رياض سلامة… حاكِمٌ يُمْسِك بـ «دفاتر حساب» حاكِميه في لبنان

رياض سلامة

مع اقترابِ دخولِ الأزمة المالية سنتها الرابعة وسط استمرارِ تَدَحْرُجِ لبنان في قلب الهاوية وبديناميةٍ زادَ من سرعتها عصْفُ الفراغ في رئاسة الجمهورية، يكاد «طوفان» الانهيار، بمسبّباته ومعالجاته، أن ينْحصر بجانب واحدٍ يتمحور حول القطاع المصرفي، بنوكاً ومصرفاً مركزياً.

وبين «ارتيابٍ مشروع» من تركيز المسؤولية عن الانهيار الكبير على القطاع المصرفي منفرداً بما يُخشى معه من تحويله «كبش محرقة» لتبرئة ذمةٍ سياسية لأطراف ومنظومة شكّلت «العرّابَ» لحفْرِ منزلَقٍ رُمي فيه لبنان بعد حرْفه عن الحضن العربي، وبين اعتبار أن لا امكان للمصارف و«المركزي» لنفْض اليد من «دم» الواقع المالي – الاقتصادي، يعلو صوتُ «قرقعة» الملاحقات القضائية لهذا القطاع على «الوجه السياسي» للأزمة اللبنانية وحتى على الفشل المتمادي للسلطات المعنية في انجاز «مثلث» الخروج من القعر على متن خطةِ استعادة التعافي المالي، واعادة هيكلة المصارف وقانون الكابيتال كونترول، التي تشكل ركيزة ابرام الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي والعالقة في شِباك المناكفات الداخلية وربما «الكمائن» السياسية.

اقرأ أيضاً: تأكيداً لما كشفته «جنوبية»: تهيئة أرضية التمديد لحاكم «المركزي»..محلياً وخارجياً!

وعلى وقع استعار المواجهة بين بعض القضاء اللبناني والمصارف التي جرى الادعاء على 2 منها حتى الآن بتهم ترتبط بـ«تبييض الأموال» ما جعلها تتشدّد في موجبات استمرار اضرابها الجزئي المفتوح وسط مضي «الدولار الأسود» في «التهام» الليرة مناطِحاً سعر 82 ألفاً في السوق الموازية، تُستكمل التحقيقات القضائية الأوروبية في قضايا تتصل بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ويتم تداول اسمه أميركياً في تفنيدِ بعض من صلاته مع «حزب الله»، من دون أن يمنع ذلك طرح التجديد له لولاية خامسة، بعدما سبق أن تم التجديد له ثلاث مرات، ليكون أمضى في المصرف المركزي حتى الآن ثلاثين عاماً.

لا يمكن اختصار 3 عقود من «حُكْم» لبنان مالياً في كلمات قليلة، لأن ما سيُكتب عن حاكمية «المركزي» في ظل سلامة يعادل ما يُكتب عن حقبات مصيرية تَنَوَّعً مسارُها. من الحرب الى السلم وما بينهما من معارك وخضات وأزمات وسلامة في «المركزي» مرافقاً 4 رؤساء جمهورية و7 رؤساء حكومة، (وحده رئيس البرلمان نبيه بري يضاهيه في ديمومة موقعه)… شاهِداً على الجمهورية في السِلم والحرب والازدهار والانهيار المالي، ومسؤولاً عن هندسات مالية أوصلت المصارف الى فائض في البحبوحة، واللبنانيين الى الافلاس.

من أفضل حاكم لمصرف مركزي في الشرق الأوسط والعالم وتَسَلُّمه جوائز واشادات عالمية، تحوّل سلامة الشخصيةَ الأكثر جدلية في لبنان، يتّهمه خصومه بأنه أسوأ حاكم مصرف مركزي ومسؤول عن «مخطط بونزي» لبناني أدى الى الانهيار المالي ومطالبين بالتحقيق معه وسجنه، في مقابل دفاع حلفائه عنه وعن سياسته المالية، الى الحد الذي يطالبون بالتمديد له.

وفي الحالتين يظل اسمه مرتبطاً بتحقيقات قضائية أوروبية في قضايا تتصل به وبشقيقه رجا سلامة، وبافلاس اللبنانيين، وانهيار سعر الليرة التي خسرت نحو 95 في المئة من قيمتها، رغم كل التطمينات التي كان يوزّعها يميناً ويساراً منذ أكثر من سنة.

