العودة إلى الاعتدال: العلاقات البرازيلية-الإسرائيلية في ظل رئاسة لولا

البرازيل واسرائيل

تُمثِّل الهزيمة الانتخابية لجايير بولسونارو، الرئيس البرازيلي اليميني السابق، في أكتوبر 2022، نهاية البرازيل الانعزالية. وتُشير عودة المُرشّح اليساري، لولا دا سيلفا (المعروف باسم لولا)، إلى الرئاسة البرازيلية إلى تغيير مُهم أيضاً فيما يتعلّق بدبلوماسية برازيليا في الشرق الأوسط الكبير، بخاصةٍ فيما يتعلّق بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وفي شكل رمزي إلى حدٍ بعيد، أقال لولا سفير البرازيل في إسرائيل من منصبه بعد أسبوعين فقط من تنصيبه رئيساً للبلاد في 1 يناير 2023. 

في ظل الحكومات السابقة لحزب العمال (لولا دا سيلفا في الفترة 2003-2010، وديلما روسيف في الفترة 2011-2016)، صعدت البرازيل على الساحة الدولية بوصفها فاعلاً دبلوماسياً رئيساً مُستقلاً، وتبنَّت موقفاً مُحايداً إزاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، فضلاً عن أدائها دور الوساطة – إلى جانب تركيا – بين إيران والغرب بشأن برنامج طهران النووي. ونظراً للدبلوماسية الكاريزمية وغير الأيديولوجية للرئيس لولا، يعتقد الكثيرون أن البرازيل يُمكن أن تؤدي دوراً في مد جسور التواصل بين الشعوب وتعزيز الحوار كما حدث في الماضي. وفي الوقت نفسه، فإن عدم القدرة على التنبؤ بالتطوّرات على الساحة الدولية، وبالنظر إلى تعقيد التحدّيات المحلية التي تواجه لولا، يدفعان إلى أن تكون توقّعاتنا عملية وواقعية بشكل أكبر.

اقرأ أيضاً: الصراع على القضاء: الأزمة السياسية والدستورية في إسرائيل وتداعياتها الداخلية والخارجية

ستُحلِّل هذه الورقة ثلاثة قضايا، أولها المواقف التي اتخذتها حكومات أمريكا اللاتينية اليسارية إزاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. والقضية الثانية تتعلّق بالسياسة الخارجية للبرازيل تجاه إسرائيل، في تحوّلها الجذري منذ أول ولايتين للرئيس لولا (2003-2010)، وطوال سنوات رئاسة بولسونارو. أمّا القضية الثالثة فتتعلّق بآفاق العلاقات البرازيلية-الإسرائيلية بعد عودة لولا إلى السلطة.

الحكومات اللاتينية اليسارية والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني

يحتفظ اليسار المُعتدل في أمريكا اللاتينية بعلاقات دبلوماسية مع كلٍّ من إسرائيل والقيادة الفلسطينية. وتقليدياً، كان هناك ميل للتعاطف مع القضية الفلسطينية. وبين عامي 2009 و2011، اعترفت البرازيل والأرجنتين وبوليفيا وأوروجواي وبيرو وفنزويلا وباراغواي والسلفادور وهندوراس وإكوادور بدولة فلسطين داخل حدود ما قبل حرب عام 1967، عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية. ومع ذلك، وعلى عكس الحكومات اليسارية المُتطرّفة في أمريكا اللاتينية، دعمت الحكومات اليسارية المُعتدلة في البرازيل حق إسرائيل في الوجود، ومُحادثات السلام المباشرة بين إسرائيل والعرب. وبالطبع، لم يمنعهم هذا من تبنّي موقف تصادمي مع إسرائيل والتشكيك في قانونية الوضع الراهن.

وفي الآونة الأخيرة، كان الرئيس التشيلي، غابرييل بوريك، صريحاً للغاية بانتقاداته بشأن عدم احترام القانون الإنساني في فلسطين، ومارس ضغوطاً على إسرائيل للالتزام بقرارات الأمم المتحدة. ومن جانبهم، حاول أعضاء الكونغرس التشيلي دعم مُبادرات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، وصياغة تشريع لحظر استيراد السلع والخدمات من المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين، كما فعل البرلمان الأيرلندي في عام 2019. ومن ناحية أخرى، فإن الأنظمة اليسارية الراديكالية في المنطقة، مثل أنظمة كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا، نظرت تاريخياً إلى الولايات المتحدة وإسرائيل بوصفهما تهديداً. وكان هذا الموقف جزءاً من الموقف الثوري المُناهض للاستعمار والمُعادي للإمبريالية الذي تتبنّاه تلك الأنظمة، والتي تَعتقِد أنه يربط بين حركات النضال لدى الشعوب اللاتينية ونضال الشعب الفلسطيني من أجل نيل حق تقرير المصير والاستقلال.

