الصراع على القضاء: الأزمة السياسية والدستورية في إسرائيل وتداعياتها الداخلية والخارجية

اسرائيل

أعلن وزير القضاء الإسرائيلي ياريف ليفين، وبدعم من الحكومة الإسرائيلية، عن خطته لتقييد صلاحيات السلطة القضائية، والمحكمة العليا تحديداً، وتقليص تدخلها في عمل السلطة التشريعية. وهذه الخطة التي تحظى بدعم قواعد اليمين المحافظ والمتدين جوبهت بمعارضة من شرائح في المجتمع الإسرائيلي، وأدت إلى خروج مظاهرات حاشدة ضد الحكومة الإسرائيلية.

تستعرض الورقة خطة تغيير السلطة القضائية والمبنى الدستوري في إسرائيل، وتداعيات ذلك على الوضع الداخلي، ومكانة إسرائيل الخارجية.

الخلفية السياسية للأزمة الدستورية

يُعد وزير القضاء الحالي، ياريف ليفين، من أكثر الشخصيات اليمينية وأقدمها التي وضعت مشروعَ تغيير صلاحيات السلطة القضائية وتقييد المحكمة العليا، باعتباره واحداً من المشروعات المركزية في حياته السياسية والجماهيرية. وجاء اختيار ليفين وزيراً للقضاء، بعد سنوات طويلة قضاها في الحياة السياسية، بمثابة إعلان عن بدء “الثورة” ضد السلطة القضائية في إسرائيل، حيث اختار بنيامين نتنياهو الشخص الذي ارتبط خطابه بهذا المشروع، حتى في السنوات التي كان فيها نتنياهو نفسه يعارض أي تغيير في السلطة القضائية، وعبّر هذا الاختيار عن الأهداف الأساسية للحكومة الحالية. 

اقرأ أيضاً: فلسطين… خارج «أزمة» إسرائيل

تُجمع كل مكونات الائتلاف الحكومي على إحداث تغيير في مكانة السلطة القضائية، ولكن لكل واحد من هذه المكونات وجهة نظره الخاصة ودوافعه المختلفة. وظهر هذا الإجماع في الاتفاقيات الائتلافية بين الليكود وقوائم الائتلاف التي تضمنت جميعها فقرات وبنوداً تتعلق بتغيير مكانة السلطة القضائية، وتحديداً تقييد صلاحيات المحكمة العليا وتدخلها في السلطة التشريعية والتنفيذية، وذلك من خلال تعديل قانون أساس السلطة القضائية. 

ينطلق الموقف الأيديولوجي اليميني من المحكمة العليا باعتبارها عقبةً أمام تنفيذ مشاريعه السياسية والانتخابية، وتحولت هذه الفكرة إلى عنصر مهم في خطاب اليمين في السنوات الأخيرة، وبات مشروع إصلاح السلطة القضائية، من وجهة نظر اليمين، لا يقل أهمية عن المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية؛ فالانطباع السائد -وإنْ لم يكن دقيقاً من الناحية الموضوعية- لدى جمهور اليمين أن اليمين ينتصر كل مرة في الانتخابات لكنه لا يستطيع أن يحكم، وجزء منه بسبب وجود نخبة قضائية تعارض برامجه وتمنعه من تنفيذها، ومن ذلك ترى أحزاب الصهيونية الدينية في السلطة القضائية عائقاً أمام توسيع مشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية، بسبب رفضها شرعنة مئات البؤر الاستيطانية التي بُنيت على أراض فلسطينية خاصة، أو من دون قرار حكومي.

مع ذلك، لا يخلو إجماع اليمين في الحكومة على تغيير السلطة القضائية من دوافع سياسية أو شخصية. فنتنياهو أصبح عدائياً تجاه السلطة القضائية بعد بدء التحقيقات معه وتقديم لوائح اتهام ضده بتهم الفساد وخيانة الأمانة، وقبل ذلك كان يقف سداً منيعاً أمام كل محاولات تغيير مكانة السلطة القضائية، أما حركة شاس فيدفعها في ذلك التهم التي وُجهت إلى رئيس الحركة أرييه درعي منذ العام 1999 ودخوله السجن وموقف القضاء من توزير درعي، إذ تعتقد الحركة أن ملاحقة السلطة القضائية لزعيمها ينطلق تحيزات طائفية، بسبب خلفيته الشرقية. 

