن يلبس ويتحدّث على نحو يشبه لبس “الجماهير” ويقلّد نطقها، تشكّلَ تراكم أوّليّ مُعتبر من الكذب الذي يفيد أصحابه حين يستولون على السلطة.

والحال أنّ الأوضاع الحربيّة والتعبويّة مواسم يتضاعف فيها الكذب حتّى في البلدان الديمقراطيّة، فكيف في أنظمة وتنظيمات مؤسّسة أصلاً على الكذب، ومنشدّة إلى إرساء السياسة والاجتماع على تخوم الحرب والتعبئة.

ولسوف يكون مفتوحاً على مصراعيه دائماً طريق الهبوط من ذروة الملحميّة اللفظيّة إلى أشكال كيتشيّة أو رثّة. فمن النِكات السوداء الكثيرة للحرب الأهليّة في لبنان أنّ قائد إحدى الميليشيات تمكّن من إقناع مموِّلِه معمّر القذّافي بأنّه يقاتل في “بلاد السوديكو” لتحريرها. هكذا نسج “المناضل” اللبنانيّ تعبيره على منوال “بلاد الزولو”، التي تقارب مساحتها الـ15 ألف كيلومتر مربّع، كي يصف قطعة من بيروت تقلّ مساحتها عن كيلومتر مربّع واحد.

وفي اجتماع هذه العناصر وسط العجز عن تناولها النقديّ في الفضاء العامّ، وخصوصاً في ظلّ انشطار “المجتمع المدنيّ” و”الرأي العامّ” المفترضين “مجتمعاتٍ مدنيّةً” و”آراءً عامّةً” عددها يكاد يناهز عدد الطوائف والمذاهب والجماعات، يغدو القتل “عاديّاً”، بحسب التعبير الذي استخدمه وضّاح شرارة. هكذا لا يفقد الاغتيال استثنائيّتَه فحسب، بل تُخمَد كلّ رغبة في وقفه وكلّ عزم على منعه. وفي نهاية المطاف تنجح ديانة الكذب والتجهيل في إنفاذ عقيدتها وجعلها “طريقة حياة” تزوّر العالم أو تعيد خلقه مُزوّراً، فتحجز لنفسها، بفعلها هذا، موقعاً في النجاح والتوطّد سبق أن أحرزته ديانات كثيرة. وقد يكفي القول إنّ أربابها قادرون على القتل ساعة يشاؤون، وقادرون على النفي كلّما قتلوا.

ولأنّ ما أنجزه الشرّ على هذه الدرجة من الضخامة والرسوخ والتأصّل، فضلاً عن الاطمئنان إلى نجاحه، يلوح مبدأ التصدّي لـ”الإفلات من العقاب”، والذي ترفعه في بلداننا جماعات أخلاقيّة وحقوقيّة محترمة وحسنة النوايا، أقرب إلى جهد تقنيّ لا تمنحه تقنيّتُه البريئة أيّة حصانة حيال مسلسلات اليأس والإحباط المتواليين. فإعمال القتل، لا بأفراد فحسب بل بشعوب أيضاً، لم يعد “أحداثاً”، بل صار أشبه بطبيعة ثانية ترزح على صدر الطبيعيّ أو ما يُفترض أنّه كذلك.

وهذا إنّما يُعدم كلّ مشترك بين الطرفين ويُعدم كلّ وهم حول جدوى “الحوار”. فإذا اختلف مساجلان عقلانيّان تبقى هناك اتّفاقات كثيرة مقيمة في خلافهما: لنتخيّل مثلاً أنّ (أ) أراد وضع فنجان القهوة على الجهة اليمنى من الطاولة فيما أراد (ب) وضعه على الجهة اليسرى، ففي خلاف كهذا تتأكّد اتّفاقات أربعة على الأقلّ: أنّ الفنجان فنجان، وأنّ الطاولة طاولة، وأنّ الفنجان يوضع على الطاولة، وأنّ البشر (ممثَّلين هنا بـ أ وب) هم الذين يضعونه على الطاولة. لكنْ إذا اعتبر أحد هذين الشخصين أنّ الفنجان دجاجة أو كيس، فعندها تنتفي كلّيّاً إمكانيّة الحوار، بل إمكانيّة التواصل بالكلام.

واليوم، لا نبالغ إذا وصفنا الفوارق بين السكّان المقيمين على ضفّتي طريقة الحياة المذكورة بالفوارق الأنطولوجيّة، إذ هي، وقد كرّستها عقود متطاولة، لم تعد تقلّ عن الفوارق التي تفصل بين الكائنات في تعدّد أنواعها وأجناسها. ذاك أنّنا، في المشرق العربيّ، بِتنا قاتلين ومقتولين، ومهجِّرين ومهجَّرين، ومجهولين ومعلومين، وسارقين ومسروقين، ومكذوب عليهم وكاذبين. وفي أحسن أحوالنا نتبدّى مثل مخطوفي الحروب الأهليّة أو سجناء الزنازين الذين لا يعيدهم خاطفوهم وسجّانوهم لكنّهم يبقون، في الوثائق الرسميّة، مواطنين كاملي الحقوق المواطنيّة.

أمّا بالعودة إلى كاتم الصوت الذي أودى بلقمان سليم، يبقى أنّ الذين يكتمون أسماءهم، بعد تنفيذهم أعمالاً “مجيدة”، يموتون مجرّدين من الاسم ومن الصوت ومن الوجه ممّا يحظى به لقمان”.

السابق
«إبتسم أيها الجنرال».. العربي!
التالي
بعدسة «جنوبية»: كركلا تعود بعد عشر سنوات بعروض مسرحية «فينيقيا» على مسرح «إيفوار»