إيران تعيش فصول التجرُّؤ على «الهالة المقدّسة» لخامنئي وسليماني: إسفين جديد في نعش النظام

علي خامنئي

كان ينقص النظام الإيراني أن تخرج مجلة “شارلي إبدو” الفرنسية الساخرة برسوم كاريكاتورية للمرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في خضم الأزمة الأخطر التي يواجهها منذ قيام “الثورة الإسلامية” قبل عقود أربعة. قالت الصحيفة إنها أرادت بإطلاقها مسابقة رسوم كاريكاتورية بعنوان “خلع خامنئي” دعم نضال الشعب الإيراني من أجل الحرية، وذلك من خلال الاستهزاء بهذا القائد الديني الذي ينتمي إلى عصر آخر وإلقائه في مزبلة التاريخ.

لم تلاقِ رسومات المسابقة اللافتات التي رفعتها الحركة الاحتجاجية وهتافات المتظاهرين “الموت لخامنئي” و”الموت للديكتاتور” فحسب، بل عملتْ على تحطيم تلك الهالة والقُدسية التي يتمُّ إلصاقها بالولي الفقيه. دقَّت الإسفين في نعش هذا النظام العقائدي الديني حين تجرَّأت على حاكمه ورمزه وأُلوهيته. انتقمتْ لكل القمع، والإهانة، والسحل، والقتل الذي تعرَّضتْ له المرأة الإيرانية بسبب ما تعتبره السلطات الدينية “الحجاب السيئ” الناجم عن عدم ارتداء الملابس الشرعية بالطريقة الصحيحة. عكستْ أصوات النساء اللواتي خرجْنَ إلى الشوارع رافعين شعار “امرأة، حياة، حرية” احتجاجاً على مقتل الشابة الكردية في السادس عشر من أيلول/سبتمبر على يد شرطة الأخلاق.

اقرأ أيضاً: حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: المرشد والحجاب.. «سفور» في الخفاء و«تشدد» في العلن!

ومن سوء حظ النظام حلول الذكرى الثالثة لمقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني في خضم الحركة الاحتجاجية، إذ تحوَّلت صوره ولوحاته إلى هدفٍ للمحتجين حيثما وصلت أيديهم في أنحاء إيران، ما دفع بالسلطات إلى تأمين حراسة لأنصب سليماني منعاً لتخريبها. إنها مفارقة أن يكون الإيرانيون في قلب بلادهم يُضرمون النيران في صور سليماني فيما هي ترفرف في العراق، واليمن، وسوريا، ولبنان، وغزة، حيث تغلغلتْ أذرع الحرس الثوري الإيراني.

تُدرك الأنظمة الديكتاتورية أنه حين يتجرّأ الشعب على القائد وصورته تكون بداية النهاية، لأن الشعب يكون قد كسر جدار الخوف، وبات توقه للحرية وموته في سبيلها هما الجنّة التي يُوعد بها في الآخرة. تجرُّؤ الشعب على النظام ورموزه يُقلقه ويُنذر بشؤم قادم عليه. يضيق صدره من أي فعل إذا شعر أو استوحى أنه يستهدفه. فالسلطات الإيرانية اعتقلت الطاهي نواب إبراهيمي – الذي تتابعه الملايين على مواقع التواصل الاجتماعي – وأوقفتْ حسابه على “انستغرام” وفيما لم تُعلن عن السبب، قال مغرّدون إنه بثَّ فيديو في ذكرى سليماني لطريقة إعداد “الكتليت” (الطبق الإيراني التقليدي الذي يُشبه الكباب المشوي) والذي ينشر مناهضو النظام صوراً له تجسيداً لتحوّله إلى أشلاء محترقة بفعل الغارة التي استهدفته. ونقل موقع “إيران إنترناشونال” عن صحيفة “همشهري” التابعة لبلدية طهران أن إبراهيمي، الذي أُقفل مطعمه في طهران ونقل إلى سجن إيفين “ارتكب أعمالاً مُهينة” في ذكرى سليماني.

وكالة “هرانا” للأنباء التابعة لنشطاء حقوق الإنسان في إيران أحصتْ في تقرير لها سقوط 516 قتيلاً في الاحتجاجات حتى الثاني من كانون الثاني/يناير الحالي، بينهم 70 على الأقل دون الثامنة عشرة. وأفادت أن 161 مدينة إيرانية كانت مسرحًا لمظاهرات مناهضة للنظام الذي اعتقل ما لا يقل عن 19204 متظاهرين، وتمَّ تحديد هوية 4566 منهم من قبل منظمة حقوق الإنسان هذه. وذكر التقرير أن 144 جامعة على الأقل كانت مسرحًا لاحتجاجات طلابية خلال هذه الفترة، وانه تمَّ اعتقال 687 طالبًا.
وأصدرت المحاكم الثورية عشرات أحكام الإعدام لمتظاهرين بتهمتَي “الحرابة” و”الإفساد في الأرض” وتمَّ تنفيذ حكمين اثنين بحق محسن شكاري ومجيد رضا رهنوردو، ويتمُّ التهديد بالمضي قدماً في تعليق المشانق علّها تُطفئ نار التغيير التي اندلعت في الداخل مهددة قلب “البيت الديني” الذي يخوض معركة تكريس نفوذه في المعادلة الإقليمية والدولية وهو يمدُّ أذرعه إلى دول الجوار، ويُفاوض على السلاح النووي، ويُزوِّد روسيا بالمسيَّرات في غزوها لأوكرانيا، ويريد أن يكون شريكاً إلى جانب موسكو وبكين في إعادة رسم ركائز النظام العالمي الجديد!