وقطعت كوبا العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في عام 1961، ومع إسرائيل في عام 1973. وفي حين أن فنزويلا فعلت الشيء نفسه مع إسرائيل في عام 2009، ومع الولايات المتحدة في عام 2019، إلا أن العلاقات البرازيلية-الإسرائيلية شهدت تطوراً في العقود الماضية، وتغيّر الكثير على هذا الصعيد منذ تولّي لولا أول ولايتين رئاسيتين. وعلى سبيل المثال، قطعت نيكاراغوا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في عام 2010 لكنها استأنفت تلك العلاقات في عام 2017. وقد أعادت كوبا العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في عام 2015 خلال إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، ومنذ ذلك الحين حاولت الأولى تحسين العلاقات الثقافية مع إسرائيل، بالرغم من أنها تبنّت موقفاً سياسياً قوياً لصالح فلسطين. أمّا النظام اليساري الذي يميل إلى أن يكون أكثر انتقاداً لإسرائيل فهو النظام الحاكم في فنزويلا، الذي افتتح سفارة له في رام الله، وله روابط معروفة مع إيران. ومع ذلك، فقد أدّى الغزو الروسي لأوكرانيا وأزمة الوقود في عام 2022 إلى بدء تقارب أوّلي بين واشنطن وكراكاس الأمر الذي قد يؤثّر في نهاية المطاف على مقاربة الأخيرة إزاء النزاعات في الشرق الأوسط.

مُقاربة البرازيل خلال عُهدة لولا الأولى للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي

في أول ولايتين رئاسيتين للرئيس لولا (2003-2010)، أصبحت البرازيل قوة دبلوماسية ناعمة رئيسة على الساحة العالمية، تسعى لتحقيق المزيد من الاستقلالية من خلال تنويع علاقاتها الدولية، وبناء المزيد من النفوذ من طريق التعاون بين دول الجنوب، بما في ذلك من خلال تكتّل بريكس (الذي يضم أيضاً روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا)، ومجموعة العشرين، وتكتل ميركوسور (التكتّل الاقتصادي في أمريكا اللاتينية). وكان لولا أول رئيس برازيلي يزور الشرق الأوسط منذ القرن التاسع عشر. وأشار مُحلّلين إلى أن لولا رأى في التوسّط بين إسرائيل وفلسطين استراتيجيةً للبرازيل للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

في عهد الرئيس لولا (2003-2010)، والرئيسة روسيف (2011-2016)، اتخذت البرازيل موقفاً مُتوازناً وحاسماً فيما يتعلّق بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، من خلال أمرين: 

أولاً، الحفاظ على العلاقات الوديّة مع الولايات المتحدة، وكذلك مع دول الشرق الأوسط المهمة. وعلى سبيل المثال، عزّزت البرازيل اتفاقيات التجارة الحرة بين شركائها في تكتل ميركوسور ودول الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر وإسرائيل، وكذلك فلسطين (2011)، مُتمنية صراحةً أن تُصبح الأخيرة “مُستقلّة وديمقراطية”، وتعيش في سلام ووئام مع جيرانها. 

ثانياً، في حين أن البرازيل اعترفت بحق إسرائيل في الوجود، إلا أنها دانت أيضاً احتلالها للأراضي الفلسطينية في المنتديات الدولية. وفي عام 2010، اعترفت البرازيل بدولة فلسطين. وخلال حرب غزة عام 2014، دانت البرازيل هجمات حماس الصاروخية، وكذلك رد فعل إسرائيل على تلك الهجمات. وبينما اعترفت البرازيل بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لكنها انتقدت أيضاً “الاستخدام غير المُتناسب للقوة” واستهداف المدنيين الفلسطينيين من قِبَل إسرائيل؛ ولهذا السبب، وإلى جانب الإكوادور، استدعت البرازيل سفيرها في تل أبيب للتشاور آنذاك. علاوة على ذلك، صوّتت حكومة لولا إلى جانب 29 دولة أخرى لصالح اقتراح قدّمه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان من قبل القوات الإسرائيلية في غزة. في عام 2016، رفضت حكومة لولا الموافقة على مُرشّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لمنصب سفير إسرائيل في البرازيل، داني دايان، بسبب دعوته لإنشاء وإدامة المُستعمرات الإسرائيلية. وأدّى هذا القرار إلى نشوب نزاع دبلوماسي بين البلدين إلى أن قرّرت إسرائيل التراجع عن موقفها وترشيح سفير آخر. 

