وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: قرار تأخير التوقيت.. آثاره لن تزول

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

لا يتوقف أصحاب القرار والقادة في لبنان، عن إتحافنا بالمفاجآت المفجعة والصادمة، والتي كان آخرها تأخير العمل بالدوام الصيفي، لما بعد شهر رمضان. المأساة هنا، ليست في التأخير نفسه، فهذا يندرج ضمن سيادة الدولة، وتقديرها المصلحة التي تخدم جميع اللبنانيين، إنما في قرار التأخير نفسه، سواء أكان في طريقته وتوقيته وآليته، أم صورته الكاريكاتورية أم مسوغاته وأسبابه. 

 ما حصل أكبر من مجرد سوء تقدير أو ارتجال، أو مسألة صلاحيات دستورية،  أو قضية توازن طائفي. هو فضيحة لكبار صناع القرار، هو حدث صغير وجزئي، لكنه يكشف عن حقيقة بنيوية، لواقع لبنان الحالي ذات مفاعيل وآثار كارثية، تدفعك إلى السؤال الوجودي العميق، الذي يصل إلى معنى وجدوى: أن تنتمي إلى وطن تتفجر تناقضاته عند أقل اختلاف، وأن تنتظم داخل دولة لم يبق منها إلا اسمها وهياكلها الفارغة، وأن يمتلك أشخاص يقررون عنك، بخفة ومزاجية واستشلاق وحتى سطحية.

الهوية الجامعة ما تزال واجهة هشة لتضامنات بدائية يفترض أن يقتصر حضورها على مدونات التاريخ التي وثقت أنماط علاقة تنتمي إلى الماضي السحيق.

قرار تأخير العمل بالتوقيت الصيفي والعودة عنه، إضافة إلى ردود الأفعال عليه، تكشف عن التشكل الكاذب القائم في لبنان، بين عناوين وأسماء نتداولها وندعيها لأنفسنا من جهة، وبين حقائق ومضامين وذهنيات وثقافات، تناقض هذه العناوين والأسماء في معانيها ودلالتها من جهة أخرى. فما نسميه مجتمعاً لبنانياً، ما يزال في حقيقته جماعات (communities)، أساس الرابط فيها العلاقات العضوية البدئية لا المدنية، وما نسميه دولة، هو اتحاد طوائف ذات بنى قبلية، أقرب أن يكون مجلس عشائري واسع لعدة قبائل، وما نسميه ديمقراطية، هو عرس بيعة وإعلان ولاء للأب الكبير، الذي ما يزال حاجة وضرورة مجتمعية، تجعل التدبير السياسي يتخذ نمط العلاقة الأبوية، التي يحصر فيها الأب كل شؤون التدبير بشخصه، وتضع الناس بطواعية مصائرها وأحلامها بين يديه. 

 في النظرية السياسية، لم تظهر الدولة بالمعنى الحديث، إلا حين أخذ نشاط السلطة السياسية يتمايز عن باقي النشاطات الإجتماعية، ويتخذ وظيفة مختلفة وخصائص جديدة. هي خصائص لم تُحسِّن كفاءة السلطة وأدائها فحسب، بل أحدثت تحولات عميقة، في نوع الحياة الإنسانية ومستويات عيشها.

فما نسميه مجتمعاً لبنانياً ما يزال في حقيقته جماعات (communities) أساس الرابط فيها العلاقات العضوية البدئية لا المدنية وما نسميه دولة هو اتحاد طوائف ذات بنى قبلية

هي خصائص يختصرها ماكس فيبر في تعريفه للدولة بأنها: “مشروع سياسي ذو طابع مؤسساتي”. وهو الطابع الذي يُحدِث فصلاً، بين الشخص الطبيعي للحاكم والتصور المجرد للقوة العامة، ما يجعل الحاكم أجهزة من أجهزة الدولة وليس هو الدولة، ويؤمن استمرارية، حيث لا يضيرها تعاقب الأشخاص الطبيعيين القابلين لأن يجسدوها وقتياً، أي يذهب الحاكم وتبقى الدولة. بالتالي لا يعود الحكم السياسي امتيازا شخصياً لفرد أو عائلة، ولا يعود بإمكان المتنفذ أن يأخذ من الموارد العامة، كما لو كان يأخذ من جيبه الخاص، ولا يعود القانون أو القرار استنسابياً أو تعسفياً، ومن ملحقات رغبات المسؤول المتنفذ وتقديراته الذاتية، أي لا يعود قانوناً أو قراراً عاماً، لمجرد أن الحاكم أو المسؤول يريده ويستحسنه.  

الهاجس كان الحق الطائفي الخاص لا الانتهاك والتعدي الذي على مصلحة الدولة الخوف من هيمنة طرف على طرف آخر لا الخوف على نهاية الدولة وتفكك الرابطة الاجتماعية الجامعة

أذكر هذا لأظهر المسافة بين مقتضيات مأسسة وعقلنة الدولة، وبين الشخصانية المتضخمة والذاتية المفرطة، في اتخاذ القرار وتسيير شؤون المجتمع والدولة في لبنان. صحيح أن مجلس الوزراء تراجع عن القرار المرتجل، لكن آثاره بقيت، سواء أكان في إظهار الذهنية، التي تقرر فيها القضايا العمومية، أو على مستوى الاصطفاف والتحريض الطائفيين، الذين تسبب بهما هذا القرار. فردود الأفعال عليه لم تكن بمستوى ذهنية أصحاب دولة أو الشعور بالإنتماء إلى وطن واحد. صلب الاعتراض أنه تَعَدٍ من قبل ممثلي طائفة أو دين، على صلاحية أو حق طائفة أو دين آخر. فالهاجس كان الحق الطائفي الخاص، لا الانتهاك والتعدي الذي على مصلحة الدولة، الخوف من هيمنة طرف على طرف آخر، لا الخوف على نهاية الدولة وتفكك الرابطة الاجتماعية الجامعة. ما يشي بأن مؤسسات الدولة ما تزال ساحة صراع لا مرجعية لإدارة الاختلاف والحد من الصراعات، وأن الهوية الجامعة ما تزال واجهة هشة لتضامنات بدائية، يفترض أن يقتصر حضورها على مدونات التاريخ، التي وثقت أنماط علاقة تنتمي إلى الماضي السحيق.

تراجع المسؤولون عن قرارهم لكن آثاره السلبية على الجميع باقية ولن تزول بسهولة

الأذى الذي لحق بفكرة الصوم فادحة، حين زج بالصوم، داخل لعبة مناكفات شخصية وسياسية وسلطوية وطائفية. فلا تأخير التوقيت الصيفي ولا تبكيره يُريحان الصائم أو يخففان عنه، فالصوم مرتبط بشروق الشمس وغروبها، أي مرتبط بمجرى الكون والطبيعة لا التقدير البشري، وهو أيضاً حقيقة ارتقاء وترفُّع لا مناسبة تحدٍّ وإثبات وجود.

تراجع المسؤولون عن قرارهم، لكن آثاره السلبية على الجميع باقية ولن تزول بسهولة.

السابق
اليكم سعر دولار السوق السوداء مساء اليوم
التالي
اليكم إصابات ووفيات كورونا الجديدة في لبنان