ساهم الهجوم المثابر على السلطة القضائية في تراجع مستوى ثقة الجمهور بالمحكمة العليا بصورة غير مسبوقة، فبعد أن كانت تنافس مستوى ثقة الجمهور بالجيش الإسرائيلي في سنوات سابقة، كشف مقياس الديمقراطية السنوي للعام 2022، الذي ينشره المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، عن تراجع كبير في مستوى ثقة الجمهور بالمحكمة العليا، حيث وصلت إلى نسبة 42%، في حين كان معدل الثقة بها خلال الفترة (2003-2021) يصل إلى حوالي 60%. وحول تأييد الجمهور الإسرائيلي لصلاحية المحكمة العليا إلغاء قوانين يُشرّعها الكنيست، يُبين مقياس الديمقراطية الفروقات في المجتمع الإسرائيلي؛ ففي حين يؤيد المواطنون العرب منح هذه الصلاحية للمحكمة العليا (87%)، فإن نسبة التأييد تصل إلى 51% في صفوف اليهود، وتظهر الفروقات بين المعسكرات السياسية في المجتمع اليهودي بشكل واضح، إذ يؤيد هذه الصلاحية 89% من جمهور اليسار، و70% من جمهور المركز (الوسط)، في حين يؤيدها 37% فقط من الجمهور اليميني.

مشروع تغيير السلطة القضائية

في الرابع من يناير 2023 كشف وزير القضاء للجمهور مشروعه لتغيير السلطة القضائية في إسرائيل، وترمي الخطة إلى إحداث تغيير جوهري في مكانة ووظيفة السلطة القضائية عموماً، والمحكمة العليا خصوصاً. وتشمل الخطة ما يأتي:

  1. إضافة فقرة “التغلب”، والمقصود تعديل قانون أساس السلطة القضائية، بحيث يستطيع الكنيست إقرار تشريع جديد لقانون ألغته المحكمة العليا، وذلك بأغلبية 61 عضوَ كنيست، وهي أغلبية قليلة تسمح للائتلاف الحكومي عملياً بتشريع كل قانون تلغيه المحكمة العليا أو تطالب بتعديله، والذي يعني تحييد وظيفة المحكمة العليا في هذا الشأن، حيث لا يحتاج الائتلاف إلى المعارضة من أجل تجديد قانون ألغته المحكمة العليا. ويحظى هذا التعديل بمعارضة شديدة من المعارضة الإسرائيلية والمؤسسة القضائية، مع العلم أن المحكمة العليا ألغت منذ عام 1992، 22 قانوناً فقط.
  2. لا تستطيع المحكمة العليا التدخل في تشريع قوانين الأساس. وبحسب الخطة، فإن تدخل المحكمة العليا مُتاح فقط بمشاركة كل قضاة المحكمة (15 قاضياً)، ويمكن للمحكمة إلغاء القانون بأغلبية كبيرة، وليس 50%+1 كما هو الوضع الحالي.
  3. إلغاء حجة “المعقولية”، إذ تُعطي هذه الحجة الصلاحيةَ للمحكمة العليا بإلغاء إجراءات حكومية كونها غير منطقية، ويهدف هذا البند إلى تقليص تدخل المحكمة العليا في القرارات الإدارية الحكومية.
  4. تغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة، إذ يريد وزير القضاء تغيير اللجنة التي تُعين القضاة، وذلك بهدف إضعاف موقف ممثلي المحكمة العليا في اللجنة وتعزيز قوة السياسيين فيها. وبحسب خطة ليفين، فإن عدد أعضاء اللجنة سوف يزداد ليصل إلى 11 عضواً، ويتضمن تمثيلاً متساوياً لكل السلطات، بحيث يُلغى تمثيل نقابة المحامين (ممثلان) وإحلال محلهم ممثلين من الجمهور يختارهم وزير القضاء، وبذلك يزداد تأثير الوزير في تعيين القضاة، فضلاً عن أن زيادة أعضاء اللجنة سوف يُضعِف موقف القضاة في اللجنة. كما يقترح الوزير أن على المرشحين للمحكمة العليا المرور بلجنة استماع علنية في الكنيست، وذلك للتعرف على مواقفهم.
  5. إلغاء طريقة “الأقدمية” في تعيين رئيس المحكمة العليا، حيث جرت العادة أن يكون رئيس المحكمة العليا هو الأقدم من بين قضاة المحكمة العليا، إذ يقترح وزير القضاء أن تُعين الحكومة رئيسَ المحكمة العليا، بل إنها تستطيع تعيين قاضٍ رئيساً للمحكمة حتى لو لم يكن قاضياً في المحكمة العليا.
  6. تغيير مكانة المستشارين القضائيين، فبحسب الخطة يقترح الوزير أن تكون وظيفة المستشار القضائي للحكومة أو الوزارات المختلفة “وظيفة ثقة”، يُعينه الوزراء مثلما يُعينون المدراء العامين لوزاراتهم.