حاولت البرازيل أيضاً التوسُّط بخصوص المشروع النووي الإيراني على أساس تعزيز التعاون النووي السلمي من دون تمييز، والالتزام بعدم انتشار الأسلحة النووية. وفي عام 2007، أعلن لولا أن حكومته تدعم حق إيران في تطوير أبحاث نووية سلمية، بالنظر إلى أن البرازيل كانت أيضاً تُخصّب اليورانيوم. في عام 2010، عقّب وزير الخارجية البرازيلي آنذاك، سيلسو أموريم، على فشل العقوبات الدولية السابقة ضد نظام صدام حسين في العراق، وانتقد جدواها في قضية إيران أيضاً. وفي ذلك العام، تم توقيع إعلان طهران النووي من قبل إيران وتركيا والبرازيل، بهدف دعم تبادل الوقود النووي والتكنولوجيا النووية لأغراض سلمية. وبموجب ذلك الإعلان، مُنحت إيران اتفاقية لمبادلة الوقود النووي، بحيث تكون قادرة على نقل طن واحد من اليورانيوم المنخفض التخصيب إلى تركيا مقابل الحصول على قضبان الوقود لصنع النظائر الطبية. وانتقدت إسرائيل ذلك الاتفاق بوصفه أسلوباً للخداع من قبل إيران، ولم تُحَلّ مسألة البرنامج النووي الإيراني.

وخلال أول ولايتين للرئيس لولا، لم تُدِن البرازيل إيران، ولم توافق على فرض العقوبات على طهران، تحت ذريعة أنها لا تعتبر ذلك الخيار مفيداً. ومع ذلك، فقد تغيّر هذا الموقف في عهد الرئيسة روسيف (2011-2016) التي انتقدت حكومتها صراحةً السجل الرهيب لحقوق الإنسان في إيران. وفي يوليو 2015، وُقِّعَت الصفقة النووية الإيرانية بين الصين وروسيا والمملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما كان يعني بالضرورة تفكيك كبير للبرنامج النووي الإيراني مُقابل تخفيف العقوبات. وخلال تلك المرحلة من التفاؤل الحذر، أعربت الحكومة البرازيلية عن أملها في إمكانية تطبيع العلاقات في المستقبل بين إيران والمجتمع الدولي. ومع ذلك، كما بات معروفاً، انسحبت الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس ترامب من الصفقة النووية مع طهران في عام 2018، ولم تعد إيران تمتثل لبنود الاتفاق.

الرئيس بولسونارو والعلاقات البرازيلية-الإسرائيلية

على عكس إرث لولا، تحوّلت العلاقات الدبلوماسية بين البرازيل وإسرائيل في عهد الرئيس جايير بولسونارو (2018-2022)، إلى صداقة شخصية وثيقة بين بولسونارو ونتنياهو، حيث كان ينتمي الرجلان إلى المُعسكر اليميني، وعززا أيضاً تحالفهما آنذاك مع الرئيس الجمهوري الأمريكي دونالد ترمب، على حساب العلاقات البرازيلية-الفلسطينية. وفي البداية، كان يأمل بولسونارو أن يدفع موقفه المؤيّد لإسرائيل غالبية اليهود في البرازيل لدعم سياساته. وعلى نحو يشبه الرئيس ترمب، فعل بولسونارو ذلك لارتباط الأمر بالقيم الإنجيلية المسيحية، مثل الاعتقاد بأن إسرائيل “أرض مُباركة من الله”. ومع ذلك، فقد تلاشى هذا الدعم الانتخابي مع مرور الوقت، إلى حد انتقاد الجالية اليهودية في البلاد ذات التوجّهات السياسية المُتباينة – والتي تضم حوالي 120 ألف شخص- رفع العلم الإسرائيلي في التجمّعات الانتخابية المؤيّدة لبولسونارو.