ليس هناك أدنى شك بأن النظام سيلجأ إلى كل الوسائل للدفاع عن نفسه، ذلك أنها معركة وجود، ومعركة حياة أو موت. ففي حين لم تنجح الآلة الأمنية-القضائية في وأد الاحتجاج الذي فجَّرته مسألة “الحجاب” وتعدَّته في الواقع إلى مطالبات أوسع تطال عُمق النظام وتركيبته العقائدية والدينية، خطا الولي الفقيه خطوة إلى الوراء، حين اعتبر أن المرأة التي لا تخضع لـ”الحجاب الإجباري” ليست “معادية للدين والثورة”. ففي لقاء مع نساء داعمات للنظام قُدِّمْنَ على أنهن “النساء المتعلمات” قال خامنئي إن المحتجّات لم يقمن بخلع حجابهن بشكل كامل أثناء الاحتجاجات ووجهن صفعة للمروّجين بخلعه. تحدَّث عن “الحجاب الناقص” مشيراً إلى أن “ضعف الحجاب ليس بالشيء الصحيح، لكنه لا يجعلنا نعتبر ذلك الشخص خارج دائرة الدين والثورة” لافتاً إلى أن “النساء والفتيات ناقصات الحجاب هن أيضًا نساؤنا وفتياتنا”. ورأى أن النساء والفتيات الرياضيات هن “أفضل دعاية للحجاب”. تجاهل أنهن خلعْـنَ حجابهن تضامناً مع الحركة الاحتجاجية، وأن العديد من النساء والفتيات أضرمْنَ النار في أوشحتهن خلال التظاهرات احتجاجاً على مسألة الحجاب.

آخر النماذج المناقضة لكلام خامنئي جاء من الممثلة ترانه عليدوستي التي تمَّ اعتقالها قبل أسابيع ثلاثة يوم احتجَّت على وسائل التواصل الاجتماعي على إعدام محسن شكاري، والتي أُطلق سراحها بعد موجة من الإدانات الدولية ودفعها كفالة مليار تومان. ما أن خرجت عليدوستي من سجن “إيفين” حتى نزعت حجابها رفضاً للالتزام به.
ما كان بإمكان خامنئي أن يكون قاطعاً بالقدرة على فرض مفاهيم الدين كما يراها. ما كان قادراً على إلقاء الحرم على “الحجاب الناقص” وتصعيد المواجهة، فكان لا بدَّ من خطوة في إطار احتواء الموقف من دون أن يعني ذلك قبولاً بالوقائع المستجدة. فالمرأة ما زال من واجبها أن تلعب دور الزوجة والأُم ومهامها “التدبير المنزلي” وإن كان أَسرَّ للحاضرات بأن “استخدام المرأة المتعلمة، والمطلعة، والحكيمة، وذات الخبرة في مختلف مستويات صُنع القرار في الدولة هي قضية مهمة شغلت ذهني لفترة طويلة وإن شاء الله سنجد حلًا لها”.

لا يزال من المبكر التكهن بمآلات كلام خامنئي وتأثيراته، ليس على الحركة الاحتجاجية التي تجاوزت سقف الحجاب، بل على التركيبة الدينية وامتداداتها السياسية والأمنية في “معركة” وراثة موقع ولاية الفقيه، حيث تتمركز قوّة النظام الذي عليه أن يتعامل مع أزمته العقائدية بوصفها الركيزة الأساسية له، ومع الضغوط الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها شعبه، ومع التمييز الذي تواجهه القوميات الإيرانية غير الفارسية، والتي تُعاني مناطقها في الأطراف من تهميش وحرمان سياسي واجتماعي، قبل أن يكون عليه أن يتعامل مع الضغوط الخارجية المرجّح أن تأخذ منحى أكبر إذا قرَّر الالتصاق كلياً بروسيا!

السابق
افتتاحية «صاروخية» للدولار..على عتبة الـ47 الفاً مجدداً!
التالي
جدول نفطي ملتهب..اسعار المحروقات «على الدعسة» وراء الدولار!