العالم يتغيّر ولبنان «يتقهقر»

لبنان

يأمل اللّبنانيون في مطلع العام الجديد، أن يحمل لهم هذا العام، تحقيق الآمال التي يتطلّعون إليها. تختلف هذه الآمال بين مواطن وآخر. لكنّنا نجمع بدون شكّ، على تطلّعنا إلى عودة الكهرباء، والأموال المنهوبة. أمّا موضوع استعادة الإستقرار والسّلام وغير ذلك من المواضيع، فهي نسبيّة. نلتقي على العناوين. لكن، لكلّ منا مفهومه للإستقرار، وللسّلام، وكذلك للنّظام السّياسي، والقانوني، والإجتماعي، والبيئي، والأمني وغيرها. هذا بالنسبة إلينا نحن اللبنانيون، لكن، ما هي تطلّعات أصدقائنا في المنطقة والعالم، وتمنياتهم لنا؟

في المبدأ، نحن من يجب أن يقرّر ما نريده لأنفسنا. فنحن نتمتّع بحقّ تقرير المصير. وقد أثبتت الأحداث التي شهدها لبنان منذ نهاية الحرب العالميّة الأولى، وإعلان لبنان الكبير، أنّنا نتمتع بهذا الحقّ ونمارسه. ربما نكاد نكون الشّعب الوحيد في هذه المنطقة، الذي مارس عمليّا حقّ تقرير المصير. ولعلّ أبرز ما أنتجه هذا الحقّ، تمسّكنا بالنّظام اللّيبرالي الدّيمقراطي، والمفاهيم السّياسيّة الغربيّة في ممارسة الحقوق العامّة، والحرّيّات، وكذلك النّظم الإداريّة المكرّسة في قواعد قانونيّة فريدة، منذ عشرينيّات القرن الماضي.

أنا لا أخدعكم، ولا أخدع نفسي. فكما قال الراحل غسان تويني، يكفي حريّة في لبنان، أن تقول “أنا لست حرّا.” دعونا نسأل أنفسنا وبموضوعيّة: أي بلد آخر في هذه المنطقة، تمتّع شعبه بمثل حرياتنا؟ لقد بلغت بنا الحرّيّة في لبنان، أن نقاتل مع أشقاء وغرباء، ضدّ بعضنا البعض. وأن نحمل السّلاح ونستخدمه بين بيوتنا، وفقا لمفاهيمنا الخاصّة( الإيديولوجيّة أو غيرها). كان لنا حريّة أن نرفع شعار “السّلاح زينة الرّجال”. أن نشتم رجل الأمن، أن نغني في الشّوارع ضدّ جيشنا ونقول” واويّة في الصّرفند، وع طلّاب لبنان أسود”. كنّا نمشي بالمظاهرات ونصرخ لاعنين هذا الرئيس، وذلك الملك.

لم يحظ بلد آخر في المنطقة بالفرصة الذهبيّة التي حظي بها لبنان. أنا لا أخفي تقديري لدور فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتّحدة، رغم كل شيء، لأنّهم قدّموا لنا فرصة ذهبية للتحرّر، والتّحوّل إلى شريك في مسيرة الدّول الحضاريّة. لقد أدخلنا العالم بعد الحرب العالميّة الأولى، في نظام قانونيّ دوليّ جديد هو نظام الإنتداب. الإنتداب ليس احتلالا ولا استعمارا، بل هدفه ببساطة، مساعدة شعوبنا على إدارة نفسها بنفسها، لتصبح جزءا من الدّول الحضاريّة القائمة، ويمكنها بالتالي، أن تمارس قراراتها بنفسها بما يضمن استقرار آليّة السّلام الدّولي، التي رسمتها هذه الدّول. الإنتداب كان يعني أولا وقبل كل شيء، أن يتعاون شعب البلد المعني، وبنهم، لاكتساب خبرات البلدان الحضارية وتقنياتها وتمكين ذاته من ممارسة سيادته الوطنية. فهل فعلنا ذلك؟