وفي خطاب غير مسبوق، خرجت رئيسة المحكمة العليا، إستر حيوت، ضد مشروع وزير القضاء، وفصّلت في خطابها خطورة المشروع على استقلالية السلطة القضائية، واعتبرت أن المشروع المقترح ليس من أجل إصلاح السلطة القضائية بل للقضاء عليها، وأن الخطة ستُحول القضاة إلى تابعين للسلطة السياسية، وأن معناها هو “تغيير هوية إسرائيل الديمقراطية بشكل جوهري”. كما قالت الحقوقيّة الدستورية سوزي نَفوت إن “فقرة التغلب وإلغاء حجة المعقوليّة، وقانون المستشارين القضائيّين وبقية بنود الخطة تُنذر بموت الدولاتيّة وتمهّد الطريق للفساد الحكوميّ وانتهاك حقوق المواطن”.

وبعد إعلان وزير القضاء عن خطته بدعم من نتنياهو، أخذت القوى المعارضة للخطة تنظم مظاهرات كل يوم سبت، ونُظِّمَت على مدار أسبوعين مظاهرات في المدن الإسرائيلية المركزية، وأهمها تل أبيب، شارك فيها عشرات الآلاف. وسوف تستمر هذه المظاهرات أسبوعياً ضد الحكومة، مما يُفاقم حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي في إسرائيل.

تفاقُم الأزمة السياسية

أصدرت المحكمة العليا في الثامن من يناير الجاري قراراً تُطالب فيه نتنياهو بإقالة الوزير أرييه درعي، رئيس حركة شاس الدينية، من مناصبه الوزارية (الداخلية والصحة)، بسبب التهم التي وجهت له العام الماضي في قضايا مالية، حيث توصلت النيابة العامة معه إلى تسوية بموجبها يتخلى درعي عن عمله الجماهيري مقابل عدم دمغة بوصمة قانونية تمنعه من إشغال منصب وزير، ولكنه خالف اتفاق التسوية وتنافس في الانتخابات الأخيرة، ثم عُين وزيراً، الأمر الذي اعتبرته المحكمة خداعاً لها. وجاء القرار بأغلبية 10 قضاة مقابل قاض واحد، الذي لم يقر التعيين لكنه طالب بإرجاع الأمر إلى رئيس لجنة الانتخابات للبتّ في الموضوع. 

وبعد إصدار القرار بادر نتنياهو إلى زيارة درعي في بيته في اليوم نفسه، وذلك من أجل الحفاظ على الحكومة، حيث هدد أعضاء من حركة شاس بأنه في حال أُلغيَ تعيين درعي وزيراً فإنه لن تكون هناك حكومة في إسرائيل، ولكن يبدو أن هذا التهديد جاء للضغط على المحكمة العليا التي لم تنصع له، لا بل قررت بالإجماع تقريباً إلغاء التعيين. واتفق نتنياهو مع درعي على تعيين أشخاص يختارهم درعي بنفسه لشغل وزارتي الداخلية والصحة، مع العلم أن القانون لا يشترط أن يكون الوزيرُ عضوَ كنيست.

فاقم هذا القرار الأزمة بين الحكومة والسلطة القضائية، فقد رأت حركة شاس أن القرار جاء لأن درعي من أصول شرقية، وأن القضاة العشرة الذين ألغوا تعيينه كانوا من أصول أشكنازية، في حين أن القاضي الحادي عشر كان شرقياً. واعتبر نتنياهو في رسالة إقالته لدرعي، والتي اُتُفِقَ عليها، أن المحكمة العليا تجاهلت إرادة الناخبين الذين صوتوا لحركة شاس في الانتخابات برئاسة درعي، وأنه سيجد طريقة لبقاء درعي فاعلاً ومؤثراً في الحكومة.

