تاريخ النهضة في جبل عامل (15): المدّ الشيوعي من حوزات النجف الى جنوب لبنان!

مرقد الامام الحسين
سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين، نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام، في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا، الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر "جنوبية" على حلقات، ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما، في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.

جذبت الشعارات الشيوعية الاشتراكية والمساواة ومكافحة الفقر ومقاومة الاستعمار، شعوب البلاد العربية، خصوصا،بعد انتصار ثورة لينين في الاتحاد السوفياتي عام 1917، وتمدد الثورات الاشتراكية نحو كثير من بلدان العالم .

ولم يكن لبنان والعراق خارج تلك المؤثرات، وكذلك جميع البلدان العربية، التي جرى تأسيس الاحزاب الشيوعية الوطنية فيها، في الربع الاول من القرن الفائت.

واذا كانت النجف عاصمة التشيّع في العالم، ومركز حوزاتها الدينية ومقر المرجع الاكبر فيها وزملائه من المراجع العظام، فان ذلك لم يمنعها من التأثر بالمدّ الشيوعي والفكر الماركسي، ما ولّد صراعا فكريا واجتماعيا استمرّ عدة عقود.

معركة اصلاح الحوزة

بدأ الصراع الفكري في النجف بين مجددين ومحافظين من طلبة الحوزات الدينية، وحسب المستشرقة الفرنسية صابرين ميرفان، فقد أوردت في مؤلفها الشهير “الاصلاح الشيعي”، ان بعض العلماء العاملين الشباب، في الربع الاول من القرن الماضي كانوا يتابعون دراستهم في النجف، وكانوا يتأملون في مسائل حول اللغة العربية، ولا سيما حول الأدب بنثره وشعره، وفي سنة 1925 أسسوا جمعية أسموها “الشبيبة العاملية النجفية” (كما اسلفنا في سيرة الشيخ علي الزين وهو كان الناشط الأول فيها)، وكان هدفها تشجيع العلوم وتجديد الأدب، ومحاربة التقليد الأعمى للقديم، وكان هؤلاء الشباب، وقد أطلقوا على أنفسهم إسم “إخوان الصفاء”، تيمناً بجماعة من العلماء من أواخر القرن العاشر الميلادي اشتهروا برسائلهم، ينتمون إلى أسر دينية في جبل عامل.

قادة الحزب الشيوعي في النجف كانوا من العائلات الدينية المعروفة منهم من آل الحكيم وآل الشبيبي

وفي النجف أظهر هؤلاء المشايخ الشباب ابتعادهم عن نظام التعليم، وشرعوا بانتقاد من سبقهم من رجال الدين، وحاولوا الانتساب إلى مراجع أدبية جديدة، ويقول الشيخ علي الزين: “في النجف بدأنا متابعة الصحف المصرية وخصوصاً الهلال التي كان طه حسين من أبرز كتّابها. كذلك كان محمد حسين هيكل يصدر جريدة السياسية. وقد تأثر هو وأصدقاؤه بالكتّاب المصريين من أمثال أحمد أمين والعقاد بالإضافة إلى الإسمين المذكورين، حتى أن أسلوبهم كان يعيق بهم. وقد لاحظ محمد جواد مغنية في ترجمته لمحسن شرارة، أن هذا الأخير لم يكن قد تأثر بالأسلوب العراقي، مع أنه درس في النجف، ولكنه تأثر بالأسلوب المصري، كذلك في الشعر، فإن أحمد شوقي (1868 – 1932) وكان مصرياً، قد بهر الشبيبة العاملية النجفية.

وقد اضطر الشيخ علي الزين ان يعود الى لبنان، فبقي بعده حسين مروة وهاشم الأمين ومحمد شرارة وابن عمه محسن شرارة، ولم يبق منهم على عمامة رجل الدين إلا هذا الأخير، في حين ان مروة والامين وشرارة عادوا الى لبنان، ثم اعتنقوا منتصف القرن الماضي الفكر الماركسي، ومنهم من انتسب الى الحزب الشيوعي اللبناني والسوري، كما سوف يظهر لاحقا عند البحث في سير هؤلاء الادباء المفكرين النهضويين.