وكان دعم بولسونارو لإسرائيل غير مشروط، وذلك وفاء لوعده الذي قال فيه “كونوا على يقين أن بإمكانكم الاعتماد على صوتنا في الأمم المتحدة حول كل القضايا تقريباً المتعلقة بإسرائيل”. وتجنَّب بولسونارو زيارة المناطق الفلسطينية أو إقامة أي علاقات جوهرية مع القيادة الفلسطينية. وحاول بولسونارو – عندما قرر الرئيس ترمب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس سنة 2017، وقرار السلطة الفلسطينية تجميد العلاقات الدبلوماسية مع البيت الأبيض – محاكاة خطوة ترمب منذ بداية رئاسته، غير أنه عاد عن قراره نهاية المطاف خشية الانعكاسات السلبية على تجارة بلاده مع الدول العربية التي تستورد اللحوم والدواجن من البرازيل، لكنَّ الرؤساء المحافظين في جواتيمالا، وهندوراس ساروا على خطى ترمب.

سياسة إدارة لولا الخارجية الجديدة

يُعَدُّ التمثيل الرسمي لـ 73 دولة شاركت في حفل تنصيب الرئيس البرازيلي الجديد في يناير 2023 دعماً لمكانة لولا كفاعل دبلوماسي مهم. واشتملت قائمة المشاركين في حفل التنصيب ممثلين عن فلسطين وإسرائيل، إلى جانب دول أخرى تتبنى سياسات متباينة ومتنافسة مثل إيران والصين والولايات المتحدة وأوكرانيا وروسيا وأذربيجان والسعودية وتركيا وكوبا وفرنسا وكوريا الجنوبية واليابان والإكوادور وبارغواي وجواتيمالا ونيكاراجوا وبوليفيا وتشيلي والمكسيك وفنزويلا وبيرو. ومن المرجح أن تتركز أولويات السياسة الخارجية البرازيلية في ظل رئاسته على الآتي: 

أولاً، العلاقات مع دول أمريكا الجنوبية، خاصة الأرجنتين المجاورة (فهناك احتمال أن تتبنى الدولتان عملة موحدة هي “سور”) والأوروجواي والباراجواي.

ثانياً، العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية، بما في ذلك إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو (التي قطعها الرئيس السابق بولسونارو)، وإحياء المنظمات الإقليمية مثل “مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي” على أساس تعزيز العمل في مجال المناخ.

ثالثاً، إحياء علاقات البرازيل مع الدول الأفريقية.

وتشير أولى قرارات لولا في مجال السياسة الخارجية إلى انتهاجه اتجاهاً جديداً بعيداً عن سياسة سلفه القومية. وينعكس هذا من خلال التغييرات الكبيرة الجارية في الهيكل الداخلي لوزارة الخارجية، وأول القرارات لوزير الخارجية البرازيلي ماورو فييرا. وانتقدت وزارة الخارجية البرازيلية زيارة وزير الأمن القومي الإسرائيلي الجديد، إيتمار بن غفير، إلى المسجد الأقصى في القدس، ووصفتها بأنها استفزاز للفلسطينيين. وتَمَثَّلَ القرار البارز الآخر بعزل دبلوماسيين عَيَّنَهُم بولسونارو في مناصب مهمة، خاصة السفير البرازيلي في واشنطن نستور فورستر، الذي رتب لعقد اجتماع بين بولسونارو والمستشار اليميني للرئيس الأمريكي السابق ترمب، ستيف بانون. كما جرى عزل السفير البرازيلي في القدس جيرسون ميناندرو جارسيا دي فريتاس، بحجة أنه جنرال سابق وليس دبلوماسياً محترفاً. 

وتشكل البيئة السياسية الداخلية إحدى التحديات المهمة التي يتعين على لولا التعامل معها، ومدى تأثير شعبيته في ميزان القوى الحساس في البرلمان البرازيلي. وسينتهج لولا بالضرورة خطاً أكثر وسطية من الماضي، لأن فريقه يُعَدُّ أكثر تنوعاً ويضم نائب الرئيس اليميني جيرالدو ألكمن. وفي الوقت الذي حظيت فيه أجندة لولا الانتخابية بدعم 10 أحزاب، غير أن هذه الأحزاب لم تحصد سوى 139 مقعداً من أصل 513 في مجلس النواب، ما يعني أن السيطرة في المجلس أصبحت في قبضة تحالف يميني، حيث زاد حزب بولسونارو من عدد مقاعده في المجلس إلى 99. لذلك يتعين على لولا الدخول في مفاوضات وتقديم تنازلات إلى 190 عضواً في البرلمان البرازيلي يمثلون 4 أحزاب وسطية لتحقيق الأغلبية. وفاز التحالف اليميني في مجلس الشيوخ بـ 13 مقعداً إضافياً. ويتعين على لولا في ظل هذه التركيبية السياسية المعقدة توخي الحذر ليس في سياسته الداخلية فحسب، بل في اصطفافه الخارجي أيضاً. ويعتمد تحقيق لولا لطموحاته البيئية الداخلية وأهداف الاستثمار في البُنْيَة التحتية على تحسين علاقاته مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول مجموعة “بريكس”، خاصة الصين. وستؤدي حاجة لولا هذه إلى إرغامه على تعزيز براعته السياسية في الوقت الذي ستواصل البرازيل تحقيق التوازن فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

