العطار: صوت لقمان عَصيٌّ على الكِتمان.. القاتلُ يقتل كل شيء الا الافكار

لقمان سليم

في الذكرى الثانية على وفاة الباحث السياسي لقمان سليم كتب نجيب علي العطار على فيسبوك التالي: “في حضرةِ لُقمان تلوذُ ذاكرتي بالصَّمت.. أُفتِّحُ أبوابَها بحثًا عن قُصاصةِ ذكرى، أو اثنتَيْن، تُعيدُ إلى قلمي بعضًا من حِبرِه المتردّدِ في الرّسمِ على الورق.. أُمزّقُ الحُجُبَ التي تحولَ دونَ الإمساكِ بلحظةٍ ترتكبُ الهَرَبَ من شريطِ الذكريات خاصّتي.. لكن عبثًا تَضيعُ محاولاتي.. ليسَ عندي من الذّكرياتِ معه سوى ذكرى واحدة.. واحدةٌ بكلِّ ما لكلمة “واحدة” من حَسرة.. ذكرى واحدة.. نظرةٌ واحدة.. وطَيْفُ لِقاء.. لا حيلةَ لذاكرتي إلّا بهذا اللّقاءِ السّريع كما الضَّوء.. بَخيلةٌ ذاكرتي.. أو القَدَرُ بَخيل.. ورُبّما البُخلُ سِمةٌ لكلَيْهِما…

في حضرةِ هذه الذكرى الخفيفةِ كما النّسيمِ تتبدّلُ كُلُّ قوانينِ الطَّبيعة، ويُراودُني عن قلبي وعقلي سؤالٌ عميق؛ كيفَ لهذا النَّسيم أن يصيرَ عاصفةً من نارٍ وغَضَب؟ في كلِّ مرّةٍ أُلقي بهذا السُّؤالِ بين أوراقي أُدركُ أنّ القاتلَ لم يكُنْ قاتلًا وحسبْ.. بل كان مُجرمًا بكُلِّ ما يحملُ الإجرامُ من آياتٍ بيّناتٍ في ألسنةِ المُجرمينَ وأفئدتِهم.. وأُدركُ كم من المعنى لهذا اليوم عِندي.. فهو بعدَ كُلِّ شيءٍ، أو ربّما قبلَه، «اغتيالٌ» لرغبةٍ في لقاءٍ طويلٍ مع لُقمان.. وأُدركُ أيضًا أنّ ذاكرتي ليستْ بخيلة.. ولا القدرُ بخيل.. بل القاتلُ مُجرمٌ.. وهذا «تحصيل حاصل: القاتلُ يَقتُل».. يَقتلُ كُلَّ شيء.. إلّا الأفكار…

أوراقي تَنظرُ إليَّ بِعَتَبٍ عَميق.. وتُحدّقُ في عينَيْ قارئِها بعَتَبٍ أشدُّ عُمقًا ثُمَّ تنقلبُ بيضاءَ لا كلام فيها.. تتطايرُ فأتلقّى أحرفَها المبعثرةَ عن اليمينِ وعن الشِّمالِ ثُمَّ أُعيدُ ترتيبَها بما يليقُ بصاحب هذا اليوم؛ لُقمان.. أُرتّبُها بالصُّورةِ التي هو أهلٌ لأنْ يُخاطبَ بها.. لا لشيء ولكن يبقى للأفكار أدبُها الخاصُّ في المُخاطَبة.. وكذلك صارَ لُقمان.. ما أجملَه! يُقارعُ قاتليه من عَليائِه ويَنتصرْ.. يُريدون بقتلِه أن يقتلوا أفكارَه فيقولُ؛ هاؤمُ السَّيفَ، سأصيرُ اليومَ فكرة.. هاؤم كاتمَ الصَّوتِ، فصَوتي عَصيٌّ على الكِتمان.. هاؤمُ مدافعَكُم وهاؤمُ اقرءوا كِتابيَ…

لا عَجبَ ولا غرابةَ من فعلِ أوراقي؛ فهي وأنا نخجَلُ إذا قيلَ عنّا أنّنا في حضرةِ الرِّثاء.. نخجلُ من صوتِ لُقمان ذي العَتَبِ العميقِ كأفكارِه؛ ليس لي بينَكم مقامٌ للرِّثاء.. فـ «رثاء الأحياء مذمّة.. تأدّبوا».. أجل! لستُ في مقامِ الرِّثاء أبدًا.. أنا في مقام اللّقاء.. اللّقاء الذي لا فراقَ بعدَه.. هكذا يلتقي الجسدُ الحيُّ بالفكرة.. لا شيء في نفسي إلّا استغباء كاتمِ الصَّوتِ وصاحبِه.. لكن لا عجَبَ.. فصوتِ الإجرامِ في فقرٍ لا يسدُّه إلا كاتمُ الصَّوت…

يعبثُ الخيالُ بسَيْرِ الأحداثِ على شاشةِ الذِّهن خاصّتي فَيُرجعُني سنتَيْن إلى الأمام.. لا شيء سوى لُقمان الذي يُحدّقُ في البعيد اللامتناهي.. لا صوتَ إلّا صوتُه يودّعُ «الأرضَ الأمَّ التي ترتوي بدماء أبنائها الشُّهداء».. لا تعليقَ على كُلِّ ما يجري حولَه إلّا؛ « في الأُفقِ المُكفَهِرّ: السَّماءُ تُغمضُ عينيْها».. لا سؤالَ يتطايرُ مع دخان سجائرِه إلّا سؤالٌ واحد؛ « لماذا يُستقلُّ على الأبطال أن يُستشهدوا في أحضان عشيقاتهم؟».. لا جوابَ إلّا صدى كاتمِ الصَّوتِ يُشرِّعُ أمام لُقمان كُلَّ أبوابِ الخلود.. لا جوابَ إلّا صدى كاتمِ الصَّوت.. ولا هروب.. «ولا هروب إلّا إلى الأمام»…

السابق
في ذكراه الثانية.. لقاء لقمان سليم اليوم وتوزيع غاره
التالي
في ذكراه الثانية.. «حقيقة» لقمان أصدق من رصاصهم!