تاريخ النهضة في جبل عامل (16): حسين مروة.. من شيخ عابد الى ماركسي متمرّد

سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين، نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام، في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا، الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر "جنوبية" على حلقات، ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما، في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.

لم يسعَ هؤلاء الشباب القادمون من جبل عامل لبنان الى النجف في العراق، لدراسة الفقه الشيعي الى الرفعة والشهرة، عندما تحوّلوا واعتنقوا الفكر الماركسي الشيوعي، انما كان هذا الامر شاقا عليهم نفسيا واجتماعيا، كما على ذويهم الذين خاب املهم بإبنائهم المنقلبين على بيئتهم دون سابق انذار، متسببين لهم بحرج اجتماعي شديد.

فالشيوعية بفتوى المرجع السيد محسن الحكيم هي كفر والحاد، في حين ان الشيخين حسين مروة ومحمد شرارة ورفيقهما السيد هاشم محسن، الأمين عادوا الى لبنان دون عمائم يجاهرون بماركسيتهم، رغم فتوى المرجع الشيعي الاعلى، ورغم معارضة عائلاتهم الدينية.

ربطت حسين مروة صلات بأبرز الوطنيين منهم القيادي الشيوعي حسين محمد الشبيبي الذي أعدمه النظام الملكي بالعراق في بغداد سنة 1947

و لعله من المفيد بداية، إستعراض سيرة المفكر حسين مروة وتجربته الأنقى بين رفاقه، التي انتهت بمأساة اغتياله ظلما بأيدي ظلاميي طائفته في بيروت عام 1987، وذلك دون ان البحث بهوية القتلة ولا بأهداف هذا الاغتيال الآثم.

ولد حسين مروّة عام 1910 في قرية حداثا في جنوب لبنان، أرسله والده الشيخ إلى العراق عام 1924 للدراسة الدينية في حوزات النجف، غير انه بدأ بتغيير مساره إثر انفتاحه على معارف وعلوم، خارج منهاج دراسة الفقه الشيعي، منها كتابات إسماعيل مظهر في مجلة العصور والتي كانت معروفة باتجاهاتها المادية، وكتابات شبلي شميل، الذي قدم إلى الفكر العربي نظرية التطور الدارونية، وهو ما سيكون له أثر عميق على تفكير مروة.

بعد 14 سنة من التحصيل العلمي الديني، أنهى مروة دراسته في النجف سنة 1938، لكنه مكث في العراق وعمل مدرسا في الأقسام الثانوية، حيث تميز ككاتب رأي في العديد من الجرائد، كما انخرط في الشأن السياسي العراقي، وربطته صلات بأبرز الوطنيين منهم القيادي الشيوعي حسين محمد الشبيبي، الذي أعدمه النظام الملكي بالعراق في بغداد سنة 1947، وقد كان للشبيبي الدور الأبرز في تعريف حسين مروة على ماركس والاشتراكية، وللمفارقة فان النجف وهي المركز التاريخي للحوزات الدينية الشيعية اصبحت في هذه المرحلة معقلا لقادة الحزب الشيوعي العراقي كما اسلفنا في الحلقة السابقة.

عام 1949 اتخذ القرار بإبعاد حسين مروة من العراق فوراً مع عائلته بسبب نشاطه مع القوى اليسارية التقدمية المعادية للاستعمار البريطاني

وحول تجربة مروة العراقية يقول الدكتور المفكر اليساري العراقي عبد الحسين شعبان: «عرفنا حسين مروة كاتباً ومفكراً عاش في العراق لأكثر من ربع قرن (1924-1949) ودرس العلوم الدينية في الحوزة النجفية لمدة 14 عاما، ثم انتقل إلى بغداد وانخرط في سلك التعليم ومارس الصحافة ، لاسيّما في جريدة الرأي العام التي كان يصدرها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ، وكان مروّة قد تعرّف على عدد من الشخصيات السياسية والفكرية والأدبية في تلك الفترة بينهم سلام عادل (أمين عام الحزب الشيوعي العراقي) الذي استشهد عام 1963، كما تعرّف على الشعراء بدر شاكر السياب وكاظم السماوي ونازك الملائكة والتربوي ناجي يوسف».

“من النجف دخل حياتي ماركس”…

تحت عنوان “من النجف دخل حياتي ماركس” في كتابه “ولدت شيخا وأموت طفلا”، قال:

«رحلت إلى النجف صغيراً، لكن الحُلُم الذي رحل معي كان كبيراً كبيراً.. والمفارقة هنا أن الحلم هذا لم يستطع أن يعيش معي في انلجف طويلاً.. لماذا؟

أن أصير “شيخاً” مهيباً مرموقاً، كوالدي.. لم يستطع الحلم أن يعيش معي في النجف أكثر من عام واحد..

لكن، إذا كنت أجهل حتى الآن ذلك السبب الحقيقي الخفي، فإني أعرف، وما نسيت قط، أن ذاك الحلم الطيب الأليف بدأ ينتابه الضمور والذبول في ذاتي، أي أخذ يفقد – شيئاً فشيئاً – صفته كحلم لي، ليعود أخيراً إلى ما كأنه في البدء: حلم الأسرة والعائلة في جبل عامل، فحسب..