والبرازيل لن تواصل تقديم دعمها إلى إسرائيل كما كان الحال في عهد بولسونارو، بل ستُعبِّر عن اختلافها مع تل أبيب حول الإجراءات التي تقوم بها إسرائيل وتؤدي إلى عرقلة مفاوضات حل الدولتين. ويرجح أن يدعم لولا قرارات الأمم المتحدة فيما يتعلق بوضع القدس الشرقية بعد التوصل إلى اتفاقية سلام بين الطرفين. كما يتوقع أن يستأنف لولا العلاقات البرازيلية-الفلسطينية التي تضررت كثيراً خلال السنوات الماضية. لكنْ بالرغم من الرسائل الرمزية التي سيوجهها لولا للفلسطينيين، فإنه من غير المرجح أن يعمل على عرقلة التعاون الأمني والتكنولوجي القوي مع إسرائيل. وظلت التجارة بين البرازيل وإسرائيل متواصلة خلال الفترة 2009-2018 لتصل إلى 1.577 مليار دولار سنة 2019. 

ويمكن أن يتجه الرئيس لولا – كما كان الحال في عهد إدارة أوباما – إلى إقامة حوار مع إيران والتوسُّط بين واشنطن وطهران لتطوير “تعايش سلمي”. وسبق أن انتقد لولا في عهد إدارة ترمب اغتيال قاسم سليماني عام 2020 بواسطة طائرة من دون طيار في العراق، ووصفه بأنه انتهاك للقانون الدولي. وتشير زيارة لولا إلى واشنطن، في 10 فبراير الجاري، إلى أن لولا سيجد في إدارة بايدن حليفاً فيما يتعلق بالأجندة المشتركة لتحقيق السلم والأمن. لكنَّ إسرائيل قد تقف على طرفي نقيض مع البرازيل فيما يتعلق بإيران التي تتهمها تل أبيب بتمويل حركة “حماس” و”حزب الله”، وكذلك الحال فيما يخص بالجهود المحتملة لإحياء الاتفاق النووي الذي تخلَّت عنه إدارة ترمب سنة 2018.

استنتاجات

تشير التوقعات إلى أن الرئيس البرازيلي الجديد لولا سيتبنى الكثير من المبادرات في مجال السياسة الخارجية، بما في ذلك تلك التي تشمل منطقة الشرق الأوسط، لكنْ يتعين الانتظار لمعرفة نطاق هذه المبادرات وآفاقها. ويعتمد الكثير على العلاقات التي سيقيمها لولا مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن والدول العربية والخليجية المهمة. وستسعى البرازيل في الوقت الذي تنخرط فيه روسيا والصين في تصعيد متزايد مع الغرب إلى إثبات نفسها قائداً دبلوماسياً عالمياً. ويعتقد لولا أن الحوار هو الطريقة الوحيدة لبناء السلام بين الأمم، حيث تحظى البرازيل بالفعل بتقليد يَتَمَثَّلُ بالحفاظ على علاقاتها الدبلوماسية مع الدول كافة بشكل يتجاوز الاختلافات الأيديولوجية. ويُشير هذا الإيمان بالسلام إلى أن لولا سيقف على الحياد في النزاعات الدولية، وسيسعى للثني عن استخدام سياسة العقوبات وعزل الأنظمة، وتغليب العمل المتعدد الأطراف على المصالح السيادية. وللتغلب على التحدي الذي يواجهه، خاصة في الوقت الراهن الذي يطغى عليه الاستقطاب الحاد والقوة الخشنة، لن يكتفي لولا بالتواصل الناجح مع العالمين المتقدم والنامي فحسب، بل سيتعامل مع القوى المتنافسة في الشرق الأوسط والساحة الدولية على حدٍّ سواء من أجل الإسهام في تخفيف حدة التوتر. 

السابق
ملتقى التأثير المدني: لتبني خيار قيام دولة المواطنة
التالي
«حادثة العاقبية» الى القرار الاتهامي.. وهذا ما حلّ بالجنود الايرلنديين الاربعة!