وقد قال الفقيه اللبناني الشيخ محمد جواد مغنية في مذكراته عن تلك الفترة، أن بيت الشيخ محسن شرارة في النجف كان يعج برجال الأدب والعلماء، وكانوا يتباحثون في الأدب وينتقدون الكتب والمشايخ، وكانت الآراء تتطاير ويثار الجدل والصياح.

وحسب السيد محسن الامين الذي كان في البداية في النجف قبل ان ينتقل الى دمشق، فإن طلبة العلم مثل الشيخ محسن شرارة وأقرانه كانوا ينتقدون التقاليد، ونتج عن ذلك “حرب بين الشباب والشيوخ”، ولم تكن خلافاتهم مقتصرة على الشكل، بل إنها تعدته إلى المضمون، وذلك لأن الشباب كانوا ينهلون من فكر فلسفي ومن تصور للمجتمع متأثر بالأفكار الحديثة، وقد نشروا قصائد ومقالات في جرائد العراق ومجلاتها مثل اهلاتف لجعفر الخليلي، وكذلك في العرفان. وكان من أعضاء هذه الجماعة ثلاثة شعراء عراقيين هم: عبد الرزاق محي الدين، وصالح الجعفري آل كاشف الغطاء، ومحمد صالح بحر العلوم.

الشيوعية من عائلات دينية

وعن المد اليساري الشيوعي الذي حدث في العراق منتصف القرن الفائت، فقد كان للنجف فيها النصيب الاكبر، ويقول المفكر اليساري العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان:

علماء من جبل عامل

ان قادة الحزب الشيوعي في النجف كانوا من العائلات الدينية المعروفة لا تُذكر الشيوعية في النجف إلاّ وهي مقترنة بثلاثة أسماءٍ كبيرة، أولها؛ سلام عادل (حسين أحمد الرضي) الأمين العام للحزب الشيوعي، الذي استشهد تحت التعذيب في العام 1963 على يد إنقلابيي 8 شباط/فبراير، وثانيها؛ حسين محمد الشبيبي (صارم) عضو المكتب السياسي، الذي أعدم في العام 1949 مع يوسف سلمان (فهد) أمين عام الحزب الذي يعتبر أحد أبرز مؤسسيه والمساهم الأكبر في بنائه، ومحمد زكي بسيم (حازم) عضو المكتب السياسي، وثالثها؛ صاحب جليل الحكيم (جهاد)، والثلاثة ينتسبون إلى عوائل دينية، فوالد سلام عادل درس في الحوزة الدينية، ووالد حسين الشبيبي الشيخ محمد الشبيبي كان قارئاً للمنبر الحسيني وكان منبره تحريضياً تعبوياً عامراً، أما الحكيم فوالده السيد جليل وشقيقه السيد سلمان وعدد غير قليل من آل الحكيم من سدنة الروضة الحيدرية للإمام علي أيضاً.

طلبة العلم مثل الشيخ محسن شرارة وأقرانه كانوا ينتقدون التقاليد ونتج عن ذلك “حرب بين الشباب والشيوخ”

ويلتفت الدكتور شعبان الى تأثير المدّ الشيوعي في النجف على اللبنانيين، وحتى على طلبة العلوم الدينية من عائلات دينية معروفة، قطعوا دراستهم الدينية بعد ان كانوا قد اعتمروا العمائم، وباتوا من أبرز المفكرين اليساريين الشيوعيين، منهم المفكر الدكتورحسين مروة الذي اغتيل في بيروت عام 1987ومحمد شرارة نجل الشيخ علي شرارة، وصدر الدين شرف الدين وهاشم السيد محسن الامين.

و كان رد رجال الدين الشيعة التقليديين على المدّ الشيوعي في العراق، بأن أسسوا جماعة العلماء في نجف، بقيادة المرجع الاكبر السيد محسن الحكيم، وكان أول عمل له أن أصدر فتوى ضد الشيوعية.

السابق
خاص «جنوبية»: «عين» عين التينة على عون و«قلب» حارة حريك مع فرنجية.. هل ينشق «الثنائي» رئاسياً؟!
التالي
«أزهار» جميل ملاعب