وظهرت الأزمة الثانية في الحكومة في أعقاب اتخاذ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، في 20 يناير، قراراً بإخلاء بؤرة استيطانية أسسها مستوطنون على أرض فلسطينية خاصة في شمال الضفة الغربية، والتي أُغلِقَت لأهداف عسكرية، وقد دعم نتنياهو هذا القرار وسوغ موقفه الداعم لوزير الدفاع بأن حكومته تدعم الاستيطان، لكنها لن تقبل بخطوات غير قانونية ومن دون تنسيق مع الحكومة. والحقيقة أنه لا يمكن فصل هذا القرار عن زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان لإسرائيل ولقائه نتنياهو قبل إخلاء البؤرة الاستيطانية، حيث أراد نتنياهو أن يُثبت للأمريكيين أنه -مثلما وعدهم- هو صاحب القرار النهائي فيما يتعلق بالوضع في الضفة الغربية. 

وقد أثار القرار غضب بتسلئيل سموتريتش الذي قاطع ووزراء حزبه (الصهيونية الدينية) جلسة الحكومة الأسبوعية يوم 22 يناير، إذ اعتبر سموتريتش أن قرار إخلاء البؤرة الاستيطانية جاء بخلاف الاتفاق الائتلافي الذي يُعطي هذه الصلاحية له كونه يشغل منصب وزير في وزارة الدفاع والمسؤول عن الإدارة المدنية في الضفة الغربية، في حين طالب إيتمار بن غفير، رئيس حزب “قوة يهودية” ووزير الأمن القومي، نتنياهو بإخلاء تجمع خان الأحمر الفلسطيني شرقي القدس مقابل إخلاء البؤرة الاستيطانية. 

كشفت هذه الأزمة عن تعقيدات تنفيذ الاتفاقيات الائتلافية وتوزيع الصلاحيات بين سموتريتش ووزير الدفاع فيما يتعلق بالاستيطان، وربما جاءت هذه البؤرة التي لم يَمض على إقامتها يوم واحد فرصةً لنتنياهو لتأكيد سلطته أمام الإدارة الأمريكية، فقد اعتبر سوليفان بعد لقاءه نتنياهو أنه يأمل بأن تستمر الحكومة في الحفاظ على القيم المشتركة التي تجمع البلدين.

تداعيات الأزمة الدستورية على علاقات إسرائيل الخارجية

في حالة إقرار خطة وزير القضاء في تغيير المبنى الدستوري في إسرائيل، فسيكون لذلك تداعيات على مستوى صورة إسرائيل ومكانتها وعلاقاتها الخارجية، ويمكن الإشارة إلى أهمها على النحو الآتي:

أولاً، العلاقة مع يهود الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ ينتمي معظم اليهود في الولايات المتحدة للتيار الإصلاحي والمحافظ في اليهودية، ويتبنون مواقف ليبرالية، ويصوت أغلبهم للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة. وقد عبّر اليهود في الولايات المتحدة عن قلقهم من التغيرات التي ستقوم بها الحكومة الإسرائيلية على المستوى الدستوري، والتي سوف تمس النظام الديمقراطي والقيم الليبرالية التي يؤمن بها يهود الولايات المتحدة، ويترافق هذا الموقف المعارض لهذه التغييرات مع هيمنة المؤسسة والأحزاب الدينية الأرثوذكسية في الحكومة الذين يحاولون السيطرة على الحيز العام الإسرائيلي، والذين يعتبرون التيار الإصلاحي أو المحافظ في اليهودية تياراً معطوباً في يهوديته. وكان لافتاً للنظر تصريح أبراهام فوكسمان، الذي شغل منصب مدير عام الرابطة ضد التشهير (Anti-Defamation League) في الولايات المتحدة، الذي قال فيه إنه “إذا حصل سموتريتش وبن غفير على ما يريدون، فستخسرني إسرائيل وكل يهود الولايات المتحدة”.

