في ذكراه الثانية: «جنوبية» ينشر «آخر كتاب لقمان»..«حزب الله من بداية الظهور إلى بداية السيطرة على لبنان»(1)

كان الشهيد لقمان سليم، الذي اغتالته يد الغدر في العام 2021، أحد العقول العربية التنويرية والإصلاحية، عموماً، واللبنانية خصوصاً، والشيعية على وجه أكثر خصوصية (إكما هو الشائع والسائد في لبنان منذ ولادته). ولقد اغتيل لقمان سليم، لأنه كان عقلاً مثمراً، في بناء لبنان، بناءً وطنياً جامعاً، لا فرق فيه بين لبناني وآخر، إلا في مجال التقصير الواضح والفاضح (المقصود أو غير المقصود) في حماية لبنان، من شروره الطائفية والمذهبية القاتلة، بوجوهها كافة، وذلك على ما أثبتت كل وقائع هذه الشرور البشعة والمرذولة، من قبل كل ذي عقل راجح، وكل ذي نفس سمحاء. فلقد أراد لقمان أن يكتب ويؤرشف تاريخاً جديداً وحديثاً للبنان، (أي تاريخ ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية) لا يُفرّق بين لبناني وآخر، إلا بدرجات الإخلاص الكامل للبنان كوطن حقيقي ونهائي لجميع اللبنانيين.

لقد اغتيل لقمان سليم، لأنه كان عقلاً مثمراً في بناء لبنان بناءً وطنياً جامعاً

أرشفة تاريخ جديد وحديث للبنان على أيدي لقمان

ولقمان الذي نذر فكره المبدع والخلاّق، وعلى نحو تجريدي خالٍ، تماماً، من الأهواء والنوازع الطائفية والمذهبية، لكتابة ومن ثم أرشفة، تاريخ حديث وجديد للبنان على أسس صحيحة، وصريحة، في آن معاً، لا تقبل التعمية التجهيلية المقصودة، ولا الأسطرة الفارغة، المقصودة أيضاً.
لأن نزعتي التعمية والأسطرة كلتاهما (مجتمعتين تارة وكل واحدة منهما، على حدة، تارة أخرى) واللتان من تجلياتهما: “أللا (الله) الخلق لبنان لبناني”، “ولبنان شو لبنان هالكم أرزة العاجقين الكون هالقبل ما في كون كانوا هون”. أو بما معناه “لبنان بلد المقاومة فقط لا غير والباقي هُراء”.

هاتان النزعتان أبقتا لبنان معلّقاً وبتأرجح مذهل على حبال الهواء يهوي لأي هبّة ريح حتى

هاتان النزعتان أبقتا لبنان معلّقاً وبتأرجح مذهل، على حبال الهواء، يهوي لأي هبّة ريح، حتى. وإن كانت خفيفة!، ومن أية جهة أتت.
إن كتابة ومن ثم أرشفة تاريخ جديد وحديث للبنان، على أيدي لقمان سليم، على الأسس التي أسلف ذكرها، هما كتابةٌ وأرشفةٌ يندرج ضمن نطاقهما كتيِّب للشهيد لقمان سليم، من آخر ما كتب، يحمل عنوان: “حزب الله من البداية إلى البداية”، قامت بإصداره “مؤسسة دار الجديد” في بيروت. (ودار الجديد هي إحدى مؤسسات لقمان سليم الثقافية). ولقد أرخّت دار الجديد هذا الكُتيِّب على النحو التالي: “صدر هذا الكُتيِّب يوم 3 شباط (فبراير) 2023 – عامان على اغتيال لقمان سليم بين نيحا والعدوسية – جنوب لبنان” .
وهذا الكُتيّب يوثّق، بحثياً وعلمياً، وموضوعياً على الصعيد التحليلي الصرف، خلفية ولادة حزب الله وأيضاً ولادة ونشأة واستمرارية حزب الله كحزب سياسي وعسكري، على الساحة اللبنانية.
أي أن هذا الكتيّب يسرد سيرة حزب الله (وكما تختصرها رمزيّة العنوان)، من بداية ظهوره في لبنان إلى بداية سيطرته على لبنان.

«حزب الله من بداية الظهور إلى بداية السيطرة على لبنان»

و لمناسبة ذكراه الثانية، ينشر “جنوبية”، محتويات هذا الكُتيّب على حلقات عدة. وفيما يأتي محتوى نص الحلقة الأولى بعناوينه الأساسية:

الحرب تقدم أوراق اعتمادها

…وعلى ما يقول أحدهم، لا بأس أحياناً من التذكير بما يفترض أنه غني عن ذلك: في الثالث عشر من نيسان 1975 بدأت الحرب في لبنان، شأن حروب أخرى، بل قل شأن المعظم من الحروب، لم يُطلق اسم الحرب، أو “الحرب الأهلية”، من أول الأمر، على ما بدا يومذاك، بيد أن استئخار التسمية في ما يشبه السعي إلى تأجيل الاعتراف بأن حرباً أهلية قد بدأت، والاستعاضة من هذه التسمية بأوصاف مخففة، لم يكن مما يعوّل عليه ليُغيّر من واقع الحال شيئاً. لا يعنينا في هذا المقام أن نعود إلى الأسباب التي تسببت باندلاع تلك الحرب على النحو الذي كان ولكن يعنينا أن نتوقف عند جزئية واحدة بديهية عابرة للحروب الأهلية التي تقع في بلد تحكمه، نظرياً، حكومة مركزية ومفاد هذه الجزئية أن الحكومة المذكورة لا تفقد فقط مركزيتها السياسية ولكنها تفقد أيضاً، بمقدار يختلف من حرب إلى أخرى، سيادتها بالمعنى المجرّد للكلمة كما بمعناها الحرفي والجغرافي.