حاكم «المركزي» هو في المبدأ موظف من الفئة الأولى يعيّنه مجلس الوزراء، لكنه لا يخضع لآلياتِ موظّفي الفئة الأولى، بل له اطار خاص يحدده له قانون النقد والتسليف. لكن الحاكمية تحوّلت مع سلامة مركزاً قائماً في ذاته، اذ ان دوره تجاوز النص القانوني.

ورغم أنه كان خاضعاً للتجاذبات السياسية، الا انه بقي متفلتاً منها، ناسجاً أكبر شبكة علاقات مع جميع الأحزاب والشخصيات السياسية، وظلّ يتحكم باللعبة السياسية والمالية ويتلاعب بخيوطها كمَن يحرّك دمية مسرحية. وهو بذلك حوّل الحاكمية قوة جذْبٍ وتوظيفات لمسؤولين كبار ومفاتيح سياسية، وصارت لها مكانة محورية الى جانب الرئاسات الثلاث.

لم يكن هناك من ندّ لسلامة سوى قيادة الجيش التي ظلت مضبوطة الايقاع أكثر من الحاكمية في أن تكون تابعة لرئاسة الجمهورية. لكن الحاكم والقائد، تحولا منذ عام 2005 طامحيْن الى الرئاسة الأولى، وصارا مرشحيْن رئاسييْن في شكل دائم.

لم تكن الحاكمية يوماً جهازاً قائماً في ذاته، فمنذ ان بدأ تعيين الحاكم المركزي، كانت طائفة الحاكم المارونية تعطي للموقع أهميةً بالنسبة الى رئيس الجمهورية وتظل مرتبطة به. وكان لرأس الدولة قبل اتفاق الطائف، الدلالة الكبرى في اختيار الحاكم وقائد الجيش، قبل ان يوافق عليهما مجلس الوزراء.

كانت صفة حكام المصرف المركزي في الدرجة الأولى عند اختيارهم المناقبية الأخلاقية اضافة الى تمتعهم بالمؤهلات العلمية المناسبة. وفي هذا الاطار لم يُعرف عن الحكام الخمسة الذين سبقوا سلامة الا ما يصبّ في مصلحة الخدمة العامة وحسن سير العمل المصرفي والحفاظ على الوضع النقدي فلم تُسجَّل عليهم أي شبهات. الأول كان فيليب تقلا 1963-1967، ثم الياس سركيس 1968 – 1976، عندما انتُخب رئيساً للجمهورية. كان سركيس من الشخصيات الشهابية النظيفة الكف التي عُرفت بحسن سيرتها وبعملها الدؤوب، فلم يُكن ينظر اليه الا انه مثال الاداري الناجح الأمر الذي جعله لمرتين مرشحاً للرئاسة، عام 1972 في وجه الرئيس سليمان فرنجية الذي فاز عليه بصوت واحد، ومن ثم خلَفه مع بداية الحرب.

عين الشيخ ميشال بشارة الخوري حاكماً للمركزي عام 1978 حتى عام 1985. والخوري ابن بيت سياسي عريق والده الشيخ بشارة الخوري أول رئيس للاستقلال، وظلّ أميناً على بيت المال اللبناني رغم الظروف الصعبة التي كانت تمرّ بها البلاد في عهد الرئيس الياس سركيس، واختير مرة ثانية حاكماً للمركزي بين عام 1991 و 1993 وهو الأخير قبل تولي سلامة المنصب والتجديد له أربع مرات. بعد ولاية الخوري الأولى عيّن ادمون نعيم بين 1985-1991 حاكماً للمركزي في منتصف ولاية الرئيس أمين الجميل، واستمر في منصبه حتى تعيين الخوري مجدداً.

كان نعيم من رجال القانون الدقيقين والمحافظين عليه رغم كل التهديدات التي تَعَرَّضَ لها، فاستمر محافظاً على المصرف المركزي ولم يفرّط بأمواله أو بذهبه وبالأخص بسمعته.

ومع تسلم رفيق الحريري رئاسة الحكومة بعد الانتخابات النيابية عام 1992، جاء بسلامة من «ميريل لينش» حاكماً لـ «المركزي» عام 1993.

لم يأت سلامة عبر رئيس الجمهورية الياس الهراوي، كما يُفترض بالرئيس المنتخَب بعد اتفاق الطائف، بل اختاره رئيس الحكومة المنكبّ على رسم خرائط اعمار بيروت وخطة اقتصادية كان يحتاج فيها الى أكفاء ورجال ثقة، في المناصب الادارية المالية.

وشكل سلامة حوله آنذاك هالة بقيت مضبوطة الايقاع، لأن ظِل الحريري كان الأكبر ولا سيما في ظل تَسَلُّم الأخير والرئيس فؤاد السنيورة وزارة المال بين 1992 و1998 ليتسلّمها السنيورة مجدداً في حكومة الحريري بين 2000 و2004.