ثانياً، العلاقة مع الولايات المتحدة؛ فقد أعلنت الإدارة الأمريكية بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو أنها تتوقع من الأخيرة الحفاظ على القيم المشتركة بين البلدين، إذ تعتبر الولايات المتحدة هذه القيم جزءاً من توجهها لدعم إسرائيل في المحافل الدولية. وكان الكاتب اليهودي الأمريكي توماس فريدمان قد نشر مقالاً طالب فيه إدارة بايدن بالوقوف ضد إجراءات حكومة إسرائيل، مُعتبراً أن بايدن هو الوحيد القادر على وقف القرارات والإجراءات للحكومة الإسرائيلية والتغييرات التي ستحدثها في نظامها الديمقراطي، وإنقاذ إسرائيل من الحكومة المتطرفة فيها. وفي الواقع لن تتسرع الإدارة الأمريكية في تصعيد العلاقة مع الحكومة الجديدة قبل أن تتضح صورة التغييرات الدستورية التي ستنفذها الحكومة، وتداعياتها السياسية الداخلية على النظام الديمقراطي وعلى الضفة الغربية، لا بل ستحاول التعاون مع نتنياهو ودفعه إلى منع إجراء تغييرات جوهرية في المبنى الدستوري الإسرائيلي.

ثالثاً، العلاقة مع الاتحاد الأوروبي؛ إذ ستؤدي التغييرات الدستورية إلى توتر العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، ففضلاً عن المعارضة التي ستكون لدى دول أوروبية ضد التغييرات الدستورية لما تنطوي عليه من مسّ بحقوق المواطن والأقليات، فإنها تلك التغييرات سوف تُقلل من التزام دول أوروبية بدعم إسرائيل في المؤسسات الدولية، وهنا كان لافتاً أن 27 دولة أوروبية وقّعت مؤخراً على بيان يُدين العقوبات التي فرضتها إسرائيل على السلطة الفلسطينية، ومنها دول عارضت أو امتنعت قبل ذلك على قرار الأمم المتحدة الذي طالب محكمة العدل الدولية بتقديم موقف قانوني حول الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وأهمها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. بالإضافة إلى ذلك، فإن منح الحكومة الإسرائيلية الحرية، من دون ضوابط دستورية، لمصادرة أراض فلسطينية خاصة، وهدم بيوت فلسطينية، وشرعنة البؤر الاستيطانية سوف يعمق التوتر والأزمة مع الاتحاد الأوروبي، حيث يعمل الأخير على دعم البناء الفلسطيني في مناطق (ج) في الضفة الغربية، وسيَعتبر هذه الإجراءات “اغتيالاً” مقصوداً لحل الدولتين.

رابعاً، المُساءلة القانونية في المؤسسات الدولية؛ ستؤثر التغييرات التي ستجريها الحكومة الإسرائيلية في مكانة إسرائيلية الدولية من الناحية القانونية، فقد كانت استقلالية القضاء وسمعة المحكمة العليا الإسرائيلية دولياً، مانعاً أمام تبنّي إجراءات قضائية ضد الجنود والضباط الإسرائيليين في المحاكم الدولية، فقد كانت المؤسسات القضائية الدولية، وحتى المحلية في دول مختلفة، ترى أنه لا حاجة إلى محاسبة ومحاكمة ضباط الجيش الإسرائيلي بسبب وجود جهاز قضائي إسرائيلي مستقل “يحاسب” الجيش على انتهاكات يرتكبها خلال الحروب، أو في الضفة الغربية. وحرصت إسرائيل على الحفاظ على خطوط حمر في تعاملها مع العالم، ومنها الادعاء بأن الاحتلال مؤقت والحفاظ على مكانة المحكمة العليا، ومع تجاوز هذين الخطين فإن إسرائيل ستكون أكثر عُرضة لمساءلة القانون الدولي الذي لن يثق بالإجراءات القضائية الإسرائيلية، وبخاصة إذا شرّعت الحكومة القانون الذي يمنح الحماية للجنود الإسرائيليين من المساءلة القانونية ضد انتهاكات حقوق الإنسان وقوانين الحرب في الضفة الغربية وقطاع غزة.