لا شكّ أنّ فرنسا وبريطانيا، كان لهما مصالحهما من أجل قبول إدارة الإنتداب لبلداننا. لكن لا يجب أن نفهم هذا الغرض بجانبه السلبي فقط. كانوا يريدون طبعا، الإحتفاظ بثرواتنا، ورسموا تقسيم المنطقة وفقا لذلك. لكن، كانا ملزمين أيضا، باحترام ذلك النّظام القانونيّ الدّولي. بالنسبة لهم، الإنتداب مسؤوليّة ستطبع صورتهم كدّول عظمى في نظام العلاقات الدّوليّة. قد لا يهمهم آراءنا بشأن دورهم، لكنّه يهمهما آراء شعبيهما، وشعوب الدّول الحضاريّة.

أنظروا حولنا الآن. هم قوى عظمى، ونحن ما زلنا في القاع.
تبيّن الدّراسات التّاريخيّة، أنّ فرنسا وبريطانيا، مارسا دور الدّول الحضاريّة في إدارة شؤون الدّول الخاضعة للإنتداب، ولكن بفكر الدّول الإستعماريّة التي كانا جزءا أساسيّا منها خلال القرن التّاسع عشر، وسنوات القرن العشرين قبل الحرب العالميّة الأولى. ماذا يعني ذلك؟

هم قوى عظمى، ونحن ما زلنا في القاع

تعالوا نأخذ الإنتداب الفرنسي في لبنان وسوريا مثالا على كلامنا. تعاملت فرنسا مع الكيانين اللّبناني والسّوري وفقا لتكوينهما الجغرافي التّاريخي، وواقعهما السّياسي الدّاخلي، وليس الإقليمي. تعارض هذا التّوجّه، مع التّوجّه القومي العربي الذي بدأ يتبلور في حينه. من يراجع الأحداث في حينه، يدرك أنّ مفهوم القوميّة العربيّة التي نمت في حينه، إستمدّت جذورها من مفهوم الدّولة الإسلاميّة التي سيطرت على المنطقة منذ القرن السّابع ميلاديا.

عندما دخلت الجيوش الفرنسيّة إلى لبنان في تشرين الأوّل 1919، إستقبلها المسيحيون الموارنة استقبال المحرّرين. بينما لاقاها المسلمون كقوى احتلال

فالأمير فيصل هو إبن شريف مكّة الحسين، ألذي أعلن نفسه فور انهيار السّلطنة العثمانيّة، خليفة للمسلمين. القوميّة العربيّة قامت واستمرّت، رغم المظاهر المختلفة الظرفيّة، في بعض الدّول، على أساس الهويّة الدّينيّة الإسلاميّة. وحده دستور لبنان لا ينصّ على هويّة دينيّة للدّولة، بينما كلّ الدّول المجاورة ترفع هويّة دينيّة لها. تلك هي الفرصة الذهبيّة التي منحنا إياها نظام الإنتداب. فهل أحسنّا التفاعل معها؟

عندما دخلت الجيوش الفرنسيّة إلى لبنان في تشرين الأوّل 1919، إستقبلها المسيحيون الموارنة استقبال المحرّرين. بينما لاقاها المسلمون كقوى احتلال. تفاعل شعبنا مع الإنتداب الفرنسي بداية بواقعه السّياسي الإقطاعي الطائفي الدّاخلي. كانت فرنسا تدرك ذلك. وعليه تمتّعت بهذا الإنقسام الإقطاعي الطائفي لتركيز إقامتها في بلدنا. وكانت فرنسا تدرك أيضا، الواقع السّياسي الدّاخلي في سورية. لذلك عمدت إلى رسم سياستها في ذلك البلد على قاعدتين: الوحدة وفقا للنّظام اللّيبرالي الغربي الشّامل، أو الفدراليات وفقا للأجواء الطائفيّة فيها. لذلك، وضعت بعد معركة ميسلون، خريطة لتقسيم سورية إلى عدّة دويلات (ولايات): الدّويلة الدّرزيّة في جبل الدّروز وحوران، والدّويلة العلويّة، ودويلة حلب، إضافة إلى دويلة دمشق ولواء الإسكندرون. لعبت القوميّة العربيّة الإسلاميّة دورا مناهضا للدّولة اللّيبراليّة. كما لعب الدّروز وسلطان باشا الأطرش، كما يشهد التّاريخ، دورا محوريّا في إفشال مخطط الدّويلات.