بقي سلامة «موظّفاً» خلال ادارة الحريري، لكن بعد الاغتيال (فبراير 2005) تفلّت من هذا الدور، وبدأ يستفيد من شبكة العلاقات التي بناها طوال 12 عاماً في الحاكمية، خصوصاً مع بري.

ولم يُعرف عنه بداية علاقات مع القادة الموارنة وهو الأمر الذي تداركه لاحقاً بعد عام 2005 فنسج علاقات معهم، ولا سيما مع العماد ميشال عون ولاحقاً مع «القوات اللبنانية»، ومع البطريركية المارونية في عهد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي.

ولأن لبنان كان يمر بفترة صعبة سياسية وأمنية، كان ابقاء سلامة الحل الأوحد الذي ركن اليه الجميع للمحافظة على الاستقرار النقدي فيما كانت البلاد على شفير انقسام حاد.

أخذ دور سلامة يكبر بعد 2005، وفي ظل الفراغين الرئاسيين (2007 و2014)، ويلمع اسمه كمرشح لرئاسة الجمهورية، والطامح الى أن يكون «الحاكم» الثاني بعد سركيس الذي يصل الى قصر بعبدا، مع اختلاف المواصفات كلياً عن الرجل الصامت الذي عبر بلبنان أقسى مراحله. فيما كان الرئيس ميشال سليمان الآتي من وزارة الدفاع الى بعبدا يكرّس مقولة العسكر في القصر.

منذ ذلك الوقت كانت الهالة تكبر حول سلامة، اعلامياً وسياسياً. حقق لنفسه دائرة نفوذ اعلامية وسياسية قوية وأصبح الرجل الذي لا يمكن تخطيه، والذي لم يصل أي حاكم قبله الى المرتبة نفسها.

وعزز هذا الحضور في نسج علاقات غربية ولا سيما الأميركية فحصل منها على دعم لعمله، فيما كان يقوّي علاقاته الداخلية مع كل الأفرقاء من دون حَرَج. فتحولت الحاكمية أكثر اسم يتردد على لسان اللبنانيين، في التطلع الى المصرف المركزي وأخباره ونشاطاته وحضوره الدائم في كل اللقاءات والاحتفالات. كان طموح سلامة أن يكون رئيساً للجمهورية، حلم بالقصر قبل المجيء بعون، وبعده، لكن رد فعل اللبنانيين تجاهه بعد انهيار الليرة صعّب عليه المهمة، كذلك كثافة التحقيقات القضائية في حقه.

ورغم ترداده انه يريد ترك منصبه، فثمة مَن يعتقد انه يريد البقاء فيه، بعدما أصبح الكلام أكثر جدية عن رغبة مَن في يدهم القرار، التمديد له.

قبل ستة أعوام، أعيد التجديد له، في حكومة الرئيس سعد الحريري، في ظل تسوية رئاسية وحكومية ومصرفية ضمنت له ولاية جديدة تنتهي آخر مايو المقبل. وحين طرح امكان استبداله، ترددت أسماء مثل وزير الاقتصاد في عهد الرئيس عون، منصور بطيش، ومن ثم الوزير السابق جهاد أزعور.

الا أن سلامة استمر ممسكاً بالحاكمية برضى كل الأطراف، بما في ذلك القوى الأمنية على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها، الى ان وقعت التظاهرات وانهارت الليرة وانفجر مرفأ بيروت. وبعد زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للبنان عاد اسم المصرفي سمير عساف، يتردد مجدداً للحاكمية وحتى لرئاسة الجمهورية.

مع كل المتغيرات بقي سلامة الثابت الوحيد، الذي يتمسك به حلفاؤه في التركيبة الحاكمة، على افتراض ان غيابه سيفقد الليرة الكثير من قيمتها.

ومع كل الانهيار غير المسبوق، يعود اسمه مرشحاً جديداً لولاية ست سنوات، وهذا يعطي له حصانة متجددة، لم يحصل عليها أي مسؤول آخر. هي حصانة المال والعلاقات الدولية وامساكه بدفترِ حساباتِ كل مَن رافقهم في مراكز المسؤولية منذ 30 عاماً، ويحفظ ما لهم وما عليهم.

السابق
كم سجل سعر دولار السوق السوداء صباح اليوم؟
التالي
بعدسة جنوبية: وقفة تضامنية مع 5 محتجين استدعيوا للتحقيق على خلفية اقتحام قصر العدل