لا يعنينا أن نتوقف عند جزئية واحدة بديهية عابرة للحروب الأهلية التي تقع في بلد تحكمه نظرياً حكومة مركزية

هو كذلك ولا أخالني أحتاج إلى التذكير أيضاً بأن هذه الحرب التي قدمت في 13 نيسان 1975 كل أوراق اعتمادها، كانت قد ذرّت قرْنها لسنوات طويلة سبقت وأنها، بمقدار ما كانت تذر بقرنها، كانت سيادة الدولة اللبنانية، بالمعنيين المذكورين أعلاه، تنحسر، شيئاً فشيئاً، لمصلحة لاعبين شتى. ولقد تُسرع إلى الخاطر عند الحديث عن هؤلاء اللاعبين أسماء سوريا وإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، ولا ضير في ذلك شريطة ألا يغفل المرء بأن هذه اللائحة ليست بالتامة. وإذ تتعدد التشابيه التي يمكن أن تُشَبّه بها الحرب اللبنانية، أو بالأحرى التشابيه التي يمكن أن تقرْب هذه الحرب إلى المتناول، فكأني بـ”الباب الدوّار” تشبيه يستحق الاستثمار فيه.

عراق صدّام وإيران الخميني

لن أحصي على مسامعكم كل اللاعبين الذين دخلوا لبنان خلل هذا الباب الدوار، واستقر لهم المقام فيه، أو أولئك الذين دخلوا ثُم لم يلبثوا أن كُتب لهم وعليهم، أن يخرجوا منه – بل، في معظم الأحيان، أن يخرجوا منه عنوة. اكتفي من تلك اللائحة الطويلة من اللاعبين بالإشارة إلى لاعبين اثنين فحسب: عراق صدام حسين وإيران الخميني.
لقد يبدو في هذا العطف، اليوم – عطف عراق صدام على إيران الخميني شيء من العبث: فعراق صدام، غير المأسوف عليه، صَدَّاماً أعني، التحق بخبر كان منذ عقود، أي من قبل أن يسقط نظام صدام، في حين أن رايات إيران الخميني، السافرة منها عن فارسيتها، والمقنّعة منها بما أنزل الله به من حق وباطل وبما لم ينزل، ترفرف متجبّرة متوعدة في سماء أربع عواصم عربية…
فيم أعود بكم إلى البدايات من حرب لبنان وفيم أوازن بين عراق صدام وإيران الخميني؟ ببساطة، لأن جذور الألغُوزة التي نتداعى اليوم إلى فكها تضرب هناك – في لبنان، وفي تفكك أوصال دولته، وفي انحسار سيادة الدولة اللبنانية حد التلاشي، وفي حرب لبنان، بالمعنى الأوسع لهذه الكلمة لا بالمعنى العسكري الضيق، وفي ما يشبه الإجماع، من قنوط أو من قلة حيلة، على التغاضي، ولو على مضض، عن مضي هذه الحرب قُدماً، وعلى التغاضي، استطراداً، عن ازدهار الظروف الموضوعية التي تتيح للألغوزة إياها أن تزداد استغلاقاً وغموضاً، وأن تقوى شوكة، وشر من هذا وذاك أن تُنزل نفسها في عيون البعض، وفي حساباتهم، منزلة الركن من أركان الاستقرار – أقله استقرار لبنان!
أعود عَودي على لبنان الحرب وعراق صدام: نعم، مضى حين من الدهر كان فيه لهذا العراق، ولبعثه، حضور ومنزلة يصعب اليوم أن تتخيل ما كانا عليه من اتساع: كان له، عشيات الحرب، نواب في البرلمان اللبناني، وكان له خلال الحرب ممثلون في الميدان بشخص ميليشيتين اثنتين: واحدة لبنانية هي الجناح العسكري لحزب البعث وأخرى فلسطينية هي “جبهة التحرير العربية” وحدِّث ولا حرج عن كل أوجه الحضور الأمنية والثقافية والإغاثية الأخرى.

