تاريخ النهضة في جبل عامل (17): محمد شرارة.. شيخ عاملي اعتنق الماركسية ولم يبارح بغداد!

محمد شرارة
سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين، نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام، في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا، الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر "جنوبية" على حلقات، ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما، في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.

لا شك ان التراث الديني الشيعي، بما يحويه من علوم فقهية عقلية تقليدية، شكل القاعدة الاساسية التي انطلقت منها نهضة جبل عامل الحديثة مطلع القرن العشرين، خصوصا ان التعليم الحوزوي، كان يولي الأدب العربي نثرا وشعرا أهمية كبرى في منهاجه الدراسي، حتى ان غالبية مراجع الشيعة العامليين كانوا أيضا من كبار الأدباء والشعراء.

اقرأ أيضاً: تاريخ النهضة في جبل عامل (15): المدّ الشيوعي من حوزات النجف الى جنوب لبنان!

ولا يشذ عن ذلك ما تم عرضه من سيرة المفكر الراحل حسين مروة الذي بدأ دراسته الحوزوية وكوكبة من رفاقه في النجف، واعتمروا عماماتهم ثم نزعوها متجهين نحو مبادىء فكرية عصرية، فقد كانت ركيزة ثقافتهم الاولى دينية، وكذلك كان حال رفاق دربه ومنهم محمد شرارة، ابن مدينة بنت جبيل في جنوب لبنان، الذي آثر اعتناق الماركسية ايضا في النجف، وفضل البقاء في العراق ناشرا أدبه وشعره في انديتها وعلى صفحات جرائدها ومجلاتها.

سيرة محمد علي شرارة

هو الشاعر والأديب الموهوب محمد شرارة، نجل الشيخ علي شرارة امام مدينة بنت جبيل العاملية وشاعرها المفوه، ولد في عائلة دينية عريقة توارثت حرفة الأدب والشعر سنة 1906 م، تلقى دروسه الأولى في بنت جبيل وأخذ عن والده الأدب ونظم الشعر وهو فتى في الرابعة عشرة من عمره، وفي عام 1920 أرسله والده إلى حوزات النجف في العراق للتفقه بالمذهب الجعفري أسوة بأترابه طلاب العلوم الدينية من اللبنانيين الشيعة، فالتقى برفاقه العامليين الشيخ حسين مروة (عُرضت سيرته في الحلقة السابقة)، والسيدين صدر الدين شرف الدين وهاشم محسن الأمين، وقد جمعهم منذ البداية انسجام طبعي وعقلي كبير، كان له أثر حاسم في انقلاب توجهاتهم الفكرية الدينية، باتجاه مناقض نحو اعتناق الماركسية المادية.

تحول منزله في بغداد إلى صالون أدبي عامر،إذ كان يؤمه أدباء من مختلف المشارب الأدبية والسياسية

في كتابها “محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر” تأليف ابنتهُ الأديبة بلقيس شرارة، تقول ان “والدها أسس مع رفاقه آنفي الذكر ومعهم الشاب العاملي الشيخ علي الزين كما مرّ سابقا في سيرته، أسسوا في النجف مجموعة (الشبيبة العاملية النجفية) أواخر عشرينيات القرن الماضي، والتي كانت تنادي بإصلاح الأنظمة الدراسية الدينية وتحديثها، وقد ترك الجميع الدراسات الدينية في ما بعد عدا الشيخ الزين الذي اعتنق الفكر العروبي الديني, وبقي في دراسته الحوزوية، واتجهوا نحو الأدب والتأريخ والماركسية، فترك شرارة العمامة والمشيخة والتحق في سلك التعليم الثانوي في الناصرية، ومن ثم تجول في عدة محافظات قبل أن يستقر في بغداد العام 1944 بعد حيازته على الجنسية العراقية.

وتحول منزله في بغداد إلى صالون أدبي عامر،إذ كان يؤمه أدباء من مختلف المشارب الأدبية والسياسية منهم: الشعراء الكبار بدر شاكرالسياب، نازك الملائكة، بلند الحيدري، الجواهري، لميعة عباس عمارة، أكرم الوتري، ناجي جواد الساعاتي، عزيز جعفر أبو التمن، كاظم السماوي، اضافة الى اصدقائه اللبنانيين رفاقه في جمعية الشبيبة حسين مروة وهاشم محسن الامين وصدر الدين شرف الدين والشيخ علي الزين، وكان يدور الجدل حول التجديد الديني والتحديث واخر الموضات الثقافية.