خامساً، العلاقة مع الفلسطينيين؛ ستؤثر التغيرات الدستورية في العلاقة مع الفلسطينيين، من حيث إنها سوف تزيل عن الحكومة كل رقابة أو مساءلة قانونية تتعلق بالممارسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بحيث تستطيع الحكومة اتخاذ قرارات متعلقة بالضفة الغربية تتضمن انتهاكات لحقوق الفلسطينيين دون أن تكون هناك إمكانية للجهاز القضائي أو المستشارين القضائيين لمنع هذه الإجراءات. فعلى سبيل المثال، ستتمكن الحكومة من مصادرة أراض خاصة للفلسطينيين بهدف الاستيطان، أو شرعنة بناء استيطاني على أراض خاصة، وذلك عبر قانون “التسوية” الذي حاول اليمين قبل سنوات تشريعه، والذي يهدف إلى تقنين استيلاء المستوطنين على أراض فلسطينية خاصة وبناء وحدات استيطانية عليها، وكانت المحكمة العليا قد ألغت هذا القانون في قرار لها في يونيو 2020، واعتبرته غير دستوري. علاوة على ذلك، ستُمكن التغييرات الدستورية من عدم محاسبة الجنود الإسرائيليين على انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني، وتشريع قوانين تعطي الحماية للجنود الإسرائيليين بصورة غير دستورية.

استنتاجات

تتجه إسرائيل نحو أزمة دستورية وسياسية، وتعميقٍ للتصدع السياسي-الاجتماعي في المجتمع الإسرائيلي. وسيزداد التصدع بسبب أن كل طرف من طرفيّ الصراع في إسرائيل يرى أن إسرائيل تقف على مفترق طرق في تحديد هويتها ووجهتها وشكل نظامها السياسي. فالقواعد الاجتماعية اليمينية والدينية والمحافظة تريد تغيير النظام السياسي الإسرائيلي من خلال إعادة تشكيل العلاقة بين السلطات الثلاث، بحيث يخدم مشروع اليمين ويعطي القوة للأغلبية من دون ضوابط دستورية. ويتعزز هذا الهدف لدى اليمين لاقتناعه بقدرته على البقاء في الحكم سنوات طويلة بسبب وجود أغلبية يمينية متماسكة، فضلاً عن ميل التحولات الديمغرافية في المجتمع الإسرائيلي إلى مصلحته. وفي المقابل، فإن قواعد المعارضة، المكوَّنة أساساً من قواعد غير متدينة وليبرالية أو محافظة معتدلة، ترى في مشروع الحكومة انهياراً للنظام الديمقراطي، لذا من المرجح أن تزداد حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي.

وبينما استطاعت الحكومة تجاوز الأزمة السياسية التي أعقبت إلغاء تعيين درعي وزيراً في الحكومة، إلا أن قرار المحكمة العليا بهذا الشأن عمّق العداء بين الحكومة والسلطة القضائية، وبخاصة بين قواعد حركة شاس الشرقيين المتدينين والجهاز القضائي، وزاد الضغط الشعبي اليمني على الحكومة لتنفيذ مشروعه فيما يتعلق بالسلطة القضائية، والذي سيرافقه ازدياد الاحتجاجات الشعبية ضد هذا المشروع.

وقد أثبتت الأزمة السياسية مع حزب الصهيونية الدينية، بعد إخلاء بؤرة استيطانية في الضفة الغربية، أن الحكومة رغم تماسكها عُرضةٌ للصراعات الداخلية بفعل الضغط الدولي الذي قد يمنع الحكومة الإسرائيلية من تنفيذ مشاريعها في الضفة الغربية وفي النظام السياسي، فكلما انصاع نتنياهو لهذا الضغط، وبخاصة فيما يتعلق بالاستيطان، ستتفاقم الأزمة السياسية في الحكومة.

وعلى مستوى السياسة الخارجية، فإن تنفيذ مشروع الحكومة فيما يتعلق بالسلطة القضائية سوف يمس علاقات إسرائيل مع اليهود في الولايات المتحدة، ومع الدول الأوروبية والولايات المتحدة، الذين ينطلقون في دفاعهم عن إسرائيل من القيم المشتركة التي تجمعهم، مثل الديمقراطية واستقلالية الجهاز القضائي والقيم الليبرالية وحقوق الأقليات. وسيكون الانعكاس الأساسي لمشروع اليمين على الفلسطينيين، حيث سيتم تحييد المحكمة العليا في منع إجراءات ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، مثل مصادرة أراض خاصة بهدف الاستيطان أو شرعنة البؤر الاستيطانية غير القانونية بحسب القانون الإسرائيلي، والمس بحقوق الفلسطينيين اليومية دون وجود رادع أو رقابة قانونية ودستورية. 

السابق
العاصفة تابع..هذه هي الطرق المقطوعة والسالكة امام السيارات!
التالي
احتدام «حرب الكمائن» الرئاسية..والاحتقان الشعبي يشتدّ!