حسنُ الضيافة الثورية

أعود عودي على لبنان الحرب وإيران الخميني فأقول لا منزهاً قولي عن النقاش فيه، أو لربما تصويبه: لا يضاهي سهولة تتبع حضور عراق صدام في لبنان، رغم عراقة هذا الحضور بلحاظ أن عراق صدام إنما ورث، في لبنان كما في بلدان أخرى، التاريخ المديد لصراع البعثين، إلا صعوبة تتبع حضور إيران الخميني فيه. ولهذا ثلاثة أسباب على الأقل: أما الأول فإن حضور إيران الخميني، قبل إسقاط نظام الشاه، إنما اندرج في إطار “حُسن الضيافة الثورية” – إن جازت العبارة – الذي عمّمه استيلاء منظمة التحرير الفلسطينية على نصيب وافر من السيادة اللبنانية، وإنما ارتباط في المحل الأول بأفراد وبمجموعات مبعثرة ولو أن بعض الأفراد لم يلبثوا أن تبوّأوا، مع إسقاط نظام الشاه، مناصب عالية في النظام الخميني؛ وأما الثاني، فإنّ المرحلة التي امتدت بين إسقاط نظام الشاه، وبين استعلاء الخمينية على “الثورة” هي من أعقد المراحل في التاريخ الإيراني الحديث من حيث ما شهدته من صراعات بين القوى المتنافسة على الساحة الإيرانية، وأما الثالث فالسياسات الملتبسة للنظام السوري، ذي النفوذ الراسخ في لبنان من الحضور الإيراني فيه، علماً، ومن باب التذكير ليس إلا، أن النظام السوري كان أول المبادرين إلى الاعتراف بإيران الجديدة.

فالحرب لا تنتظر أن يوافيها سنُّ البلوغ لتبدأ بالتناسل وهذا ما كان من أمر الحرب التي استهللتُ كلامي بالحديث عنها: حرب لبنان

شأن كل الحروب التي سمع الواحد منا عنها او قرأ، أو حتى تلك الدائرة من حولنا، لا حرب تقبل التصريف والتعريف بصيغة المفرد؛ فالحرب لا تنتظر أن يوافيها سنُّ البلوغ لتبدأ بالتناسل. وهذا ما كان من أمر الحرب التي استهللتُ كلامي بالحديث عنها: حرب لبنان.

حرب السفارات

في عداد حروب صغيرة كثيرة شهدها لبنان عشية المنعطف الذي كانه اجتياح إسرائيل في حزيران 1982، كانت حرب لم تنل، لسوء الحظ، حق نصيبها من التوثيق ومن البحث ومن الدراسة بلحاظ مفاعيلها، بين عراق صدام وبين إيران الخميني في لبنان.
بما يشبه الدعابة أطلق بعض الإعلام اللبناني على هذه الحرب إسم “حرب السفارات” باعتبار أن أجلى تعبيرات هذه الحرب كانت تلك الاشتباكات التي وقعت، طوال أشهر، دورياً، بين مسلحين متحصنين في مبنى السفارة العراقية، (سابقاً)، وبين مسلحين متحصنين في مبنى المستشارية الثقافية الإيرانية؛ ولكن هذه الحرب لم تقتصر على شقها المشهدي هذا الذي انتهى رمزياً يوم أن اقتحم انتحاري مبنى السفارة العراقية وأحالها إلى أثر بعد عين. فإلى جانب الحرب الصريحة بين تينك المبعوثيَّتين الديبلوماسيتين كانت هذه الحرب تمضي على قدم وساق، هنا على صورة اشتباك موضعي، وهناك على صورة تفجير لمكتب حزبي، وهنالك على صورة اغتيال سياسي.

في عداد حروب صغيرة كثيرة شهدها لبنان عشية المنعطف الذي كانه اجتياح إسرائيل في حزيران 1982 كانت حرب لم تنل لسوء الحظ حق نصيبها من التوثيق ومن البحث ومن الدراسة بلحاظ مفاعيلها

لن أكرر ما تقدم من قولي بأن هذه الحرب التي دارت “بالتجزئة” تستحق مزيد توثيقٍ وبحثٍ وإنما أثِب توّاً إلى الخلاصة التي تعنينا في هذه المقام والتي مفادها أن هذه الحرب أذنت بشروع إيران الخميني بتنفيذ خطة “تطهير سياسي” في صفوف اللبنانيين الشيعة ينتهي الأمر معها بتحوُّل هذه الجماعة اللبنانية إلى جماعة ذات صفاء مذهبي طارد للتنوع، او في الأقل ذات شعور بالصفاء المذهبي، أي إلى كتلة صماء، أو شبه صماء، يسهل التحكم بها وبمقدراتها وبمصيرها. لقد تُثير الإحالة إلى “إيران الخميني” بعض التحفظ حيث إن مُلك إيران ومَلَكها لم يكن قد آل بعد، بالكامل، إلى الخميني ونهجه، ولكن الرد على هذا التحفظ ليس بالأمر الشاق. فمن يدقق في الحضور الثوري الإيراني في لبنان ما قبل إسقاط نظام الشاه وما بعده يتبين، بيُسر، أن الرجحان في هذا الحضور كان لذلك النهج من خلال أعتى دُعاته.

السابق
القاتل قاضياً والقاضي قاتلاً
التالي
خارطة الطريق الرئاسية «الوعرة».. 9 مرشحين!