واستفادت تركيّا من مواقف الحركة القومية الإسلامية، فصمت آذانها عن دعواتهم لها لمساعدتهم ضد الفرنسيين، ووقعت اتّفاقا مع فرنسا (إتّفاق أنقره) ضمت بموجبه الولايات الشّماليّة السّوريّة ثم لواء الإسكندرون.

لقد مارسنا فعلا حقّ تقرير مصيرنا. نحن اخترنا هذا النّظام. ونحن من تمسّك به.

أمّا في لبنان فقد ساعد تراجع الحماس القومي الإسلامي، إلى انخراط الرّموز الإسلاميّة في مشروع الدّولة الحديثة. نهضت الدّولة الحديثة في لبنان محافظة على ذلك العامل التّقسيمي بين اللّبنانيّين: العامل الإقطاعي الطائفي، حجّة لضمانة سلامة الأقلّيّات.

لقد مارسنا فعلا حقّ تقرير مصيرنا. نحن اخترنا هذا النّظام. ونحن من تمسّك به. نحن من أودى بوطننا إلى الحرب الأهليّة عام 1975، وإلى الجحيم والقعر. نحن من قضى على الفرصة الذهبيّة التي منحنا إياها نظام الإنتداب الدّولي بعد الحرب العالميّة الأولى. كان لنا الخيار كما في سورية: دولة ليبرالية وفقا للمفاهيم الغربيّة، بما في ذلك العلمنة وفصل الدّين عن الدّولة وإنهاء الإقطاع (كما حصل في اليابان)، كشرط للإنتقال إلى الحداثة. أو دولة عاجزة وفقا لواقع السّياسة الدّاخليّة. إخترنا نظاما هجينا يجمع اللّيبراليّة ويحفظ السمّ الزعاف لتدميره. تميّزنا ظاهريّا عن محيطنا، واستمرّينا واقعيّا جزءا منه.

مع نهاية الحرب الباردة حظينا بفرصة ذهبية جديدة. فكان اتّفاق الطائف الذي يصحح شوائب النظام السّابق، وينقل بنا عمليا إلى مرحلة الدولة الحضارية الحديثة

مع نهاية الحرب الباردة حظينا بفرصة ذهبية جديدة. فكان اتّفاق الطائف الذي يصحح شوائب النظام السّابق، وينقل بنا عمليا إلى مرحلة الدولة الحضارية الحديثة. هذه المرّة أنا لا أعتقد أن كذبة ضمانة الأقلّيّات ستستمر. لكن، من الواضح أن حرّيّتنا هذه المرّة مقيّدة، وحقّنا في تقرير المصير مقيد. لم تعد فرنسا مقيّدة بدور الدّولة المنتدبة. صارت تمارس بكلّ نظام خدمة مصالحها القومية سواء في بلدنا او غيره.

نحن الآن أمام محطّة مصيريّة. وأكثر ما أخشاه أن تدفعنا فرنسا من أجل خدمة مصالحها إلى الإنقلاب على الطائف، والعودة إلى فكرة التقسيم الطائفي. مشروع الدويلات الذي كان معدا في سوريا يمكن ان يستكمل في لبنان ايضا. فحذار.

لتكن أمنيتنا الأقوى هذا العام، هو إعادة إحياء اتفاق الطائف واستكمال أحكامه.

السابق
لحيازتها على المخدرات.. صدور الحكم على منة شلبي من اول جلسة!
التالي
«أم كلثوم» المعجزة الفنية في سماء العرب.. والعالم!