نضال واعتقال

بدأ شرارة كتابة المقالات وطرح أفكاره بصراحة وجدية في مجلة “الهاتف” الصادرة في النجف، وصاحب امتيازها جعفر الخليل الذي أسسها عام1935، فكانت مقالاته ثورة على المفاهيم البالية، بسبب خلافاته الفكرية فقد ترك الدراسة في مدارس النجف، وتوجه للتعليم في المدارس الحكومية، حيث بدأ الاطلاع على مختلف التيارات الفكرية والإيديولوجية والعلوم الإنسانية، وقد اصطف معهُ زميلهً حسين مروة الذي رغب في العمل في المدارس الحكومية، و تم تعيينهم في ثانوية الناصرية بتدريس اللغة العربية، و من حسن حظه إن وزير المعارف آنذاك محمد رضا الشبيبي الذي رغب بتعيين خريجي المدارس الدينية في النجف، وقد فضلهم على الأساتذة المصريين، الذين كانوا يشغلون المناصب في وزارة المعارف، ثم التحق بهم عام1936 صدر الدين شرف الدين وهاشم محسن الأمين .

بعدَ اطلاعه على الأدب الواقعي والنظرية الماركسية حيث بدأ بالتفسير المادي للظواهر الاجتماعية والتاريخية، يبحث عن رؤى جديدة لتسخير قدراته خدمة للمفاهيم الإنسانية

بعد انتمائه للحزب الشيوعي العراقي في نهاية الأربعينات من القرن الماضي فقد اتجه مع رفيقهُ حسين مروة إلى التحليل الماركسي في الكتابة وفي أغلب مقالاته.

شارك شرارة في التظاهرات ودعوة الشعب للانتفاضة، وإلغاء المعاهدة مما دعا الحكومة الملكية، إلى إعلان قانون الأحكام العرفية، مما أدى إلى زج الكثير من الوطنيين واستشهاد بعض الطلبة منهم جعفر الجواهري، واعتقال أعداد كبيرة من الحزب الشيوعي العراقي، ثم إعدام قادته في 15 شباط 1949، وقد اعتقل محمد شرارة في كانون الأول 1949، والشاعر محمد مهدي الجواهر وبدر شاكر السياب ومدحت عبد الله وآخرين وتم فصلهم من الوظيفة.

اختار محمد شرارة البقاء في العراق، فعاش مناضلا و”لم يرغب بالمساومة مقابل المبادئ التي حملها

اختار محمد شرارة البقاء في العراق، فعاش مناضلا و”لم يرغب بالمساومة مقابل المبادئ التي حملها، لقد آمن بالحركة التقدمية وهي الهدف الذي وضعهُ نصب عينيه، فقد مرّ في مسالك وعرة مملوءة بالمحن والمصاعب بسبب جرأته في نقد الأوضاع، التي كانت سائدة في العراق على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ودفع بمواقفه الوطنية والمبدئية الثمن باهظاً، وتكبد الكثير من المتاعب، والحرمان والآلام من الاستقرار ودفء الحياة العائلية حتى وافتهُ المنية في بغداد عام 1979.

اقرأ أيضاً: تاريخ النهضة في جبل عامل (16): حسين مروة.. من شيخ عابد الى ماركسي متمرّد

مؤلفاته:

الّف “كتاب المتنبي بين البطولة والاغتراب”، وصدر له كتاب “نظرات في تراثنا القومي”، وهو عبارة عن مجموعة مقالات له جمعت بعد وفاته.

ومن شعره، قال في قصيدة، وهي من شعره عندما كان مدرسا في ثانوية الناصرية:

على وحي الهوى خفقت بنودي وفي نغماته دوى نشيدي

بمدرسة العواطف رف قلبي وبين ضلوعها رفت مهودي

انا الذكرى التي طارت وحامت على الدنيا بأجنحة الخلود

أنا الحب الذي ربط البرايا بأسلاك أشد من الحديد

تهز الكائنات بمن عليها إذا ما استيقظت نغمات عودي

أرق من الهوى لغة وأحلى من النشوى وتمتمة الوليد

سكبت على القلوب ندى رقيقا كأنداء الصباح على الورود

دعوني املأ الدنيا حنانا وأشدو بالنشائد والقصيد

على شفتي جميل طاف لحن شجي عبقري من نشيدي

محمد شرارة
بلقيس شرارة
الكتاب
مدينة بغداد
السابق
بالفيديو: تفاصيل جديدة صادمة عن جريمة قتل الشيخ احمد الرفاعي
التالي
عملية خطف في زحلة.. ومطاردة للجيش توقع اصابات