العام الأول لهجرة النجف، ما كاد ينقضي حتى رأيت خاطراً قاهراً صارماً يعترضني يريد أن يحملني على الاختيار الحاسم في مسألة دقيقة للغاية، وهي مسألة تحديد وجهة المصير: مصير حياتي كلياً..

كان عليّ أن أختار: إما قرار العودة إلى الارتباط النهائي بذلك الحلم الذي حملني هو إلى دار الهجرة، النجف: أي أن أقرر – منذ لحظتي تلك – متابعة السير في مسار “المهنة” التي كانت كل مطمح الحلم.. وإما أن أقرر الانعطاف القاطع عن هذا المسار..

لم أتردد مطلقاً.. اخترت فورا.. .. وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم وغابت – توّاً – من حياتي إلى النهاية صورة “الشيخ المهيب المرموق” التي كانت هي نفسها صورتي كما رسمها لي الحلم».

الابعاد الى لبنان

إثر عودة حكومة نوري السعيد إلى الحكم في العراق عام 1949، اتخذ القرار بإبعاد حسين مروة من العراق فوراً مع عائلته الى لبنان، بسبب نشاطه مع القوى اليسارية التقدمية المعادية للاستعمار البريطاني حينها، فنُزعت عنه الجنسية العراقية التي كان قد اكتسبها أثناء مكوثه أكثر من عشرين عاماً في العراق، وقد واصل الكتابة الأدبية في زاويته اليومية «مع القافلة» في جريدة الحياة لمدة سبع سنوات.

انتظم في الحزب الشيوعي اللبناني وقد انتخب عام 1965 عضواً في اللجنة المركزية للحزب

شارك في بيروت بتأسيس اتحاد الكتاب اللبنانيين في العام 1948، وتعرّف إلى فرج الله الحلو امين عام الحزب الشيوعي اللبناني وشاركه مع انطون تابت ومحمد دكروب في تأسيس مجلة الثقافة الوطنية التي رأس تحريرها، كما انتظم في الحزب الشيوعي اللبناني وانضم إلى قوات انصار السلم (تجمعّ الأحزاب الشيوعية العربية لتحرير فلسطين)، وقد انتخب عام 1965 عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني، وبعدها عضواً في المكتب السياسي، كذلك انتخب عضواً في مجلس تحرير مجلة النهج، الصادرة عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، ورأس تحرير مجلة الطريق الثقافية حتى تاريخ اغتياله.

“النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”

كتب حسين مروة مئات المقالات السياسية والفكرية وأردفها بعدد من المؤلفات اغنت المكتبة العربية، غير ان كتابه الشهير “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” الذي صدر في العام 1978، سيبقى علامة فارقة في تاريخه لما أثاره من جدل فكري حاد في أوساط النخبة، كون هذا الكتاب الموسوعي يعتبر من بين أهم الكتب التي تناولت التراث العربي الإسلامي، والفلسفة الإسلامية ، وتضمّن مسحاً تاريخياً لمراحل الإسلام ، حيث انطلق مروة من المنهج المادي الجدلي التاريخي في دراسة وتحليل البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وانعكاساتها في الفكر العربي الاسلامي .

يقول مروة في كتابه “منذ العصر الوسيط الذي صدر عنه تراثنا الفكري بمختلف اشكاله حتى اليوم, ظلت دراسة هذا التراث رهن النظرات والمواقف المثالية والميتافيزيقيه التي تتفق جميعها, بمختلف مذاهبها وتياراتها على خط مشترك تحكمه رؤية احادية الجانب للمنجزات الفكريه في العصر العربي_الاسلامي الوسيط, أي رؤية هذه المنجزات (في استقلاليه مطلقه عن تاريخيتها).

بمعنى ان هذه الرؤيه ظلت قاصره عن كشف العلاقه الواقعيه الموضوعيه غير المباشرة، بين القوانين الداخليه لعملية الانجاز الفكري وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي. ولذا بقي تاريخ الفكر العربي_الاسلامي تاريخا ذاتيا سكونيا أو “تاريخ”, لقطع صلته بجذوره الاجتماعيه, أي بتاريخه الحقيقي الموضوعي.

“ان المنهج المادي التاريخي وحده القادر على كشف تلك العلاقة ورؤية التراث في حركيته التاريخية، واستيعاب قيمه النسبية، وتحديد ما لا يزال يحتفظ منها بضرورة بقائه وحضوره في عصرنا كشاهد على اصالة العلاقة الموضوعية بين العناصر التقدمية والديمقراطية من تراثنا الثقافي، وبين العناصر التقدمية والديمقراطية من ثقافتنا القومية في الحاضر”.

السابق
الدولار يواصل تحليقه.. ويتخطى عتبة الـ 68 الفا!
التالي
جديد التحقيقات في الباخرة «سكاي لايت».. أكاذيب وتواطؤات وتوقيفات!